في دراسات سابقة لي وضعت في مقدماتها عبارة باختين التي يقول فيها: "وآدم فقط هو الوحيد الذي كان يستطيع ان يتجنب عادة التوجيه المتبادلة هذه فيما يخص خطاب الآخر الذي يقع في الطريق الى موضوعه ، لان آدم كان يقارب عالما يتسم بالعذرية ولم يكن قد تُكُلّم فيه وانتُهك بوساطة الخطاب الاول". هذه العبارة ارى فيها خطأ تاريخيا لان آدم، الاب الاول لجميع البشر في اعتقاد الاديان الابراهيمية، وكما جاء في القرآن انه قد كلم ربه، وتعلم منه الاسماء كلها: "وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ". وهذا يعني انه لم يكن المتكلم الاول، أو السامع الاول، بل هناك متكلم اخر هو "الله" إذ تكلم معه مباشرة أو بواسطة جبرائيل كما تقول بعض التفاسير، والثالث بعد الله والملائكة، وكان الرابع بعد الله والملائكة وابليس.
إذن، لم يكن آدم قد تجنب عادة التوجيه المتبادلة فيما يخص خطاب الآخر، ولم يكن العالم يتسم بالعذرية وقت تكلم آدم، بل قد انتهك قبل ذلك بخطاب الاسماء، وكذلك بحوار الله والملائكة وابليس، وقد سمع كل حديث الحوار، وربما شارك فيه.
اذكر هذه المعلومة لأصحح ما وقعت فيه من خطأ في معلوماتي، ولا أحسب أنني بعيد عن الوقوع في الاخطاء طالما لي فكر و قلم يدون ما أفكر به، ولم أتجنب عادة التوجيه المتبادلة فيما يخص خطاب الاخر مثل آدم كما اعتقد ذلك باختين.
ان هذه المعلومة ترد في سطوري هذه التي تقوم على دراسة "التناص" في المجموعة الشعرية "مجازاً احاول إغراء اللحظة" للشاعر محمد الحافظ.
***
من مميزات قصائد هذه المجموعة:
-
ايقاع موسيقاها العالي جدا الظاهر للسمع وهو ما تمتاز به تجربة الشاعر محمد الحافظ في كتابة القصيدة:
*"
تلك المرأة ...،
التي دخنتها ذات يوم
سيجارة فرح في ليل مخمور
لطالما أردت بك أن تتجولي
في بساتين مراهقتي".
-
وكذلك تمتاز قصيدته بأنها قطعة بوح خاصة للاخر الذي يتسم بالانوثة:
*"
لكِ أن تقذفي بي
بين تنهداتِ
أمواجك الثائرةِ
ولتطلقي العنانَ لانفعالاتِكِ
المتضورةَ حبّا
أفقي لا يسع لأكثرِ
من شرارةٍ
ربما يتفتق غليانك
عن ملامحِ أنثى
تزدحمُ فيها رياضُ الآس
وأزهارُ خريفي
علّك تقتحمين خجلَكِ
وترمين طلاسمي
بجرأةِ شفتيك".

- وتمتاز كذلك بكثرة الانزياحات التي تبعد لغة الشاعر من النثرية التقريرية التي تقع فيها قصيدة النثر التي يكتبها بعض الشعراء في هذه الايام، وهذا ما يجعل قصيدة الحافظ خارجة عن المألوف الشعري العام.
ولنأخذ مفردة "رعاف" وما اصابها من انزياح في المعنى إذ جاءت ثلاث مرات في قصائد ثلاثة:
-
المرة الاولى:
*"
لا مدن مقدسة
إلا برعافِ خطاياها
على موائدِ الاحتضار
أبعدي خطواتكِ
عن حظائري
وانتشري...".

- المرة الثانية:
*"
وسأمرر
رعاف سنينك الأليمة
يا لك من شقية ....،".
-
المرة الثالثة:
*"
ارم بي ...،
في رعاف حاضرتك
وتجاهلني ،
علني أتمكن
من التعثر بمفردة منها".
رعاف بمعنى:
رَعَف الشيءُ: سال وسبَقَ
رَعَفَ الوَلَدُ: خَرَجَ الدَّمُ مِنْ أَنْفِهِ
رَعَفَ بِهِ صاحِبُهُ: قَدَّمَهُ
رَعَفَ بِهِ البابُ: دَخَلَ مِنْهُ فَجْأَةً
رَعَفَ السَّائِرَ: سَبَقَهُ ، تَقَدَّمَهُ
رَعَفَ عَلَيْهِ غَضَباً: اِشْتَدَّ غَضَبُهُ.
ينزاح "الرعاف" من معنى مادي الى المعنى المادي المغاير لمعناه القاموسي، أي يشكل ما نسميه بالانزياح الدلالي. إذ جاء الرعاف ثلاث مرات في محل الاستعارة المكنية.
-
والميزة الثالثة هي تقسيم العنوان الى قسمين يفصل بينهما مجموعة نقاط ، يحمل النصف الاول عبارة تنتمي الى قائلها فيما يحمل القسم الثاني عبارة تختلف عن الاولى. مثل:
*
أنا أشبهك..! لعلك تشبهيني أيضاً.
*
وريثك أنا... كلا أنت وريثي.
*
جريرة الأمس.. أنثى خمرتي.
او انه يحمل عبارة مكملة للأولى الا ان الشاعر قد تأنى في قول العبارة بأجمعها، مثل:
*
هي الأخرى... تتبنى انقراضي.
*
الأحوط ... أن أعيد تفاصيل أسئلتي.
*
خذ التطفل .. ريثما أتمّ اعداداتي.
*
احبك.. أيها المتجذر في عذوبتي.
-
وايضا تمتاز قصائد المجموعة بالتناص.

***
والتناص: هو آلية ومقترب نقدي لفحص النصوص ودراستها لمعرفة مراجعها الاولية المخفية والمعلنة، لان كل نص يبنى على نصوص قد سبقته او جايلته في الانشاء، إن كانت هذه النصوص هي نصوص الغير او نصوص الكاتب السابقة.
وفي المأثور الديني، وكلنا نعيش في مجتمع شبه متدين، ومهما كانت الديانة التي ينتمي اليها افراد المجتمع، تعلمنا او سمعنا بالوصايا العشر في التراث اليهودي والمسيحي ولم نسمع بها في التراث الاسلامي مع العلم توجد مثل هذه الوصايا في القرآن او الفكر الاسلامي.
الوصايا العشر في الدين اليهودي منذ موسى الى الآن وقد نقضتها بروتوكولات صهيون في نهاية القرن التاسع عشر عندما وضعت، واهمها قضية القتل، حيث جاءت هذه الوصايا موزعة بين ثلاث جهات، هي:
-
وصايا تجاه الله، اربع وصايا.
-
وصايا تجاه الاهل والاقرباء، وصية واحدة.
-
وصايا تجاه الاخر او المجتمع، خمسة وصايا.
وهي:
الوصية الاولى: لاَ يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي.
الوصية الثانية: لاَ تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالًا مَنْحُوتًا، وَلاَ صُورَةً مَا مِمَّا فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ، وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ تَحْتُ، وَمَا فِي الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ الأَرْضِ. لاَ تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلاَ تَعْبُدْهُنَّ.
الوصية الثالثة: لا تحلف باسم الهك باطلا.
الوصية الرابعة: اُذْكُرْ يَوْمَ السَّبْتِ لِتُقَدِّسَهُ.
الوصية الخامسة: أكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ لِكَيْ تَطُولَ أَيَّامُكَ عَلَى الأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ..
الوصية السادسة: لا تقتل.
الوصية السابعة: لا تزن.
الوصية الثامنة: لا تسرق.
الوصية التاسعة: لا تشهد شهادة زور.
الوصية العاشرة: لاَ تَشْتَهِ بَيْتَ قَرِيبِكَ. لاَ تَشْتَهِ امْرَأَةَ قَرِيبِكَ، وَلاَ عَبْدَهُ، وَلاَ أَمَتَهُ، وَلاَ ثَوْرَهُ، وَلاَ حِمَارَهُ، وَلاَ شَيْئًا مِمَّا لِقَرِيبِكَ.
اما في الديانة المسيحية فقد اجاب المسيح سائله عن "أي عمل صالح أعمل لأرث الحياة الأبدية؟" فقال: "احفظ الوصايا" كما في إنجيل متى، وفي القرآن قد تضمنتها ثلاث آيات من سورة الأنعام، وأيضاً في آيات من سورة الإسراء.
وقد وضع الفيلسوف الانكليزي برتلاند رسل لطلابه وصايا سماها "الوصايا الليبرالية العشرة – رؤية في مسؤوليات المُعلّم"، وارى انه اختار هذه التسمية تيمناً "تناصاً" بالوصايا العشر اليهودية، وهي وصايا تدعو الى الليبرالية في التعليم.
في قصيدة الشاعر الحافظ "وصايا عشر من وصايا الموت"، يأخذ الموت اشكالا متعددة ومتنوعة لأسباب عديدة ومتنوعة ايضاً "تعددت الاسباب والموت واحد"، وقد جاء الموت في الوصايا العشر اليهودية مرة واحدة ولنوع واحد في الوصايا المعدة تجاه الآخر، أو المجتمع، وهو القتل الذي لم تذكر أسبابه.
إذن وصايا القصيدة هي تنوعات مختلفة للموت الذي يجلبه القتل في الوصية السادسة، ولنقترب اكثر من القصيدة لنتعرف على هذه الوصايا التي وردت فيها.
الشاعر الذي هو نبي زمانه "هو الذي رأى كل شيء" يجمع بين المعلم والفيلسوف الذي يرى ما لم يره الغير، و وصاياه هي:
-
الوصية الاولى: "حذاري ان تسلب الفقراء ضحكاتهم".
-
الوصية الثانية: "لا تمشي مختالا فخورا، فرائحة الدم أقوى، من الرصاص".
-
الوصية الثالثة: "لا تغرنك سطوتك".
-
الوصية الرابعة: "لا تكن مزهوا هكذا، وانت من غير قدمين".
-
الوصية الخامسة: "اصابعك مجبولة، بغبار الغربة،...، دعها تغتسل بعرق الشارع، ودموع الارصفة".
-
الوصية السادسة: "أهي الالفية الثالثة، ام هو عصر ما قبل التاريخ،...، ابليس سيغادر وطني، فلا حاجة للوصية هنا".
-
الوصية السابعة: "يتكورون على رغيف خبز، هؤلاء هم ابناء الله، من تحت اقدامهم، يكتب التاريخ".
-
الوصية الثامنة: "ارفعوا ايديكم عنه، هذا وطن ارخته الحروب".
-
الوصية التاسعة: "اصواتهم مبحوحة بالعناء، ينتظرون الغيث على حافة عمر،...، فما فائدة الطعن بالقتيل".
-
الوصية العاشرة: "كلكم قتلة، وكلكم مجرمون، "لا استثني منكم احداً"، هذا ما قاله الموت، في وصيته العاشرة، فلا توبة بعد اليوم".
لا نريد ان نناقش الشاعر في وصاياه هذه لان الدراسة ليس من مهمتها وهي تدرس التناص ان تتطرق الى هذه القضية، أي ان تناقش الشاعر في قصيدته وتضع تفسيراً لها، إذ ان التفسير يذهب بالقصيدة الى افاق ربما لا يستطيع الدارس السيطرة عليها، والتأويل يفرض نوعاً واحداً من الدلالات والمعاني التي تنسجها القصيدة لو اسيء استخدامه.
وقد استخدم التناص مرة ثانية في المجموعة الشعرية للشاعر الحافظ في قصيدة "كيف لعصاك ان تولد نبياً".
هذه القصيدة بحث في الوجود الانساني بعد ان تضيق الدنيا بالشاعر الذي هو الشخصية المركزية في القصيدة. فهو يقول:
*"
ربما في يوم ما
ستلملم اشتاتك وقتاً
وتعلن الوصول
لمحطة لم تدها بعد".
القصيدة هذه تتناص مع قصة موسى النبي في القرآن، إذ قال القرآن: "وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى * قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى * قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى". ولكنها تختلف عنها في استخدام النبي والعصا.
في القصيدة يتناص الشعر مع عصا موسى هذه، إذ بدلا من ان تكون العصا تابعة لموسى النبي يصيرها الشاعر هي الاصل ومن بعدها يكون النبي تابعاً لها.
يتساءل الشاعر في هذه القصيدة عما اذا كانت العصا تولد نبياً؟ أي ان تولد المعجزة كما كانت في تحولها الى حية تسعى وهي تلقف حيات الكهنة "وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى".
الشاعر يحلم في ان تكون هذه العصا تولد نبياً، واحلام الشعراء متحققة فعلا، في الواقع او في عالم الشعر الواسع، والخصب، لأنه يولد من رحم ذائقة ابداعية لا نظير لها في تحقيق احلام الشعراء.
ان تناص الشاعر الديني، فضلا عن انه يكشف ثقافة الشاعر الدينية، هو اسلوب سلكته قصائد الكثير من الشعراء ويأتي كرد فعل على استخدام الاساطير الاجنبية التي استخدما شعراء جيل الخمسينيات والستينيات والسبعينيات خاصة، إذ غرقت فيها قصائد تلك الفترات.
وايضا قد منح هذا التناص قصيدة الحافظ الروح الشعري، مضافاً لما منحته لغتها وصورها وايقاعها الداخلي من شعرية بينة وواضحة للسامع والقارئ.

عرض مقالات: