بجرأة معهودة ووضوح ناصع تُمعن الكاتبة انعام كچه چي في توظيف الواقعية الموضوعية الصحفية الى جانب المخيلة الفنية في آن معا في روايتها الخامسة (النبيذة- دار الجديد، 2017). تؤرجح القارئ بين المدن والازمان والشخصيات عبر ما يزيد على 300 صفحة، ترميه وتسحبه بقوة وحزم، تقطع انفاسه من دون ان تترك له فرصة وضع الكتاب جانبا حتى يرى ماتؤول اليه حكايات امرأتين من زمنين مختلفين : تاج الملوك ووديان، وصديقتهما الاثيرة: بغداد.

حكاية غريبة تماما مصبوبة في قالب واقعي مائة في المائة، في بناء معقّد ومركّب ومحكم يتوه القارئ في انتقالاته المباغتة، كل ذلك بلغة متينة وشفافة كالماس. ايقاع  سريع يجعلك تلهث وراءه . "النبيذة" نموذج في الرواية كمتعة راقية في المقام الاول. تلفُّ القارئ بموضوعيتها المخادعة تحت جناحها الباذخ.

تتجلى واقعيتها في كل التفصيلات : الاسماء والتواريخ والاحداث التاريخية والاغاني (اكاد اتخيلها وهي غارقة في وثائق المكتبات). تطير بنا من بغداد الى المحمرة وطهران وكراچي والقدس ودمشق وبيروت والقاهرة وتونس وباريس ونعم ... كاراكاس. شخصيا التقيت بالرئيس الفنزويلي الراحل تشافيز ولم أجد وصفا ادقّ لشخصه وبساطته واسلوبه في الكلام مما جاء في الرواية. وبالطبع لم التقِ بالوصي عبد الاله ولا رئيس الوزراء نوري السعيد أومدير أمنه بهجت العطية، ولكنني الآن اكاد اعرفهم من خلال صفحات (النبيذة). نكاد نشارك في وثبة كانون ونصغي الى الجواهري يرثي اخاه جعفرا، ونستمع مبتهجين الى موسيقى الموكب الملكي ونتمشى مع خوانم الطبقة البغدادية الراقية في شارع الرشيد.

وأمّا مخيلتها الروائية فتتألق في الحبكة وفي بناء شخصية المرأة الخارقة تاج الملوك : شخصية عجائبية من الف ليلة وليلة كما يوحي اسمها. عراقية لا تشبه العراقيات كثيرا. جاسوسة (ملكية اكثر من الملك) ولكنها في لحظة الحقيقة الوطنية تجازف بكل ما تملك للوقوف مع الثوار في موقفين في الاقل : المشاركة في وثبة كانون والعزوف عن محاولة اغتيال الرئيس الجزائري احمد بن بلّة في لحظة التنفيذ . شابة من أصل ايراني جريئة في تحررها (اقتلني ولن البس عباءة)، في مغامراتها العاطفية (قنبلة جنسية موقوتة في مسوح راهبة)، مكيافليّة في علاقاتها (أحتفي ببسالتي ولا اخجل من حقارتي). تجيد ثماني لغات في الاقل من دون ان تدرس ايا منها. صحفية بالفطرة. حلوة ولا تتوانى في توظيف جمالها. شابة متألقة وعجوز تسعينية. تصدح باغاني سليمة مراد وتحتفظ مكتبة باريس باسطوانات تجويدها لسور من القرآن وو و...غير هذا الخليط العجيب مئات من التفصيلات اللذيذة والعجيبة.

وديان نقيضتها تماما : عازفة كمان في الفرقة السمفونية يوقعها حظها العاثر في براثن (الاستاذ) الذي يدمّر حياتها بساديته الوحشية. هادئة كتومة تعتاش على ذكرياتها المريرة. عراقيتان تجعل الغربة منهما امّا وابنة يزجّيان ليالي باريس الباردة بالتلمظ باسم بغداد. لكن وديان تعشق كل شيء في باريس حتى مجاريها.

كل ذلك واكثر في ظل قصة حب رومانسية، تذكر نهايتها بنهاية (عهد البراءة) لسكورسيزي. قرأتُ الرواية في نهار واحد، تغرينا بالاصغاء الى موريس رافيل وچايكوفسكي ورحمانينوف ومندلسن والبنيوني ونحن نقرأها (هذا ما فعلته انا في الاقل). لا تتردد في اللجوء الى المبالغة في كل حيل التشويق علانية : تفتتح الرواية بمحاولة اغتيال وتنهيها بمؤامرة كاشفة. لا تبخل في الامثلة الشعبية والاغاني والعبارات البغدادية العريقة وابيات من الشعر الفارسي والعربي الكلاسيكي. خلطة عجيبة من كل شيء، ليس اجدر من انعام كچه چي بهذه الثقافة الموسوعية.

قرأت للزميلة انعام روايتين اُخريين :"طشاري" و"الحفيدة الامريكية"، لا تختلفان في الاسلوب والتشويق واللغة والاتساع، ربما اقلّ قليلا . فيها جميعا كنت مطمئنة الى انها لن تقع في فخ موجة الرواية التي تكتبها كاتبات من الشرق الاوسط لجأن الى الغرب، ورحن يشتمن الثقافة المغلقة التي جئن منها والتي حرمتهن حق الحياة  الواسعة المفتوحة التي يوفرها الغرب.

عرض مقالات: