حضور الكاتب في نصه يتم عبر مظهرين، أما أن يكون حاضرا فيه بأفكاره ورؤاه وتصوراته بطريقة مباشرة، او متواريا خلف احد أبطال نصه السردي، أو أن يكون هذا الحضور مهنيا صرفا وهذا ما أشار اليه الناقد عباس عبد جاسم بقوله:"قد يكون حضور الكاتب نموذجا عاكسا لتركيبة الكاتب الفكرية والايدلوجية وتمثيل لوعي الكاتب في مجال الكتابة السياسية.. أما إذا كان وعي الكاتب وعيا مهنيا فالشخصية القصصية تتجه نحو وعي خاص بها تتحرك وفق خبرة هذا الكاتب في اللغة والحياة والتقصي الاجتماعي والتقني".
في رواية أطلس عزران البغدادي يضعنا الروائي خضير فليح الزيدي فيها أمام الأنموذجين معا، في قدرة الكاتب على أن يكون حاضرا في ثنايا نصه بطريقة مباشرة، متحسسا ومشاركا لكل ما يدور في أجواء وفلك روايته، تارة ساردا عليما، وتارة اخرى ساردا ضمنيا في الاثنين معا، وهذه تقنية تحسب له، إضافة إلى تقنية الصور التي رافقت المتن والتي عبرت عن أسلوب حداثوي تضميني، سعى من خلاله خضير فليح الزيدي إلى الابتكار والتجديد.
نقلت الرواية الواقع عبر عملية تبئير اجتماعية وسياسية، اقتنصت عدة صور من الواقع العراقي المتأزم، فتطلبت عملية تشكيلها وصياغتها سرديا، وعيا استثنائيا لإحداث تشابك وتعالق زمني، عبر مساحة مكانية محدودة المعالم والجغرافية، فاختار لها الروائي مسرحا يحمل في ثناياه عدة متناقضات تتلاءم حسيا مع طبيعة الشخصيات التي تحركت على خشبته، والتي أدت أدوارها وفق نسق حكائي هرمي تصاعدي، غلب عليه أسلوب التقطيع والتوقفات والانتقالات المكانية السريعة، تمثلت هذه القطوعات، بوثائق ويكليكس، وبتداخل ميتاسردي لرواية كان يكتبها الراوي عن قصة حب، بين فتاة بغدادية نورا مع سامر الذي كان يشاركها الانتماء الوطني والجغرافي، ويتقاطع معها في الانتماء الاثني، والذي كان سبب التأزم في تلك العلاقة الفتية .. إضافة الى وجود الرسائل كتقنية تضمين استخدمها الروائي لتعضيد فكرته بالدلالات الحسية والفكرية، والتي كانت ترسلها نورا الى الروائي نفسه، تتحدث فيها عن قصة حبها لسامر.
احتوى المتن على عدة قصص وحكايا وسير ذاتية جانبية، تفرعت عناوينها وتشابكت أحداثها وتنوعت، لكنها كانت تصب في نفس القصدية التي كان يرمي اليها الروائي، ويسعى نحو إبرازها ومن هذه القصص "قصة اليس رغيد اليهودي، قصة جمانة المسيحية، قصة طه ترتيب البهائي، قصة أركان الموسوي، قصة محمد رياض الوادي، قصة والد البطلة نورا، قصة بكر ابن عمها، قصة داود ناصرية اليهودي، قصة الحاخام عزرا، قصة الطيار المسيحي منير...."، تخللت هذه القصص أحداث كان قطبها "عزران" الشخصية الافتراضية والتي اختيرت لتكون أيقونة الفوضى والقتل والدمار والإرهاب والفساد، الذي شهده العراق بعد الاحتلال الأمريكي 2003 وبالتحديد في مرحلة الحرب الأهلية، بين عامي "2006-2008" زمن أحداث الرواية.. فلم يكن عزران يمثل سوى هاجس يومي يعيشه العراقيون بمختلف مشاربهم ومذاهبهم، في أزقة بغداد وشوارعها واسواقها ونواصيها، هاجس ألفوه رغم خطورته وبشاعته، فهو فكرة حملتها الذاكرة الجمعية البغدادية كتعبير عن الفوضى والقتل، وهذا ما عبر عنه عباس مخلوف صاحب المقهى البغدادي القديم بقوله "أخوان فكرة الطنطل العراقي موجودة من ايام العصملي وتطورت الى عزران يظهر في النهار وليس في الليل هذا هو الفارق ببساطة.. من يعلم ربما هو جالس بيننا الآن".
وفي موضع آخر من النص يصف الكاتب "عزران" شبح الحياة البغدادية – فيها استطاع طرد/ تهجير/ قتل آلاف المساكين المرعوبين من المظروفات الرسمية المغلفة بإحكام والتي وصلت إلى الذوات المرعوبة".. هذه الشخصية الخيالية التي تعددت الرؤى والتصورات نحوها، كانت تمثل قطب الرحى الذي دارت عليه وحوله أحداث النص الروائي، وتشظت هذه الأحداث وتشعبت لتلامس الجرح العراقي الغائر في أعماق التاريخ، وتكشف الجزء المظلم من الأحجية العراقية، لتشير هذه الرواية إلى جدلية تاريخية سياسية متداخلة ومتأصلة في النسيج الاجتماعي العراقي، رافقت العقل الجمعي العراقي لقرون عدة تتمظهر بين الحين والآخر، عبر عدة تجليات تفرضها عوامل استثنائية تفرض عليها هذا التجلي والحضور القسري، هذه الجدلية هي "أزمة الهوية والانتماء".
تضمن النص عدة رحلات مادية وأخرى فكرية وحسية افتراضية، كان أبطال النص فيها أصوات حائرة مسافرة، تبحث عن ضالتها وسط فوضى الخوف والقتل والإرهاب:
1-
رحلة نورا وسامر في بحثهما عن اليس رغيد اليهودي، في أزقة بغداد القديمة، بتكليف من منظمة أخوان الإنسانية التي يعملان فيه.
2-
رحلة اليس رغيد اليهودي، الذي يمثل بقايا اليهود العراقيين العالقين على أرضه، والمتشبثين بانتمائهم التاريخي له.. كانت رحلة افتراضية رمزية، في محاولة منه لإثبات انتمائه وتحديد معالم هويته الوطنية.
3-
رحلة نورا وسامر في البحث عن حب حقيقي بعيدا عن التخندقات الطائفية والاثنية الضيقة، وما افرزه الواقع العراقي بعد الاحتلال من تشظي وصراعات.
4-
رحلة اليس رغيد في بحثه عن داود اليهودي آخر يهود مدن الجنوب العراقي، المتواري خوفا من القتل او التشريد .
5-
رحلة طه ترتيب المزدوجة.. الأولى رحلته اليومية بين نفايات السفارة الأمريكية، بحثا عن رزقه وبعض الأسرار التي تحويها تلك النفايات، والأخرى في بحثه عن ذاته وانتمائه وهويته، كونه من بقايا الطائفة البهائية في العراق.
6-
رحلة عزران البغدادي الافتراضية اليومية في شوارع بغداد، لنشر القتل والخوف والفوضى.
انتهت معظم هذه الرحلات بالفشل، وآلت الى مصائر حزينة مؤلمة كنتاج طبيعي للوضع القائم هنا .. إلا رحلة عزران البغدادي التي مازالت تسعى للحفاظ على ديمومتها وحيويتها وبقائها، لتشكل وشما مرعبا في شوارع وأسواق بغداد .. فرحلة نورا وسامر نحو حياة زوجية سعيدة انتهت بالفشل والخيبة والهزيمة، التي جعلت كلاهما يتخندق لطائفته وبيئته، وثقافته الحتمية التي نشأ عليها.. ورحلة اليس رغيد اليهودي فشلت أيضا، وهو يسعى نحو تحديد معالم هويته المخصية، وانتمائه الوطني، كما أشار إليها الروائي في مشهد اخصائه، من قبل احدى الجماعات المسلحة.. كان فشل رحلة اليس رغيد مريعا مؤلما، شكل مفارقة حياتية وتاريخية قلما تتكرر على ارض العراق الحديث.. انتهت رحلته بمقتله على يدي شابين صغيرين لا يفقهان ما ارتكباه، غير إنهما أُدلجا لعمل ذلك، وقد صور الروائي مشهد القتل وما بعده بحرفية عالية، وتقنية فريدة من نوعها كشفت الجزء المتواري من هذا الانتماء القسري، الذي فرضه اليس رغيد على نفسه ليكون عراقيا رغما عن الأقدار "دخلت رسميا في سجل الموتى لجمهورية العراق الحالية باسمي القديم اليس رغيد خزام.. دخلت سجل دائرة الطب العدلي – دائرة الصحة بغداد- شعبة الجثث المجهولة في دائرة الطب العدلي .. كتب المضمد المعين في سجل سميك عليه شعار الجمهورية بنسره الاسود".
تضمنت الرواية استعراض لتاريخ يهود العراق، وشخصياتهم البارزة، واهم محطاتهم التاريخية والسياسية والاجتماعية، ووصف لمعابدهم وطقوسهم.. إضافة إلى الإشارة للطائفة البهائية ونشأتها في بغداد واهم رموزها ومعالمها.. فقد كانت "اطلس عزران البغدادي" رواية تسجيلية، لتاريخ الأقليات العراقية، اضفت عليها تقنية الصور المرافقة للمتن صبغة الروبرتاج.. فبالرغم من تشعب أحداثها والتي استمرت "237" صفحة من النوع المتوسط، إلا إن خضير فليح الزيدي استطاع الإمساك بكل خيوطها، وجعلها تقترب كثيرا من الرواية الابتوغرافية التعبيرية، والتي يتداخل فيها الكاتب مع نصه وأبطاله .. احتوت الرواية على بطاقات تعريفية لمعظم شخوصها بالتفصيل مع ذكر جزء من ماضيهم، للتعرف على طبيعة شخصياتهم وتبرير أفعالهم سلبا أو إيجابا.

أهم محطات الرواية:

اللغة: كانت لغة الرواية أنيقة نخبوية سلسة سردا، اما الحوارات فقد استخدم الروائي لها لغة هجينة بين الفصحى واللهجة الشعبية.. كما في هذا النص الذي يمثل حوارا لأحد حمالي منطقة الشورجة البغدادية :
-
اغاتي .. حتى لو انتهت الحرب ثاني يوم من الصبح تبدأ حرب جديدة .. قدرنا نموت مثل الدجاج المشوي في افران الشوارع.. شنسوي ابوية – قسمة ومكتوبة.
عُزز النص ببعض الانزياحات والمقاربات اللغوية والقرآنية.. كما في هذا النص الذي يمثل إحدى الآيات التي ابتدعها عزران البغدادي، وهو يراقب فرائسه اليومية في شوارع بغداد ( للرأس يدان طويلتان- لليدين أصابع تشير خلفه، للجسم ساقان نشيطان للمسير الثابت خلف كل هدف).
تميز نمط خط الكتابة المستخدم في متن النص بتنوعه، من حيث الحجم، ودرجة اللون الأسود، في بعض محطاته التي تمثل، عناوين الفصول .. كما تميز جزء مهم من النص، بلغة حداثوية علمية، تمثل شروحات عن طريقة استخدام أجهزة الاتصالات، ومصطلحات تقنية حديثة ومسميات تكنولوجية، والحديث عن برامجيات وتقنيات حواسيب وهواتف محمولة، وطرق عملها واستخدامها، وذكر بعض التفاعلات الكيميائية بصيغها العلمية المجردة .. كما في هذا النص الذي يشرح فيه الكاتب برنامج استشعار الخطر الذي وضعه اليس رغيد اليهودي في هاتفه المحمول قبل مقتله (حسب تعليمات التشغيل تتفاعل على الفور كيمياء الدماغ البشري، مع الحوافز المادية للمادة - رموز كيميائية- نترات الامونيوم النشوية + ملح البارود.. او نيتروغلسرين ذات تفاعل الكيميائية السريعة....".
من سمات هذا النص هو وجود القطوعات والتوقفات، والتي تمثل صور ذهنية، وجمل تواصلية وصفية، وسجلات ومحاضر واسماء شخوص، وأسماء أماكن ومدن، وأخرى تمثل تواريخ تم ذكرها بالتفصيل.. وقد أشار غريسمان إلى هذه التقنية بقوله "هناك توقفا يحصل في سرد الأحداث، يتحول فيها الكاتب إلى الوصف وهذا يعادل صفرا على مستوى الحكاية، وهذا التحول التوقفي هو تواصل نصي يربط وشائج النص".
أزمة الهوية: عانى معظم أبطال الرواية من عقدة الانتماء، وأزمة الهوية، التي تمثلت بصراع خفي ومعلن، بين الدين والمذهب من جهة، وبين الهوية الوطنية والانتماء الجغرافي.. تلك الجدلية التي لم تفارق العلائق الاجتماعية العراقية لقرون، وظلت تدور في فلك المحظور، افرزها التنوع الديني والاثني والقومي للأمة العراقية.. إلا أن هذه الجدلية كانت تجد لها حضورا تتجلى فيه من خلال مفاصل مهمة وحرجة من تاريخ العراق، وهناك شواهد تاريخية كثيرة على هذا التجلي، الذي عادة ما يكون سلبيا، يعمل على إحداث شرخ في اللحمة الوطنية العراقية .. وقد أشار خضير فليح الزيدي الى هذا المضمون، عبر عدة شخوص مثلت انتماءاتهم عبئا ثقيلا على كواهلهم، منعهم من الانصهار في المجتمع العراقي .. وهذا ما عبر عنه اليس رغيد اليهودي، حين استعان بهوية مزورة، واسم مستعار، كي يستطيع العيش في بغداد، إبان الحرب الطائفية التي اجتاحتها "إذن من الآن فصاعدا سيكون اسمي الرسمي البديل عامر موسى يوسف، شاطبا اسمي القديم اليس، المتجذر داخل روحي التائهة.. لكن المصيبة تكمن في عزران، فغالبا ما يأتي ليشطب اسم عامر من الورق، وبالخط الأحمر، ليضع مكانه اسم أليس رغيد خزام".. وكذلك ما عاناه طه ترتيب البهائي، ورحلته في التخفي والبحث عن الهوية في محلات بغداد القديمة.

عرض مقالات: