ما من اديب او باحث او اعلامي او صاحب مذكرات الا  وذكر شارع الرشيد كمدخل او متن لخبراته وراؤه وموافقة في هذا الوطن. عدد غير قليل من الكتب صدرت عن هذا الشارع، فضلا عن فصول ودراسات متفرقة وأبحاث اكاديمية عديدة تتناول شارع الرشيد كأيقونة او ملمح تاريخي وحضاري وديموغرافي خلال القرن العشرين.

ولعل اجمل ما قرأت عن هذا الشارع كتابي الاستاذين عزيز الحجية وياسين النصير. الاول برؤيته الفولكلورية الطريفة التي توثق لتفاصيل الحياة والمجتمع العراقي في النصف الاول من القرن المنصرم، والثاني باستحضار الذاكرة الجمعية والمفاهيم النظرية الدينية والرؤية الظاهرانية التي انتجتها صدمة الحداثة وعمليات المثاقفة.

وما بين تينك الرؤيتين تنهض الكتابات المتفرقة المختلفة ذات الطابع النوستالجي (حنين الماضي) لغائب طعمة فرمان في رواية "المخاض" او مذكرات زهير الجزائري في "المستبد" او في المرويات الكبرى للساسة العراقيين والاجانب في مذكراتهم وسيرهم الشخصية حول اهمية وحضور هذا الشارع في مسار حركتنا الوطنية منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921، وحتى نهايات القرن العشرين، بالاضافة الى وهج ذاكرة حسين مردان في كتابيه النثريين "الازهار تورق داخل العاصفة" و " من يفرك الصدأ؟ ". او السرديات المعروفة لأشهر كتاب الخمسينيات حول هذا الشارع من خلال ازقته المختلفة المتفرعة عنه التي تمثل طين النفس ووحل المجتمع، كما قرأناها في قصص عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي ومحمد روزمانجي وادمون صبري.

لقد ذكر لي الباحث الراحل فالح عبد الجبار شجن تلك النوستالجيا الغارقة بالحلم والصبوات حينما يكون الرهان مع صحبه ورفاقه في منافي بيروت وعدن وبراغ ولندن، وهم يمتحنون ذاكراتهم حول تراتب الامكنة والمحلات والجوامع والمقاهي والاسواق والبارات ابتداء من جامع الازبكية المجاور لوزارة الدفاع وحتى نهاية شارع الرشيد الفارهة في الباب الشرقي. والويل كل الويل لمن يفشل في هذا الامتحان فمآله الخيبة والرجوع الى شقته خالي الوفاض وينام حسيراً مكدودا الا من حلم العودة الى الوطن الذي قد لا يحدث يوماً.

حداثة بأنموذج هجين

لعلي افترض ان هناك ثلاثة تقاطعات اساسية تنفتح على ثلاثة جسور ان شئنا الحديث عن الشارع الحضاري الاول في تاريخ العراق الحديث. ولعلي ايضا ان شئت الاستطراد قليلاً ان اذكر شخصيتين تاريخيتين عجيبتين صنعتا هذا الشارع على وفق اعتبارات كولنيالية قديمة وشبه حديثة، اولها: الريادة الاولى لآخر الولاة العثمانيين في العراق المتمثل بشخص خليل باشا حاكم بغداد وقائد الجيش العثماني، حين قام بشق وتوسيع وتعديل الطريق الممتد من الباب المعظم الى الباب الشرقي، وجعله شارعا باسمه الصريح (جادة خليل باشاسي) خلال الاعوام 1910 – 1917. وثانيهما: فاعلية امين العاصمة المهندس اللوذعي الموهوب أرشد العمري حينما استكمل ما بدأه خليل باشا باستخدام الخداع والتضليل وحتى الهراوة في تنفيذ الشارع خلال ادارته المعروفة للأمانة في العقد الأربعيني المنصرم.

ومع ذلك، فشارع الرشيد يعد أنموذجا هجيناً للعمارة التقليدية والحداثة العراقية الجديدة في عرف المعماريين وخبراء التنمية الحضرية المعاصرين، بعد ان اختلطت فيه الجوامع ذات الطرز الاسلامية والاسواق العربية والمقاهي البغدادية واعمدة الرصيف ذات التيجان اليونانية والرومانية والمختلطة ذات الطرز (الدوريكية والايونية والكورينثية) على وفق مسميات العصر الهيليني القديم. ولهذا سأتريث الحديث ايضاً عن مغامرات الوالي خليل باشا وامين العاصمة العمري آنذاك، في صناعة شارع الرشيد ودك مداميكه الاولى، لأقول انه مهما بلغت عظمة هذا الشارع او تفردت سجاياه في ذاكرة العراقيين، فانه منذ البدء حمل صفة الشارع الاستعراضي النهاري منذ نهضويته الاولى العثمانية الى الزمن الوسيط الخاص بالاحتلال البريطاني وحتى ثورة 14 تموز 1958 وما بعدها. شارع مستضاء بقرص الشمس نهاراً، ولكنه مكفهر مظلم فارغ منذ سويعات الغسق والغروب وحتى ساعات الصباح الاولى لليوم التالي. شارع اخطبوطي عجيب تحدده مساحات او تقاطعات مغلقة او مفتوحة، كساحات: باب المعظم والميدان والامين (معروف الرصافي) وحافظ القاضي والسنك، اذ لا ينهض فيها سوى ثلاثة جسور: جسر المجيدية في باب المعظم، ثم جسر الشهداء جسر الملك فيصل الاول، ثم جسر الاحرار – جسر الجنرال مود – ولا يمكن البتة عدّ جسر السنك او جسر الجمهوري (جسر الملكة عالية ) من مقتربات شارع الرشيد لانهما ينفتحان على ساحتي الخلاني والتحرير في شارع الجمهورية البعيد.

من مخلفات العهد الملكي

ربما كانت بغداد العباسية في زمن مؤسسها الخليفة ابي جعفر المنصور حاضرة الدنيا وشاغل الناس، وربما كان زمنها الكولنيالي الحديث خصوصا في العهد الملكي السابق يمثل رمز البلاد وجنة العباد، خصوصا في سلوك (البغددة) التي يستذكرها الشاعر نزار قباني في أكثر من قصيدة، بل ان شارع الرشيد كان في ذلك الزمن أشبه باليوتوبيا الخلائقية السرمدية التي تحتمل الجحيم والمطهر والفردوس معاً. هل من امثلة على ذلك؟

اجل، كانت ملاهي وأوتيلات الميدان حافلة بالفن الغنائي الجميل والحياة المدنية المتقدمة التي يحفل بها الوجهاء وعلية القوم من المسلمين والنصارى واليهود. وكان جيل الرواد من (الاحيائيين) في الشعر والنثر والصحافة والترجمة يذرعون شارع الرشيد بطوله وعرضه، امثال: معروف الرصافي، جميل صدقي الزهاوي، احمد سوسه، جواد علي، مصطفى جواد، مير بصري، عباس العزاوي، طه الراوي، امين المميز، محمود الجليلي، جابر الشكري، فرج بصمه جي، محمد مهدي الجواهري، علي الوردي، روفائيل بطي، يعقوب سركيس، صالح احمد العلي، عبد العزيز الدوري، حسين جميل، صادق كمونة، حسين الرحال، عبد الفتاح ابراهيم، مصطفى علي، كامل الجادرجي، الشيخ كاظم الدجيلي وشقيقه الشيخ جواد الدجيلي، كوركيس عواد وشقيقه ميخائيل عواد، عبد الرزاق الحسني، محمد حديد، يوسف غنيمة، يوسف يعقوب مسكوني، طه باقر، فؤاد سفر، بشير فرنسيس، وغيرهم الكثير.

كانت هناك ما وراء القلعة الانكشارية القديمة (وزارة الدفاع) وما وراء القشلة (السراي القديم) اقوام من الازبكية (الجراخين) والهنود والسحرة الذين يقايضون العراقيين التوابل بالرز والطحين والماش، حتى وان توافرت الروبيات والبيزات البليدة التافهة. وكانت ثمة سلسلة من المقاهي الشتوية والصيفية فوق السطوح وقد سجل الملك فيصل الاول نفسه معلماً في المدرسة المأمونية لأن الاعتقاد السائد في ذلك الزمن، يوحي بأن البناء العباسي في (القلعة) هو ايوان منقرض لقصر المأمون.

لعل العزة كانت بسحر الهندام وبهاء السدائر والجراويات والعرقجينات واليشاميغ والحياصات. ولعل ايقاعات الطبول والدفوف والصنوج هي التي دفعت الملك فيصل ايضاً لتسجيل ولي عهده غازي تلميذاً في المدرسة المذكورة، وكانت له من (الكشافة) فرقة خاصة سميت فرقة "الامير غازي" وانتخب افرادها كلجان استقبال او شبيبة من السفراء المعتمدين لأي بروتوكول دبلوماسي قادم.

الطريق طويل ومتعرج في شارع الرشيد في ذلك الزمن، فقبل او تواجه ساحة الميدان يعترضك (طوب ابو خزامة) المدفع التركي القديم بشموعه المنطفئة المذابة وخرقه الخضراء البالية، ثم (قهوة خليفة) قبل ان تتحول الى (مقهى البلدية) في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي مقابل حديقة الميدان الصغيرة وسياجها المسمى (القفص) وكلمة القفص تعني الشتيمة، لأن من يقترب منه او يدور حوله يتهم بالشذوذ وقلة الادب او سوء السلوك في اقل تقدير، فالشتيمة الموجعة وقتذاك (قفصلي) او (ابن القفص) وغير هذا وذلك.. وعش دهراً حتى تسمع كفراً!

ولا بأس هنا من ذكر المناطق العجائبية المعروفة او شخوصها المياومين في شارع الرشيد بشكل مختصر مفيد، كالفرع الممتد الى ساحة السراي القديمة او شارع حسان بن ثابت وفي بوابته مقهى امين التي سميت بمقهى الزهاوي لاحقا. ثم فرع المتنبي وبما يتصل به من محلات مثل (جديد حسن باشا) و (الدنكجية) وصولا الى الساحة الفارهة التي يربض فيها (باب الآغا) قبالة العاقولية التي يجاورها المبغى العام او (العمومخانه، الكرخانه، الكلا...) التي سعت الحكومة في الثلاثينيات المنصرمة الى غلقه، ثم فتحته على مراحل تحت اعلان مكتوب باللغتين العربية والانكليزية، والطريف ان الاعلان العربي يقول: (ممنوع الخشوش من هنانا) في الوقت الذي كان جلاس مقهى عارف آغا الشهيرة يرقبون الحالة باشمئزاز، وهم يستنشقون دخان اراكيلهم او يبصقون (سويكاتهم).

ويمضي شارع الرشيد متقدما الى الجنوب الشرقي من الرصافة حيث البنوك العثمانية واللبنانية والبريطانية كتأكيد للزمن الكولنيالي السادر من دون فسحة للجنون او الاعتراض. وبعد جامع مرجان المجاور لسوق الشورجة تأتي بنايات ودكاكين اليهود والنصارى حتى (راس القرية) حيث المكتب التجاري الكبير لشركة عبد علي الهندي المستورد لمعامل الثلج والصودا والنامليت والسيفون. ثم تستمر الدكاكين والخرائب حتى طريق (العبخانه) حيث محل الهندي الآخر (جي اس فورما) الخياط الخاص بالملك وحاشية البلاط. ثم يأتي الطريق العرضاني الواسع قبل ان تنشأ ساحة حافظ القاضي ثم سينما الوطني ثم شارع الميكانيك والمضخات الزراعية في سيد سلطان علي ومواقف السيارات الذاهبة الى الصويرة، وبعدها شركة (عدس) اليهودي المغدور في اربعينيات القرن الماضي، لننتهي بمحلة (السنك) التي كانت اشبه ببستان كبير يطل على محلة باب الشيخ قبل ان يشق شارع الجمهورية الراهن في زمن عبد الكريم قاسم.

وما وراء (السنك) وما جاورها تأتي محلة الاورفلي الشهيرة بالقصور والفنادق ومحلات الارمن ودار مناحيم دانيال (منتدى المسرح الاول) التي سكنها الملك على اثر غرق البلاط الملكي عام 1936. ومن ابرز معالم هذه المحلة ايضا بيت (لاوي) او عائلة لاوي اليهودية المتخصصة باستيراد السيارات الامريكية.

عود على بدء

هذه هي المعالم والمحطات في شارع الرشيد المفعم بالشمس نهاراً والمطفأ تماماً عند حلول المساء. ولعل ما يستوقفنا من هذه المعالم تلك الجهود الحثيثة التي بذلها الوالي خليل باشا حينما سعى بشكل مرتجل الى اقامة هذا الشارع من دون استحضار لخارطة بغداد والمهندسين المتخصصين في هذا المجال، إذ كانت اوامر عسكرية صارمة حتى وان كان رجال الدين قد وقفوا حقبة في طريق تنفيذ مشروعه لأسباب تتعلق بحجم المزارات والجوامع وبيوت الفقراء، وكذلك اعتراض القناصل الاجانب والوجهاء المشمولين بالحماية، فضلا عن قلة المال المتوفر من اجل التعويض. ولكن هذا الوالي المتغطرس فرض اصراره على شق هذا لأسباب حربية، بعد ان دقت طبول الحرب العالمية الاولى انذاراتها، لذلك وجب عليه تقبل بعض الانحناءات الملموسة في استقامة الشارع تبعاً لهذه العراقيل، فبدأ بتهديم املاك الفقراء والغائبين ومن لا وارث لهم، وهكذا اصبح الطريق ممهدا واسعا تسلك فيه وسائط النقل بسهولة على الرغم من عدم تعبيده بالإسفلت.

لكن المهندس ارشد العمري في ظل ادارته المعروفة لأمانة العاصمة في العهد الملكي كان اكثر دهاء وحنكة في استكمال هذا الشارع حينما سعى في ليلة بغدادية عاصفة الى اقامة مأدبة عشاء باذخة في بيته، دعا فيها الوجهاء والمعترضين على تطوير الشارع مع بعض ائمة المساجد، تخللتها بعض الخطب والقصائد، فقاد اعوانه ومساعديه مع قوات الشرطة بتجريف بيوت هؤلاء الوجهاء، ثم هدم جدار جامع مرجان وازالة مقام (امام طه) في العاقولية ونقل رفاته تحت جنح الظلام الى سلمان باك.

وفي صبح اليوم التالي بدأ بالتعديل اولا، ثم فرش الرمل والحصو الناعم ثم المشبك المعدني (بي آر سي) ثم التبليط بالمشبك الخشبي المدهون بالنفط الاسود كي لا يلتصق بالجير، واستمر التبليط شهوراً طويلة. وكان من ضحايا التبليط امين العاصمة نفسه، حيث نقل من منصبه الى وظيفة اخرى، وما ان انتهى التبليط حتى اصبح شارع الرشيد المتنزه الامثل لأهالي بغداد.