ردّاً على تساؤلات لصديق يقول فيها: هل الرواية العراقية بخير؟ وهل نرى من ربيع للرواية العراقية؟ وإن كان هناك ربيع، فمتى بدأ؟ وما هي ملامحه؟ أقول لا يخفى على أحد ازدياد أصوات الذين لا يرون في مسيرة الرواية العراقية غير الخريف، الذي كما هو موجود في نتاجات كل سنة، هو موجود في مسيرة الرواية في كل بلد، ولكن مثل هؤلاء لا يرون، كما يُفترض في الحالات الطبيعية، إلى جانب الخريف من ربيع وشتاء وصيف. الحقيقة أن هذه الأصوات في غالبها الأعم تأتي من أناس غير مستعدّين مسبقاً للاعتراف بالرواية العراقية، ولا بروايةٍ عراقية، حتى لو حققت أنجع الإنجازات، وضمن ذلك حتى في ربيعها. على أية حال أعود إلى تساؤلات الصديق لأقول: إذا كان المقصود بربيع الرواية هو الأعمال المتميّزة، فأقول هناك أعمال روائية، وأستعير من الصديق المتسائل كلمة (ربيع) يمكن أن نقول عنها إنها ربيعية نسبياً، أي بالنسبة لزمنها أو المرحلة التي ظهرت فيها، حين صدرت وشكّل كلّ منها ما يشبه الألق وسط فترة أو مرحلة في مسيرة الروائية متواضعة أو غير مثمرة كثيراً، كما هو حال "جلال خالد"- 1928، و"مجنونان"- 1939، و"اليد والأرض والماء"- 1948, وهناك من الروايات ما يمكن أن نقول إنها ربيعية بشكل مطلق، أعني على امتداد مسيرة الرواية العراقية، كما هو حال "الرجع البعيد" لفؤاد التكرلي، التي هي عندنا تمثل قمة الرواية العربية على امتداد تأريخها، ولا ننسى "النخلة والجيران" و"خمسة أصوات" لغائب طعمة فرمان، و"رياح شرقية رياح غربية" لمهدي عيسى الصقر، و"الراووق" لعبد الخالق الركابي، "حبات النفتالين" لعالية ممدوح، و"العيون السود" لميسلون هادي" و"يا مريم" لسنان أنطون، وغيرها ليس بالقليل.

والآن إذا ما كان الصديق قد قصد بربيع الرواية العربية المرحلة الأكثر تألقاً وإنجازاً، عدداً ونوعاً، فأقول إنني كنت، في دراستي لمسيرة الرواية العراقية من 1919 إلى سنة 1980 قد اعتبرتُ المدة الممتدة من 1966 إلى 1980 الحقبة الذهبية في تلك المسيرة. لماذا قلت ذلك؟ فأولاً لأنها  بدأت بصدور "النخلة والجيران" لغائب طعمة فرمان، روايةً متكاملة من ناحية توفّرها على متطلبات الرواية الفنية، عناصرَ واشتغالاً وموضوعاتٍ ومعالجاتٍ وحداثةً، وثانياً لإن تلك الحقبة شهدت بعد "النخلة والجيران" صدور أعمال لفرمان ولغيره عزّزت الريادة الفنية، وثالثاً لتوالي صدور الأعمال عدداً ونوعاً على امتداد الحقبة، مشتملة على بعض من ما زالت تُعدّ إنجازات، بكل ما تعنيه هذه الكلمة، مثل "خمسة أصوات" و"ظلال على النافذة" لفرمان، و"الوشم" لعبد الرحمن مجيد الربيعي، وقد نضيف إليها روايتَي الفلسطيني العراقي جبرا إبراهيم جبرا "السفينة" و"البحث عن وليد مسعود"، ورابعاً لأن تلك الحقبة شهدت صدور أول رواية فنية نسوية هي "السابقون واللاحقون" لسميرة المانع، مع ما قد نسجله عليها، وأخيراً لأن تلك الحقبة كما بدأت بإحدى قمم الرواية العراقية، انتهت عام 1980 بإحدى قمم الرواية العراقية، بل العربية، نعني "الرجع البعيد".

واليوم حين أنظر إلى كامل مسيرة الرواية العراقية، أعني من عام 1919 إلى عام 2018، فإني أجد أن هناك ربيعاً آخر وهو السنوات العشر تقريباً أو أكثر الأخيرة، ما بين 2006 أو 2007 و 2018، حيث شهدت أعداداً ضخمة وغير مسبوقة من الروايات، وكان بينها بعض أفضل ما قدمته هذه الرواية من أعمال، ووجد العديد منها أصداءً عربية لم يكن حتى الجيد من الروايات يحققه من قبل، كما حصل العديد منها على جوائز فنية رصينة. يُضاف إلى ذلك ما صاحبَ ويصاحب هذا النشاط الروائي من نشاط نقدي وبحثي أكاديمي وغير أكاديمي وقرائي. وأعتقد أن هذا الثالوث حين يتوفر لأي رواية يعني أنها بعافية. وهنا، إذا ما كنت قد تمثّلت الحقبة الذهبية السابقة ببضع روايات، فإني لأجد من الصعوبة أن أتمثّل للحقبة الحالية بعض الروايات لكثرة الجيد والمتميز مما أستغرب أن لا يراه البعض.

بقي أن البعض قد يرى أن ربيع الرواية العراقية المعاصرة بدأ بعد عام 2002، كونها مرحلةً وفرت للروائيين حرية التناول الإبداعي للسياسة والجنس والدين. المهم أن الرواية خلال هذه الحقبة بالتحديد الأخيرة أو بتحديدي السابق، توفّرت على ثلاثة مؤشرات تتيح لنا أن ننظر إليها بتفاؤل وإيجابية: الأول الكم أو عدد الروايات التي شهدتها أو تشهدها، والثاني هو النوع أي المستويات المتحققة لعدد من تلك الروايات في نوعية الموضوعات والمعالجة الفكرية والثقافية والحرفية الفنية، والثالث هو الحضور محلّياً وعربياً، وأعني على مستوى القراءة والنقد والتقدير. وفي هذا تحديداً أجد نفسي ملزماً بالتوقف عند من يقول إن تحقق العدد الكبير لا يعني أن الرواية بخير، وأتفق معه في هذا، ومن يقول إن الدراسات واهتمام النقد والجامعات بالرواية العراقية لا يعني أنها بخير، وأتفق معه في هذا، ومن يقول إن نيل روائيين عراقية أو روايات عراقية لجوائز والتقديرات الأخرى لا يعني أن الرواية العراقية بخير، وأتفق معه في هذا، ومن يقول إن سعة قراء الرواية العراقية مما لا يمكن نكرانه لا يعني أن الرواية العراقية بخير، وأتفق معه في هذا. ولكن أنْ تجتمع كل هذه المؤشرات والحقائق لا يمكن إلا أن يعني أنها بخير. وهي على أية حال وجهة نظر.