طريق الشعب –(خاص) لندن
مساء الثامن والعشرين من حزيران ٢٠١٩ دخلنا رحاب المقهى الثقافي العراقي في لندن وكان في مواجهتنا شيخ جليل غاب عن منابر العراق الثقافية وقاعات جامعاته منذ ما يقارب العقدين من الزمان ..انه الدكتور جميل نصيف التكريتي الناقد الأدبي والمفكر الذي نقل للعربية بيلينسكي ولوناتشارسكي وبيرتولد بريخت وبحث في التراجيديات الأغريقية وكتب عن المذاهب الأدبية وعن الريادة في المسرح العربي وفي النقد المقارن وهو الذي إضطلع بوضع المناهج الدراسية لكل ما تقدم من عناوين ، علاوة على تأسيسه لأسلوب علمي في نهج تدريس الأدب المسرحي وتأريخ المسرح والدراما بنوعيها المأساة والملهاة وكلاسيكيتها القديمة والحديثة وتوزعت مؤلفاته ومناهجه تلك على جامعات عراقية وعربية وعلى وجه أخص كليات الآداب واكاديميات ومعاهد الفنون المسرحية .
الإعلامية والروائية سلوى جراح أدارت الأمسية بإقتدار مشهود لها وفي البدء أشارت الى نعي المقهى الثقافي لشخصية ثقافية عراقية متميزة الكاتب والمترجم عبدالإله النعيمي وتلت كلمة المقهى اثناء وداعه في احدى مقابر لندن في نهار نفس يوم الأمسية وجاء فيها :" رحيله المفاجىء خسارة أخرى للثقافة العراقية ..خلفت الألم والحزن البالغين ، لا سيما إنه حضر قبل ثلاثة أشهر أمسية في آذار الماضي للمقهى الثقافي العراقي ، وكان أول من قدم مداخلته فيها . لقد كان عبد الإله مترجما بارعا وكاتبا مبدعا وإعلاميا بارزا ، وكان حيويا مبادرا محبوبا من كل زملائه الذين عملوا معه ".
والجدير بالذكر ان فقيدنا النعيمي كان من أعضاء أسرة صحيفتنا "طريق الشعب" في أول صدور علني لها عام ١٩٧٣ ومحررا في صفحتها في الشؤون العربية والدولية له الذكر الطيب على الدوام.
إستهلت السيدة جراح تقديمها للأمسية :" خطر على بالي فكرة حين قرأت مقالا طويلا كتبه أحد طلاب الدكتور جميل نصيف ،أننا حين نتحدث عن كتاب اوعمل أدبي أو فكرة علمية ، إستهوتنا في سنين الشباب ،نستذكر الأستاذ الذي علمنا حروفنا الأولى في هذا المجال رغم تراكم السنين ، تلك اللحظة النادرة ، لحظة تفتح العقل ، وإستيعاب فكرة جديدة ، فالدكتور ناظم عودة تلميذ أسبق للدكتور جميل نصيف ، كتب يصف علاقته بالأستاذ الذي لعب دورا أساسيا في هذه اللحظة البهية في حياتنا ..يقول: الدكتور جميل يتحدث بجرأة شديدة عن الصراع الثوري الذي دار في حقبة ذهبية للثقافة الروسية حول مفاهيم التقدم والتحديث والثورة والواقعية النقدية وكيف مارست نقدا قاسيا للسلطة الإستبدادية وأنظمة العبودية في المجتمع الروسي ، يتحدث عن كل ذلك في مرحلة النظام السياسي الأستبدادي في العراق في الثمانينيات".
ثم عرّفت بالدكتور جميل نصيف جاسم وذكرت انه ولد في مدينة تكريت ويدخل هذا العام التسعين من عمره وتخرج في دار المعلمين العالية وحصل على شهادة البكالوريوس في اللغة العربية وآدابها بمرتبة الشرف ومارس التدريس في المدارس الثانوية بعدها حصل على بعثة وزارة المعارف الى الاتحاد السوفيتي والتحق بقسم الأدب الروسي الكلاسيكي بجامعة موسكو وبعد ست سنوات حصل على الدكتوراه وعاد الى بغداد ودرّس في كلية الفنون الجميلة قسم الفنون المسرحية ثم أعيد تنسيبه الى قسم اللغة العربية في كلية الآداب لتدريس الأدب والنقد .
وأشارت سلوى جراح ان ضيف الأمسية قال لها :" ان عنوان أمسية اليوم (الأدب ومفاهيمه والمناهج التدريسية له في الجامعات العربية ) وان المقصود بذلك انه سيتحدث عن نشوء وبداية الدراسات الأدبية في تلك الجامعات ".
ابتدأ د.جميل حديثه بأن مهمته هذا المساء ساوره القلق بشأنها بسبب انقطاعه الطويل منذ مطلع هذا القرن تقريبا ، وذلك بعد ابتعاده عن الجو الأكاديمي الذي كان بالنسبة له كما وصفه :" الهواء الذي أتنفسه يوميا". أشار الى انه لا يتناول الأدب كنتاج لغوي فقط وانما يعنيه عكس الأدب لحركة التاريخ في مجتمع من المجتمعات وأكد على إن :" هذه نقطة جوهرية في تكويني ،فإنتمائي الى قسم اللغة العربية ،في مطلع الخمسينات إتضح لي ان منهج التدريس ليس فيه ما يشبع حاجة المتطلع لتوظيف الأدب ، توظيف حقيقي ومثمر ". ثم عقب على ذلك بأن مفهوم الأدب غريب على الذهنية العربية ففي القديم الهيمنة كانت للشعر وقال انه :" في العصر الحديث حاول الجيل الأول أمثال الدكتور طه حسين والرعيل الذي عاصره ،أن ينظّروا للأدب وأن يتحدثوا عن الأدب، لكن حتى في تعريفهم للأدب كان غرضهم هو التأكيد على الجانب اللغوي فذهبوا يمينا وشمالا في البحث عن أصل كلمة (أدب) من المأدبة او من أدبني ربي فأحسن تأديبي ، لكن ليس هنالك مساس لما هو جوهري في الأدب ، فأقول على سبيل المثال ان طه حسين حاول ان يجدد ، لكن بالنسبة لمن هذا التجديد؟ بالنسبة للأزهر أم للزيتونة وأمثالهما من المعاهد التي ورثناها عن عصور التخلف بعد سقوط بغداد ، بل حتى قبله ". وأضاف الى ان طه حسين قد قسم الأدب الى وصفي وإنشائي ، الأول هو تاريخ الأدب والنقد الأدبي والثاني هو شعر وقصة ودراما ".
اكد الدكتور التكريتي على ان مناهج الأدب في الجامعات كانت حصة الشعر فيها هي المهيمنة وذكر انه خلال اربع سنوات هي فترة دراسته في خمسينيات القرن الماضي في دار المعلمين العالية لم يكن شيء اسمه قصة ولا شيء اسمه دراما ويصح هذا أيضا على الأدب المقارن والمذاهب الأدبية وعلم الجمال .. ووقتها كانت المحاضرات تنصب على علم البلاغة وكانوا يتناولون تراجم الشعراء أقرب منها الى تحليل شعرهم وشاعريتهم .. لكنه اكد انه اثناء دراسته في الاتحاد السوفيتي : " وبفضل ارتباطي بناقد كبير هو بلينسكي وهو من نقاد الادب في النصف الأول من القرن التاسع عشر ، اذ كان موسوعيا ، وكان يتناول الظواهر الأدبية عبر عصور للعالم المتحضر ، يبدأ باليونان وينتهي بزمانه " وقال الدكتور جميل انه اكتشف من خلال اعمال هذا الناقد أهمية ربط الحركة الأدبية بحركة التاريخ ومساهمة الأدب بعمليات التغيير وخضوع الأدب بما يجري من تغيير على الحياة الأجتماعية ولذلك كانت هناك حلقات في الأدب ، مثلما كانت هناك مدارس وأضاف إن :" الادب عمل ابداعي ، لكن ليس هو العمل الإبداعي الوحيد ،فقد وجدت ضالتي عند أرسطو الذي يقول : ان المحاكاة طبيعة أصيلة عند الإنسان ، فمن طبعه أن يحاكي وقال بأن المحاكاة على أنواع ، ليست نوعا واحدا ، تختلف بحسب مادة كل فن من الفنون ومادة الأدب: اللغة، ومادة اللون والخط :الرسم ،ومادة الحركة الإيقاعية :الرقص، وتشكيل الحجارة: النحت ،ثم إنتقل من هذا الى الأدب فبدأ يفصّل ..بدأ بالمأساة وهي أدب لأنها تعتمد اللغة أداة للتعبير لكن مضمون المأساة محاكاة العمل الجريء، تصوير الناس الأفاضل ،وتصورهم أفضل مما هم عليه في الحياة ..والملهاة أدب أيضا وسيلتها اللغة لكنها تحاكي الأدنياء ، طبعا كلمة الأدنياء مثيرة للخلاف ، فتناول أرسطو لها ليس بالمعنى الأخلاقي وإنما بمعنى اذا كانت شخصيات المآسي من الشخصيات التأريخية الموروثة التي هي أقرب الى الشخصيات الأسطورية أو أنصاف آلهة فالملهاة تتعامل مع الناس العاديين وتصورهم أدنى مما هم عليه ، فمهمة المأساة تصور الناس الفضلاء وأفضل مما هم والملهاة تصور الأدنياء وأدنى مما هم عليه في الحياة ..ثم تحدث عن الزمن التأريخي للأدب قال: قبل المأساة والملهاة كانت هناك ملاحم والملاحم أيضا أدب لانها تعتمد اللغة وتصور الأعمال المجيدة فهي أقرب من هذه الناحية الى المأساة ، لكنه تحدث عن أمر آخر .. عن الأسلوب ، أسلوب الملهاة والمأساة واحد لأنها تصور الصراع بين الناس أما الملحمة تصور الأفعال المجيدة عن طريق السرد ، يعني كأن الأديب يصف الوقائع ..وتحدث أيضا قائلا ان هناك شعر يختص بتمجيد الآلهة والإبتهال لها ، فهي أقرب الى تعبيرها عن وجدان الشاعر وهو يتعامل مع موضوعه وهنا يتحدث الشاعر عن مكنونات نفسه ". واستخلص الدكتور جميل نصيف ان أرسطو قال ان الأدب أداته اللغة فقط لكنه أهتم بالصياغة وبالمضامين وأكد انه في العصر القديم الهيمنة كانت للملحمة وفي عصر لاحق شاع شعر (الديسرومبوس) الذي ركز على تمجيد الآلهة وفي عصر تبعه ظهرت الدراما وقال ان ارسطو قال بالحرف الواحد بأن المأساة والملهاة أسمى من النوعين الأدبين السابقين الملحمة والشعر الديسرومبوس .. وأشار د. التكريتي ان أرسطو ، بهذه الطريقة ربط ربطا محكما حركة الأدب بحركة التاريخ .
قال الدكتور جميل انه كان يعّرف الأدب بمحاضراته بأنه خلق عوالم متوهمة بواسطة اللغة.. ويبدأ مع طلابه بان إنسانية الانسان بدأت عندما بدأ يتدخل بالطبيعة ويمارس الفنون تباعا وحسب سياقاتها التاريخية ومن اجل تقريب فهم الادب فهما حقيقيا قال انه يأخذ مراحل الأدب العالمي بحسب المراحل التاريخية . ففي موضوع المذاهب الأدبية كان يربطها بظهور الدولة القومية في اوربا ثم انفصالها عن الكنيسة .. حيث كانت الكلاسيكية القديمة مثلا تصرح انها تسترشد او تهتدي بالادب الأغريقي .. لكن كلاسيكية القرن السابع عشر كانت تعبر عن عصرها وأعتبرها المحاضر انها الفترة النموذجية وخاصة النصف الثاني من ذلك القرن .. حيث بدأ نفس التاريخ الجديد يدخل الى الأدب اذ حدثت تحولات اجتماعية وظهرت ملامح النزعة الجديدة التي اطلق عليها النزعة التنويرية وسيادة البرجوازية فكان ظهور الادب الجديد الذي مثل القوى الجديدة نظرا لتأثيرها الاقتصادي وبدأ هذا في القرن الثامن عشر وظهر تيار جديد هو الرومانتيكية التي عبرت عن ذات الانسان ودوره في المجتمع .. وأعطى المحاضر امثلة على ادباء الكلاسيكية الجديدة أمثال موليير في الملهاة وراسين وكورنييه في المأساة .. وأشار الى ان الرومانتيكية مهدت للثورة الفرنسية ثم تطرق الى بداية ظهور التيار الواقعي بعد الثورة ومن عمالقته فلوبير الفرنسي وديكنز الانكليزي وسرعان ما لحق بهم الادب الروسي ممثلا ببوشكين وغوغول ودستويفسكي وغيرهم.. وهنا ازدهر النقد بمعناه القديم وانبثاق علم المذاهب وعلم الجمال وفي بدايات القرن العشرين ظهور الادب المقارن الذي قضى على العزلة بين المجتمعات والدول ولم تعد التأثيرات على الاديب محلية فقط وانما عالمية وطبعا كان لظهور المطبعة قبل ذاك التأثير الكبير .. وأتى المحاضر ايضا على أنواع الأدب المقارن ونزعته العالمية لكنه ظل قائما على ضرورات النزعة القومية حيث اصبح من مهماته الشخصية القومية للأدب مع وجود تأثيرات عالمية وذكر انه بعد ظهور النظام الاشتراكي ظهرت الواقعية الاشتراكية التي تؤكد على الجانب الاجتماعي اكثر من المدرستين الفرنسية والأمريكية في الادب المقارن .. اما بالنسبة للوطن العربي فقد ذكر د. جميل انه :" معروف بحساسيته ، ربما بحكم وقوع معظم أجزاء الوطن العربي تحت الهيمنة الاستعمارية ، كانت هناك عقبات أمام أستاذ الأدب الداعي الى تبني هذه المدارس حتى ان البعض من المتزمتين من دعاة العزلة ربطوا بين الدعوة الى الادب المقارن والتبشير الى الأهداف الاستعمارية للدول الأخرى ".
وعن رأيه بالأدب المقارن والذي ثبته في مؤلفاته قال الدكتور نصيف انه كان مهتما بعكس آراء رواد الأدب المقارن ودعوتهم للتفاعل بين الآداب .
وسرد الدكتور الضيف نماذج من كتاباته التي تناول فيها ملاحظاته وآراءه في النتاج الأدبي العربي .. ودراسته للآداب الأجنبية وتعمقه في الأدب الروسي على وجه الخصوص..وقد أثارت المحاضرة العديد من الاستفسارات والمداخلات من الحضور لا سيما كان بينهم العديد من تلاميذ د.جميل نصيف من بينهم طلاب الفنون المسرحية في اكاديمية الفنون الجميلة او من طلاب كلية الآداب .
كانت حقا أمسية غنية لا تدعي تغطيتنا الصحفية هذه انها جاءت على جميع محاورها اذ كان المحاضر يضيف في كل دقيقة معلومة جديدة .. ان سعي المقهى الثقافي العراقي في لندن لإستضافة قامة نقدية ومربي كبير مثل د.جميل نصيف واقناعه حيث اكد هو نفسه انه كان مترددا بالموافقة ، لعمل مشكور تمثل في الاحتفاء بأستاذ جليل كان حيويا على مدى ساعتين متواصلة ، رغم سني عمره التسعين متمنين له العمر المديد والعطاء الدائم .