مرتضى محمد - العمارة

"انني في آخر ايامي اودعكم بكثير من الألم وقليل من الامل" هكذا كان الحدس الذي اختتم به الدكتور طه حسين مشواره. وهكذا يتخيل لي مداخل المقدمة التي وضعها الأستاذ سلام إبراهيم في تناوله الدقيق لأبعاد وأطر وخلجات وهواجس وثورات الــوضوح الأول في تجربة الشاعر طارق ياسين. تلك التجارب التي أثرت كم الابداع الذي خرج بمذراة وحفنة من (طحين السيّاح)* بوجه غول النكوص الفكري الذي امتدت يداه لتمسك بداهة الخلجة التي تنتابك لحظة الحب أو الجنس أو الأغاني أو حتى تلك المحاولات التي تبتعد محاولة شرب نخب مع إله ما. في الحياة العراقية مثلت تجربة الانتقال الشعرية في مجال الشعر العامّي (الذي لا اعرف كيف توضع نقاطة واحاسيسه في خانة التصنيف؟ أوليس الشق الأول من العبارة: الشعر!) انتقاله هائلة ومهمة أشبعت دراسةً وتحليلاً وعمقاً في الطرح والاستعارات** حتى أصبحت كمنشور يعطي ما أستطرده القدر من محبة.  "أن القراءة الأكثر نجاحاً هي تلك القراءة التي تعقد فيها...الذوات المخلوقة/المؤلف والقارئ اتفاقًا تاماً"1 ؛ وعليه لابد للمبدع/الشاعر/طارق ياسين "ان تنشأ طريقته التي تعبر عن تجربته وحياته لا أن يرث طريقة جاهزة، فلا طريقة عامة نهائية في الشعر"2 :

سمعت من القديم بفارة خربت ســـد وتأملت معنى الشـــر ... شفته ما أله فد حد أن كان الشر بكد الفاره ...يهدم سد! اشكد يهدم لعـــد لو غده بكد السد.

من مفردة تجولت بحرية تامه وبموسيقى محببه للسمع كانت (لعـــد) غير مألوفة في الشعر العامي (على الرغم من غنجها وتمايلها كمفردةٍ مدنيةٍ مشبعةٍ بالليالي) ان تجعلك تستسيغ القراءة والترتيب لنوافذ تفتح على وعي مغاير، وطريقة و (مجال جديد للكتابة***)، كتابة ستكون وتكوّن مساراً دالاً على تلك الذات:

مشت خطوه وشعرها المضوي بالشارع

ضوه خافت ايوخر الفيّ

وعطف عيونها التلمع يكف بالشمس نافوره

وضحكتها گمر ... لو نجمة مولودة بليالي العيد

تتأمل وجه طفلة العصر من جامة مكسورة

ها هي الصفحات النفسية التي تجول بفكرها الذي سبق وجودها حتى من خلال الرؤية التي تسترد ما بدا لها من خلف حجب الأتربة والضبابيات الكثيفة التي لا تنفع معها أي شمس:

نجمتك بالنهر سالت

حسك لعب بالگمرة...

وختل بين العشب والطين

طلعنه من نهار سوادنه مضيعين

معنى الشمس والليل وحياة الناس ...

العالم بين واحد نازل وصاعد

كطعنه اثنين وثلاثين صبيره ... مجد طفله

والف مجرى نبع صافي والمضطرب بس واحد

العالم حبسني اشما كلت واسع

اقره الناس أملهم

من كبل ما احچي وياهم وأمل روحي

أكف بين الصدى والصوت، ...

حايط سومري امفلش

وأخط فوگه هوى جروحي...

باحث هو عن المطلق النسبي؛ ذلك الذي يعلل ما اعتراه من قراءة واستشفاف للحاضر الماضي، حاضره هو وماضينا نحن، باحث عن تجليات الروح التي تريد الانعتاق من الجسد الحياتي لغاية مـــا هو يألفها ويرددها غناؤه غير المسموع، بكل شغف:

آنه وحدي بغرفة معزوله،

كراسيها وضوه البيهه غنه

وحدي أعرف روحي...

واستوحش وأغني بروحي وحدي

يمكن يكون الغنه ...

سبب طيفك الوهمي ...

اختلطت اوهام البراسي ويه طيفك

وانفصل عني المغني

آه يا روحي المحبّه

ع المحب زحمة بوحدته ...

في النشيد التاسع من الجحيم (61 -63)  يقول دانتي 3 :

أنتم يا أصحاب العقول الراجحة

استشفوا العقيدة التي تخفيها

هذه الاشعار الغريبة بمجازاتها 

نعم الاشعار، بالفعل هي الاشعار التي قادت الشاعر/ الذي عرّج (بمنحاهُ التأملي) ومبتغاه العارف رغم حدّة المعرفة وقسوتها على تلك الروح المثقلةِ بشفافيةٍ غير مألوفة:

مكسورة المري من أيام

بين وجوهنه المجروحة بالأيام

لم منها الخيال وعمر مرايه وحواجب سود

طير موكر من البرد ع العامود

يتصنط حچي من التيل

عن ضحكة بنتهه شفافك لگلبي جسر

والامل فوگ يفوت

عروجُ من ألف الثقافة وابعادها التي تبقيها على مسافة خارج جميع الاسطر والمتاهات التي تذهب دلالاتها وهدفها النبيل في أثراء الواقع وانتشاله من الوهم وتلك الأبواب المغلقة بوجه الأغاني والترنيمات:

گاللي تريد الصحيح

كوم سد الباب الذي منهه

تجيك الريح

وأخلص وأستريح

گلت: بيني وبين روحي

لو اسد الباب اللي بره ...

يمكن اگعد وأستريح

لكن الباب اللي جوه

اشلون اسدهه وهيه باب

وهيه ريح

انتظر، وقرأ، وكتب، وعانى، وأحب، وخاف، وتكهن، ورأى، واستشف، وعبر وحدهُ، نعم وحدهُ عبر كل تلك التساؤلات التي توجد معنا عند خروجنا الى هذه الحياة، وحتى سفرنا الآخر ربما الى البداية أو الى اللا(أين):

تتذكر كتابات الفجر تضحك على الحيطان

تتذكر حياتك من الأفكار والدخان

اتغربت كل ذكرياتك بيك...

حفرت نهر ايامك

حبك... حچيك... آلامك

اخذو صمتك وراحو... ردوه الك صديان

جنهم حجو بالدخان

وتوضح كلام الفجر وحده ...

وخّرت عنه مسافة آخر الحيطان

عديت الشوارع ورجعت تعبان

شعلت اثنين وثلاثين ليله بالسره بذهنك

خفيه انتظر عيدك

واتلمس ضواها بذكريات أيدك

مثل الطير تتنفس كبل متموت ...

حط راسك بحضني وموت

بس تتلمس الحيطان...

ما تعرف منين تفوت

لو كثرت حياطين الضجر ...

شوف بعينك الدنيه بغمج صحراء ...

واعبر وحدك الوحده.

لقد عبر وحده رغم وجود كل تلك الوجوه والاغاني والامل الذي كان يبشر (بليالٍ عشر)، عبرها وحده رفقة أبواب حلمه، وتكهنه، وامله، وندائه، وصرخته، عبرها وهو  يجري بطرقات المدينة التي ألفها وعرف القادم من وراء أبوابها محملاً بكل تجليات الدم:

فريت المدينة بليل

فريت المدينه وخبطت ع البوب

گتلهم اجتّي الريح... دهو البوب

أخاف الريح تخلع بوبكم وتظل دشر...

والدور بينه تدور

وكل واحد يحط لوحه على اجتافه ...

سفين وينتظر طوفان .....

فريت المدينة بليل

شفت الريح اجتي من بعيد تون ...

بداية سيل

شفت النجم فص محبس باصابعها

وظهر جدها محني ع السجادة

طوه آخر صلاته، ورجه السجادة بركن حجرة

وجته الطفلة من فتحت الباب تفوت

خضره تصيح كعدوني

وجدمها الحافي يرسم ساجيه زغيرونه بالگمرة ...

وجمرات الجگاير فتّحت بالظلمة عين الديج...

راد يصيح ... وتوترت حنجرته

وصاحت من بداله الريح

وصياحي اختلط بالريح

وبقيت اصرخ ... اصرخ لحد الصبح الما بيّن من الريح

شفت الخيل ...

يجدح ع الحصو والجير حافرها ...

والعثره الزغيره توّگع اعگاده.

كان وسيظل (ابحار خطر) بوجه (التجربة) لان الشاعر/الانسان/الثوري، (لا امتثال) لديه تجاه أي (دعوه) تأتيه من (فرح ضايج). طارق ياسين كان وسيبقى (مشروع قصيدة غنائية) لأي مدينه شريطة ان تكون بلا اسوار، طارق ياسين (مشروع قصيدة) لــ (نزهة) تحمل بداخلها (تعب) خاص لـــ (زينب)، طارق ياسين كانت رحلته بـــ (قطار الألم) ليعرف ان (لا خبر) قد حملت لنا كل الحامض حلو، والشربت؛ لنحتفل بالكلمة والموقف على الرغم من بُعدِ السنوات وقربها في الآن. طارق ياسين حمل معنا ومع الوطن كل الانتظار الذي ربما يأتي بعد حين عن "طريق ريفي وشجرة في وقت مساء، عندما يجلس استراجون على مرتفع من الأرض محاولاً نزع حذائه، ساحباً إياه بكلتا يديه. يلهث. يستسلم منهكاً، يرتاح قليلا ليبدأ المحاولة من جديد كما بدأها"4

ـــــــــــــــــــ

الهوامش:

*  طحين السياح: هو عبارة عن دقيق الأرز الذي يخبز بطريقة خاصة، ويشبه الخبز. يشتهر استخدامه في جنوب العراق.

** تنظر الثورة النوابية/دراسة اسلوبية في الشعر العامي للمبدع (مظفر النواب) /حسين سرمك حسن/دار ضفاف.

*** اسم رواية للكاتب (فيلدنك جوزيف اندروس)  

المصادر:

دور القارئ في روايتي فيلدنك جوزيف اندروس وتوم جونز/ ولفكانك آيرز/ترجمة فاطمة الذهبي/ دراسات/ الثقافة الأجنبية/ العدد الأول 2017.

ديوان الشعر العربي /الجزء الأول/ أدونيس/الطبعة الخامسة/دار الساقي.

الكوميديا الإلهية /دانتي أليغييري/الطبعة الاولى/دار ورد/2002.

في انتظار غودو/ مسرحية/ صمويل بيكيت/ ترجمة د. ازهر سليمان/ دار نينوى.