من المعروف أن مفهوم "العالم السفلي" مشترك بين الكثير من الثقافات والحضارات والميثيولوجيات العالمية القديمة منها، وفي بلاد ما بين النهرين وبلاد الإغريق وفي الميثيولوجيا المصرية والأفريقية والشامانية. والفكرة العامة في الميثيولوجيا الإغريقية إن الآلهة الثلاثة، الأشقاء، زيوس وبوسيدون وهيديز، قد تقاسموا العالم فأصبح زيوس مسؤولا عن السموات heavens أو العالم العلويupper world، بينما اخذت شقيقتهم بوسيدون عالم البحار واستلم هيديز Hades مسؤولية العالم السفلي lower word أو under world ، وهو عالم تخييلي يقع تحت الأرض ويمثل الجحيم hell ،حيث يذهب الموتى بعد موتهم إلى هذا العالم ليواجهوا مصائر مختلفة ، منها العقاب والتعذيب. وهناك روايات مختلفة عن كيفية نزول الموتى إلى العالم السفلي منها أن الإله هرمس هو الذي يقود الموتى إلى هذا العالم. ولعبور أحد أنهار العالم السفلي، يطلب من الميت أن يحمل قطعة نقدية معدنية يضعها تحت اللسان أجرةً يسلمها إلى البلام (شارون) الذي يقله عبر النهر إلى مملكة الموتى، وأحيانا يجوز أن يحمل الميت غصناً ذهبياً مقطوع من شجرة ليسمح له بالعبور.
وهناك قصص كثيرة عن محاولات الهبوط الى العالم السفلي منها قصة هبوط الشاعر والموسيقي أورفيوس لاسترجاع زوجته الجميلة يوربيدس التي ماتت بعد أن لسعتها أفعى سامة. وفِي الميثيويوجيا الرافدينية هبوط عشتار لاسترداد تموز من عالم الموتى وغيرها كثير، وكلها تشير الى سلطة حاكم العالم السفلي هيديز المطلقة على الأحياء والأموات معا. وفِي الغالب، يتلّقى الموتى صنوفاً مرعبة من العذاب والعقاب ويقتاتون على التراب والطين فقط. ومن الواضح أن الروائي محمد غازي الاخرس قد صنع "عالمه السفلي" كنايةً عن عالم البطش والقتل والعنف الذي خلقه النظام الشمولي السابق ممثلاً بالمعسكر الأمريكي المقام في طريق مطار بغداد، والذي يشرف عليه الجنرال كوكز، بتكليف خاص من الدكتاتور الذي يقود البلاد. ونجد تشابهاً كبيراً بين هيديز حارس العالم السفلي في الميثيولوجيا الإغريقية والجنرال كوكز. فكلاهما يرتديان خوذة ويمتلكان سلطات مطلقة على عالميهما. كما ان القارئ عند هبوطه الى العالم السفلي طلب منه الجنرال كوكز شرطاً للدخول يتمثل في تقديم عين أحد الموتى لحارس العالم السفلي، وفعل ذلك تماماً، بعد أن قدم للميت معطفه مقابل عينه التي قدمها للحارس. كما وجدنا أن الموتى في عالم المعاطف الرئاسية أيضا يقتاتون على التراب، وغير ذلك كثير.
يمكن القول أن الروائي قد اكتشف المعادل الموضوعي والرمزي المقابل لنظام العسف والاضطهاد والقمع الذي أنتجه النظام الدكتاتوري، لكن العالم السفلي في الرواية ينطوي على مشروع خطير باركه الدكتاتور القائد شخصياً واشرف عليه عدد من الخبراء ومنهم شاعرة تكنّى بـ"الخاتون" نكتشف أن اسمها هو علياء مطر وهي شاعرة وتحمل دكتوراه في العلوم البيولوجية والنفسية وتتابع مشروعاً للبحث عن العناصر الجينية (الجينوم) للشجاعة، لغرسها لدى المقاتل العراقي وللتخلص نهائياً من جينوم الخوف والجبن. وهو المشروع الذي يشرف عليه الجنرال كوكز شخصياً. وهذا المشروع ليس مجرد تخييل فنطازي بل ينهض على تجارب علمية وعنصرية عديدة استخدمتها الكثير من الدول، ومنها النازية للبحث عن نقاوة العنصر الآري.
ونظرية "الخاتون" في الرواية تفيد من كشوفات عالم النفس النمساوي الفريد أدلر الذي أجرى أبحاثاً مختبرية عن مقومات الشجاعة والخوف والجبن. وتكشف المراحل المختبرية لمشروع الخاتون عن درجة القمع التي استخدمت لاستخلاص النتائج المطلوبة من خلال قطع رؤوس الموتى لتحليل عناصرها الجينية وتقسيمها الى ثنائية الشجاعة / الجبن، كما إن معظم الباحثين الذين يشرفون على المشروع كانوا يتعرضون بين فترة وأخرى إلى التصفيات الجسدية منعاً لتسرب أسرار المشروع إلى الآخرين. ونكتشف لاحقاً أنّ سر المعادلة الذي يبحث عنه الجنرال كوكز مخبأ داخل ديوان "الخاتون"، وأنها قد خبأته داخل خزانة تحت سرير والد كوكز (أو والد القارئ)، وإن على القارئ أن يعثر على الديوان ، ويقوم بقراءة تأويلية لمعرفة كلمة السر (الباسوورد) للوصول إلى المعادلة. ونجد أن كلمة "تأويل" ترد في العديد من المواقع داخل الرواية، وربما هي التي حفزتنا على تقديم هذه القراءة التأويلية الافتراضية لبنية الرواية وأسرارها وأنساقها السردية المعقدة وعوالم المتاهة التي يجد الناقد نفسه ضائعاً فيها.
إذ نجد الجنرال كوكز، وهو يخاطب الرئيس مؤكداً على ضرورة الركون إلى التأويل "التأويل، يا سيادة الرئيس، هو الذي يوصلنا إلى المعادلة، ولا معادلة دون العثور على التأويل" (ص225) كما نجد القارئ الذي تحوّل إلى كاتب بقرار من الجنرال كوكز، يقف حائراً أمام طلب الجنرال كوكز بأن يكتب التأويل:
" ظهرك سينكسر من ثقل المجلد الذي بيدك، ومع ذلك لن تستطيع القراءة، عليك أن تكتب.
ـ أكتب ماذا؟
ـ التأويل.." (ص 119)
بل إن الموتى داخل العالم السفلي، توسلوا بالقارئ أن يساعدهم في الحصول على ديوان الخاتون وتأويل القصائد:
" ـ أنت أيها القارئ، لماذا لا تساعدنا؟
ـ ماذا علي أن أفعل لأساعدكم؟
ـ أعثر على ديوان الخاتون الذي خبأت فيه المعادلة، أعد تأويل القصائد" (ص101)
كما أن كوكز كان يضع القارئ أكثر من مرة أمام مسؤولية القيام بعملية التأويل، "إنها مهمة لا يقوم بها سوى القرّاء الأبطال والكتاب الأبطال، ومن ثم "المؤولون الأبطال" (ص7) إذ "قال الجنرال كوكز أن المعادلة موجودة في المعسكر وأن الخاتون قد بعثرتها في ديوانها الشعري، ووضع على كاهل القارئ مهمة العثور على سر المعادلة:
" ـ نستطيع العثور عليها معاً، صدقني يا أخي القارئ الممتاز، نستطيع" (ص 40) كما نجد أن الكاتب الذي استجاب لنداء مدير مدرسته الأستاذ عواد هو الآخر يشعر بالحاجة إلى اعتماد التأويل من خلال قراءة رسائل الأستاذ عواد إذ خيّل للكاتب أنه بحاجة إلى باسوورد، الصندوق الأسود، الخاص بالأستاذ عوّاد، ذلك أنه كتاب تأويلات لا تنفد:
" أنا لم أتعرف إلا على صورة واحدة من صور استاذ عواد، إنه كتاب تأويلات لا تنفد.. (ص 203) ولمعرفة الشفرة التأويلية لمديره الأستاذ عواد، وقد أصبح مجرد جثة هامدة، شعر الكاتب أنه بحاجة إلى التأويل:
"ليس ثمة غير طريق واحد مفتوح: اسمه التأويل، قراءة الرسائل وتخيّل ما وراءها، ثم الاطلاع على الفيديوات وتأويل دلالتها النفسية، لشخصية كشخصية الأستاذ عواد.." ( 213 ـ 214 )
وعلى الرغم من كل هذه التأكيدات على ضرورة الاتكاء على التأويل ، لكشف "باسوورد" المعادلة المطلوبة، وعلى الرغم من أن الهدف من اختطاف القارئ من قبل الجنرال كوكز، كان يقصد به قيام القارئ بمثل هذا التأويل، إلا أن الرواية لم تكشف عن قيام القارئ بمثل هذا الدور، أو محاولته استنطاق ديوان "الخاتون" تأويلياً. وكل ما وجدناه عثور الجنرال كوكز على الديوان، الذي كان مدفوناً داخل خزانة تحت سرير الأب الميت، واحتفاظه به ( ص213) ، دونما طلب لاحق من الجنرال كوكز بقراءته تأويلياً. ومن غير الواضح للقارئ فيما إذا كان الجنرال قد توصل إلى المعادلة أم لا، إذ بقي الأمر معلقاً، ربما للإشارة من قبل المؤلف إلى عبثية مثل هذا العمل ولا واقعيته، والسخرية منه في ضوء معطيات "الكوميديا السوداء". ومن الجانب الآخر، لاحظنا أن الديوان نفسه لا يحمل أي شفرة تأويلية تحيل بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى سر المعادلة المقصودة، اللهم إلا إذا كانت موضوعة ضمن "حساب الجمّل" في اللغة العربية، أو "حساب التواريخ" في الشعر العمودي، لكننا وجدنا في المقطع الأول المنشور من الديوان إشارة غير مباشرة إلى عنوان الرواية. ففي حوارية بين امرأة ربما هي الشاعرة أو حبيبتها (ربما هو عزرائيل) نقرأ: "حين ابتسم خرج من فمه جيش صغير من الجنود المهزومين. كانوا ينوحون بطريقة لم أعهدها، يلبسون معاطف رئاسية ملونة، عليها نياشين" (ص15) وهذه الإشارة تقودنا إلى التأمل في دلالة العنوان بوصفه عتبة نصية دالة على ما يرى الناقد جيرار جينيت. فمن المعروف تاريخياً أن ارتداء المعاطف الجلدية الطويلة التي كانت تصنعها شركة الجلود العراقية أو تستورد من الخارج، قد شاعت لأول مرة ين حاشية النظام الدكتاتوري السابق، فأطلق عليها الناس مصطلح المعاطف الرئاسية.. وأصبحت لفترة من الزمن تقترن بالسلطة والعنف والخوف، وإن أصبحت شائعة لاحقا وفقدت دلالتها الأصلية. وإذا ما كان ديوان الخاتون قد أشار إلى حشد من الجنود المهزومين الذين كانون يرتدون "المعاطف الرئاسية" كما أشرنا إلى ذلك تواً، فإن القارئ (الذي أصبح كاتباً بأمر من الجنرال كوكز) قد عثر قبيل مغادرته المعسكر على "دفتر سميك ذو غلاف أزرق" يحمل عنوان الرواية الحالية "ليلة المعاطف الرئاسية"، يبدو أنه كان مخبأً في معطف الراوي أو الكاتب، وهذا تأكيد آخر على الطبيعة الميتاسردية للرواية:
" كانت أمام الأريكة منضدة زجاجية حمراء عليها دفتر سميك ذو غلاف أزرق، تناولته وقرأت عنوانه ـ ليلة المعاطف الرئاسية ـ دهشت وأنا أقلبه. إنه مخطوطة رواية تخلو من اسم مؤلفها " (ص234) وعندما قاد الرجل الستيني القارئ إلى قبر المؤلف قرأ شاهدة تقول : هنا يرقد القارئ.. هنا يرقد الكاتب.
كما يمكن ملاحظة أن عنوان الرواية يتكون من مضاف ومضاف إليه، وهي طريقة شائعة، وخاصة في توظيف كلمة "ليلة" في الكثير من الأعمال الروائية والسينمائية ومنها رواية "ليلة القدر" للطاهر بن جلون و"ليلة لشبونة" للروائي الألماني أريك ريمارك، صاحب رواية "وقت للحب وقت للموت".
ومن الملاحظ أن كلا الروايتين تستغرقان ليلةً واحدة من الناحية الزمنية، وكذلك هو الحال بالنسبة لرواية "ليلة المعاطف الرئاسية"، لكن الروايات الثلاث، من الناحية الفعلية، تمتدان على فترة زمنية طويلة من خلال فعل الاستذكار ،واستحضار الماضي أولاً، أو من خلال ضغط الأحداث وتكثيفها وتتابعها على وتائر سردية مترابطة ومتلازمة وسريعة لتوفر إحساساً عالياً بالتوتر والشد والتواصل، وهي لعبة سردية لجأ إليها عدد كبير من الروائيين العالمين والعرب منهم جيمس جويس في روايته "يوليسيس" التي استغرقت رغم طولها يوماً واحداً هو يوم الأحد، ورواية "مصابيح أورشليم" للروائي العراقي علي بدر التي استغرقت مثل " يولسيس" يوماً واحدا أيضا هو يوم السبت.
رواية محمد غازي "ليلة المعاطف الرئاسية" رواية متميزة بكل المقاييس وهي تومئ إلى موهبة روائية ناضجة تدرك التفاصيل الجوانية للواقع الاجتماعي والسياسي، وتعيد تشكيله من خلال عدسة "الكوميديا السوداء" وذلك لإسقاط جدار الخوف وتفكيكه من خلال السخرية والتقزيم، وهو ما سبق وأن ألمحت إليه رواية "اسم الوردة" للروائي الإيطالي إمبرتو أيكو. يمكن القول أن الشفرة التأويلية الحقيقية للرواية هي أنها فككت شفرة العنف والإرهاب والتسلط والقتل المجاني للإنسان الذي تمارسه سلطات العنف الفعلي والرمزي، ووفرت للإنسان زاوية نظر جديدة مفعمة بالأمل والتطلع إلى قدرة الإنسان على مواجهة العنف البربري بسخرية واثقة بعيدا ًعن الخوف، وهو يتطلع إلى المستقبل.

عرض مقالات: