تغيّب الثقافي: هو الظاهرة السلبية الجمعية لدى كل الباحثين الذين قاموا بحراثة عربية للوضع الأقتصادي والمجتمعي والسكاني، وأهملوا المشكلة الثقافية وتعالقاتها مع مشكلة الثورة!! ويرى المفكّر طيّب تزيني:  أن فريق العلماء والباحثين، يحاولون خداع الكل أن مشكلات ما يسمى بالعالم الثالث:(ذات طبيعة تكنولوجية أو أستهلاكية أو سكانية أو مناخية أو عنصرية أو جنسية أو ماشابه ذلك .../ 9) وهكذا يتم إقصاء السبب الرئيس لكل مشكلات العالم الثالث ومنه المنطقة العربية،أما الفعل الثقافي، أو الثورة الثقافية، فهي( في نطاق بحوثهم ،، الغوغائية السياسية،،/ 9) فالعالم الرأسمالي مازال، حين يرى لا يبصر سوى المركزية الأوربية حتى لدى أساطين ما بعد الحداثة *هذا الحال يكتبه المفكر تيزيني بتوقيت 1973، سنلاحظ أن هذا التغيّب صار لا يكتفي بالثقافي، فقد ناش التغيّب: المسح الإثنولوجي الميداني، وهناك تقصير لدى الباحث العربي،وما ترجمة كتاب(المسح الإثنولوجي الميداني) إلاّ لهذا السبب،بشهادة المترجمة الأستاذة الدكتورة جهيدة لاوند: (..نأمل من ترجمة هذا الكتاب إلى العربية أن تسدّ ثغرة في ثقافة البحث الميداني شبه المفقودة في عالمنا العربي.إن مجتمعاتنا بأمس الحاجة إلى فهم عمليات المسح،وكيفية التعاطي مع الميدان ../8) وكذلك المؤلف يؤكد أن هذا النقصان مازال يتسيّد في ثقافات عدة : (نحن بعيدون كل البعد عن النموذج الأصلي، والفريد،الذي يحتذى به من دون مخطوطة أو سيناريو محرر،في زمن تفرض فيه وسائل الإعلام، بقوة، وجود الصورة.../ 93- جان كوبان /المسح الإثنولوجي الميداني)..

(*)

مع صعود اليسار العربي في الستينات والسبعينات،جماهيريا وثقافيا ومنتوجات معرفية، بأقلام كانت جلود أصحابها مدبوغة دباغة جيدة في السجون والنضال السري: محمود أمين العالم،رفعت السعيد، عبد المنعم الغزالي، سعاد خيري، حسين قاسم العزيز،صفاء الحافظ، مهدي عامل، حسين مروّة،أبو علي ياسين،محمد عيتاني،أمير أسكندر،غالي شكري،صنع الله إبراهيم، نوال السعداوي، شريف حتاتة، غالب هلسا، عبد الرزاق عيد، سلامة كيلة وغيرهم. بهذا التوقيت ثنت ركبتيها عشرات دور النشر والتوزيع العربية وأندفع بعض المترجمين بضراوة خنازير برية، وترجموا كتباً لمشاغلة الشبيبة بعيدا عن حركات التحررفي الوطن العربي، وتلقفها المتمركسون، وراحوا يغردون مقولات ماركوزة وأشباهه، فتصدى لكل مؤلفات ماركوزة حينها المناضل والمفكر محمود أمين العالم وأصدر كتابا فلسفيا قيّما (ماركوز والطريق المسدود) ناقش أطروحات ماركوز بهدوء ورصانة ونقضها وكذلك فعل مهدي عامل، مع الندوة التي أقامتها دولة الكويت في أوائل السبعينات تحت عنوان(أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي)، قام مهدي عامل بقراءة أوراق المشاركين وتحليلها والتعليق عليها ونقضها وجمع كل ذلك في كتاب فلسفي بعنوان(أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية؟) كما أشتغل مهدي وانشغل معرفيا في دراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني، فصدر كتابه الفلسفي في أيلول 1973 (مقدمات نظرية) بجزئين عن دار الفارابي، وفي سوريا تألقت كوكبة مفكرين : ندره اليازجي وصادق جلال العظم وطيّب تيزيني..

(*)

نتوقف عند كيفية تعامل تيزيني نقديا مع الوجودية، فهو يتحاور في البدء مع تساؤلات الفيلسوف الوجودي الألماني كارل ياسبرز في كتاب له(إلى أين تسير الجمهورية الاتحادية) يبث ياسبرز حيرته أسئلة ً(إلى أين المصير؟ إلى الهاوية؟ أم إلى وضع جديد للإنسانية لايمكن رؤيته بعد وهو في حالة التكوّن..؟/162- طيّب تيزيني- حول مشكلات الثورة والثقافة في العالم الثالث) وعلى هذه السؤلات يجيب ياسبرز نفسه :(أننا لا نعرف ذلك.أن الرؤية إلى المستقبل تجد أمامها لوحة غامضة.وليس هناك شيء من الصبر. أن الأمر مرعب) القلق الياسبري مشروع فهو قلق وطني،على وطن هو جزء من منظومة رأسمالي كولونيالية و كتاب ياسبرز مطبوع في 1968 وما يطرحه ياسبرز، يسعى إلى الأشتغال عليه فلسفيا، ويرى طيّب تيزيني أن العالم الرأسمالي وتحديدا في السبعينات قد (تطور تطورا عاصفا في الحقول العلمية والتكنولوجية، بحيث أخذ يبدو لبعض المتشائمين..أن الساحة قد فلتت من أيدي القوى الأشتراكية والتقدمية والوطنية )

(*)

 لاينكر تيزيني تفوّق الغرب تقنيا على المعسكر الاشتراكي آنذاك، لكنه  يرى، أن هذا التقدم التقني والتقدم في العلوم الطبيعية وتطبيقاتها جاء على حساب الجانب الاجتماعي الإنساني والعلوم الإنسانية،فالغرب كان..(يعاني أزمة عميقة شاملة،لايمكنه الخروج منها ضمن الحالة الراهنة في تلك البلدان )..ولقد استعملت أمريكا وشقيقاتها الأجهزة التقنية المتطورة التي تجعل شرطتها تمتلك نظاما معلوماتيا شاملا بكل عائلة على حدة، وهكذا تحصنت السلطة وتطوقت الجماهير المسحوقة..كما أخذ المنظرون يبشرون المواطنين بنهاية الأضطهاد للعمال

إذ(لم يعد العامل مرغما على الوقوف عند الآلة وملاحقتها في مجموع تفصيلاتها.لقد تحول إلى المشرف أو المخطط يضع لها برنامجا معينا تسير حسبه على نحو تلقائي) وهكذا أنتهى دور العامل الكادح وحل بديلا عنه (العامل الفني) الذي صنعه التقدم الانتاجي التقني وهكذا التحقت هذه النسخة من العامل بفئة التكنوقرط التي لا تنتج فائض القيمة !!

(*)

في الحقبة التاريخية نفسها التي كان يفكرّها المفكر الكبير طيّب تيزيني، كان هناك مفكر يستسقي فكره من نفس السراج الذي يستضيء به ومنه تيزيني أعني بذلك المفكر المصري سمير أمين الذي  يشتغل ماركسيا على مفهوم فائض القيمة المعولم وتجسد ذلك حين نشر في 1977 كتاب الموسوم(قانون القيمة والمادية التاريخية)..يرى أمين (الوضع المعرفي لقوانين الاقتصاد الرأسمالي خاضعة لقوانين المادية التاريخية وأنه في ظل الأسلوب الرأسمالي للأنتاج تتخذ قوانين الاقتصاد وضعا نظريا يختلف عنه في ظل الرأسمالية السابقة )وهذا يعني أن ما طرحه ماركس في وقته، يشترط علينا التمعن فيه وتكرار انتاجه من أجل أن نكون ماركسيين دائما من خلال تجديد فكرنا الماركسي، لذا سيحاول سمير أمين بإجتراح

ما يوائم تطوير مفهوم فائض القيمة بتوقيت عصر الامبريالية، وسيقوم أمين بمهمة ليست مستحيلة لكنها صعبة جدا، وانه سيعود إلى كتاب رأس المال ويتمعن في الجزء الاول من الكتاب ويبدأ تحليلا نظريا للنظام الرأسمالي المعولم كما هو في الواقع من قانون القيمة الذي وضعه ماركس، وهنا تكمن محاولة أمين في قوله

(حاولت أن أقوم بذلك بنفسي والمحور الأساس لنتاج محاولتي هو وضع قانون للقيمة المعولمة، يتمّشى من جهة مع أسس قانون القيمة الخاص بالرأسمالية،كما أكتشفه ماركس من جهة ومن الجهة الأخرى مع واقع التنمية المعولمة غير المتكافئة وأضافتي الرئيسية تتعلق بالانتقال من قانون القيمة إلى قانون القيمة المعولمة على أساس التراتب المعلوم لأسعار قوة العمل حول قيمتها وعولمة القيمة وبجانبها الممارسات المتعلقة بالحصول على المواد الطبيعية التي هي أساس الريع الرأسمالي)*

(*)

يرى تيزيني أن مايسمى (الوجودية العربية) نقلت تجربة الأنسداد المستقبلية للعالم الرأسمالي وصيرتها أنسداد للمستقبل العربي !! وهذا الامر جعله أمميا ماركوزة

(والإشكالية المبدئية تتأتى من كون الطبقة الرأسمالية الاستعمارية ترى أنسداد آفاق التطور المستقبلي أمامها هي أنسداد لآفاق التطور المستقبلي أمام الإنسانية جمعاء/166) ويشخص تيزيني ويفند هذه البضاعة الرائجة في قوله (أن محاولة تطويع الواقع العربي الراهن،المتميز بتخلفه الحضاري وتمزقه القومي،من خلال الأيدلوجية البورجوازية الاستعمارية الماركوزية والوجودية – تعني في الخط الأول أدانة الاتجاهات الثورية المبّكرة التي تنشأ هنا وهناك في انحاء الوطن العربي)

(*)

يواصل المفكّر طيب تيزيني بكشوفات الفلسفية، مشخصا الداء في الطبقة البرجوازية الإقطاعية في الوطن العربي (أن هذه الطبقة لم تستطع أنجاز مهماتها ولو بالحد الأقصى،هذه المهمات التي تتركز في تحقيق ثورة اجتماعية صناعية وأيدلوجية وقومية ضد الأقطاع) هذا على مستوى طبقة اجتماعية أما على مستوى الفئة فأن المثقف العربي الجديد، ظل( رهين محبسين كبيرين : التخلف التاريخي والقصور الذاتي/ 171) وسيكمث طويلا في محبسيه، يكابد فواتا حضاريا جارحا للنرجسية في عصر تقدم الأمم بشهادة جورج طرابيشي الذي يعلنها ملء الجرح

(إنني أنتمي إلى جيل الرهانات الخاسرة،فجيلنا قد راهن على القومية وعلى الثورة وعلى الاشتراكية ..) وحين يخسر كل هذه اليوتوبيات سيكتفي بالراهن على الديمقراطية، وسيعمل من خلال هذا الفشل إلى التخلي عن استراتيجية البدائل ويرّكز كل همته وأهتماماته على آليات النهضة(وهي آليات عقلية بقدر ماهي آليات مادية) وطرابيشي يشخّص (خطورة دور المثقف في الآلية النهضوية) وسبب التشخيص أنه يرى في المثقف شغيلا على مستوى المفاهيم.. ثم يقوم بتصنيع تراتبية ثلاثيا للنهضة

*النهضة : سيرورة مادية – اقتصادية واجتماعية وتقنية واقتصادية

*مفهوم النهضة: وهذا المفهوم أشبه ما يكون بذبابة سقراط: فدوره أن يوقظ لا أن ينيم،أن يلسع لا أن يخدر، وبمعنى آخر، فإن النهضة هي الحاجة إلى النهضة على مستوى الوعي

*إرادة النهضة: هنا تبرز خطورة دور المثقف. فللمثقف،بحسب أختياره الأيدلوجي،أن يكون عامل إرادة النهضة، كما عامل نقيضها: الردة

ثم يختمها طرابيشي (وذلك هو أصلا محور الصراع في الثقافة العربية المعاصرة: إرادة النهضة وإرادة الردة لدى الانتلجنسيا العربية،ولا سيما في هذه المرحلة التاريخية التي تضغط فيها عوامل شتى: فشل الانظمة الأيدلوجية التقدمية واقتصادية الدولارات النفطية والانفجار السكاني والبطالة وأزمة الزواج والسكن وذل الهزيمة العربية أمام إسرائيل..)..

من خلال ما نقلنا من جورج طرابيشي في كتابه( من النهضة إلى الردة) أن لامسافة متغيرات ميدانية بين 1973 كتاب تيزيني وبين عام 2000 في كلام طرابيشي!! هل هذه السكونية  هي الوجه الآخر لرواية قرأتها في سنوات مراهقتي(لكي يقف الزمن) للروائي الأمريكي ألدوس هكسلي !!

(*)

وعلى الشاطىء الآخر وبشهادة من أهلها (الفشل المدوي مشروع الإسلام السياسي ) ويرى الكاتب علي مبروك أن المتغيرات الأخيرة في الوضع السياسي العربي (قد كشفت عن أحتياج المسلمين على العموم إلى إعادة التفكير في أصول دينهم الكبرى التي هي القرآن والشريعة بالذات إذا شاؤوا أن يكونوا فاعلين في العالم ضمن سياق السعي إلى إعادة التفكير في الأصول ) ويقصد الكاتب من وراء ذلك على ضرورة التمييز بين الدلالات التي تسكنها وتنطوي عليها وبين التحولات التي طرأت عليها)

والسبب أن الثقافة الإسلامية قامت بترحيل قسري للدلالات المنفتحة في أصولها الكبرى وكدستها في حيز (أكثر ضيقا ومحدودية ) والسبب هو زحف الفعل السياسي التسلطي وهكذا (ما انتجته السياسة قد راح يتحول إلى الدين)

(*)

هنا نلاحظ أن كل الأطراف  تعاني أحتباسا فكريا سواء بإرادتها  أو بالقوة الإقحامية من خارجها وفي الصدد  نتوقف عند تيزيني في تشخيصه للخطر المحدق الذي يتسبب في خلخلة سيرورة الثورة الاجتماعية ..فهو يرى مسدين يعيقان المسار:

*الموضوعانية

*الذاتية

تشتغل الموضوعانية على تجريد الفعل الإنساني في صناعة الحياة الفضلى، فالمتغيرات مرتهن بالحتم الطبيعي وهي في موقفها البئيس هذا، لاتختلف عن النزعة الجبرية في الإسلام..

خلافا لذلك تكون الذاتية، فهي تنقض الموضوعانية وتتمرد على القنونة كلها

(لتثبت عدم وجود أي موضوعية / 226/ تيزيني) وهكذا تكون الذات منطلقا للوجود المجتمعي .

بينما يرى المفكر تيزيني : (في الحدث الاجتماعي توحيدا وثيقا للجانبين) وبالطريقة الناجعة هذه (دون التضحية بموضوعية الحدث ودون أن تتعرض قضية الثورة الاجتماعية لخطر الذاتية والعشوائية وعدم الانضباط ومن ثم الفشل )

(*)

ما قلته ويقوله منجزك المعرفي... أيها المفكر الفذ طيّب تيزيني هو حلمنا المشترك الذي سيجته البيروقرطية العربية، ثم قرفصته في غيابة ليل مدجج..

لكن رؤاك التحررية صارت ضوءاً وحمامات ونوافذ مضيئة لا تأخذها غفلة نوم في حراسة ذلك المستقبل البعيد كالأمل

* هذه المقالة  خلاصة مبحث تفصيلي عن المفكر طييب تيزيني

*طيب تيزيني/ حول مشكلات الثورة والثقافة في العالم الثالث/ دار دمشق للطباعة والنشر/ طبعة ثانية منقحة ومزيدة/ 1973

*جان كوبان/ المسح الإثنولوجي الميداني/ معهد الدراسات الاستراتيجية – العراق / ط1/ 2007 بغداد - أربيل

*بخصوص المركزانية الأوربية/ مقالتنا الموسومة (بعيدا عن كهف إفلاطون) منشورة في المواقع الثقافية التالية: الحوار المتمدن/

مركز النور/ بصرياثا/ موقع الحزب الشيوعي العراقي/ كتابات/ الناقد العراقي

*سمير أمين/ الحوار المتمدن / قانون القيمة المعولمة 

*سمير أمين / نقد روح العصر/ دار الفارابي/ بيروت/ ط1/ 1999

*جورج طرابيشي / من النهضة إلى الردة/ دار الساقي/ بيروت/ 2000

*علي مبروك/ القرآن والشريعة/ مصر العربية للنشر والتوزيع/ القاهرة/ ط1/ 2015

 

 

 

 

 

 

 

عرض مقالات: