لم أقرأ لشاعر مشاكس للحياة مثل رياض الغريب، مشاكس حدّ الافراط.. يبتسم بحزن ويحزن بابتسامة، يكتب لمحاربٍ توهّم الشعر وخانته الهزائم، يفكر بحياة قيد الانشاء، حياة طحنتها الحروب لتتناسل بنهار ملغّم بوطن يشبه "الغريب".
"
لا أحد يشبهُ حالنا" عنونة المجموعة الشعرية فيها تراكمية لوجع وحزن وانكسار ذاتيّ، فيها تهشيم داخلي، وظلّ متورّم مأزوم من مخلفات يوميات تضيق في دائرة الحلم.. انه يبسط ما لديه للآخرين كشاهد على احداث تغصّ بانعكاسات مرايا، أطبق الصمت فيها على وحشة الحياة، أمنيات ذبلت وتساؤلات لم تجد لها غير نظرة باردة.
كلما انفجرت سيارة مفخخة
في ركن من البلاد
يتهشم زجاج بيتي
وتموت شجرة في حديقتي
لهذا
أقيم حدادا من الوجع
ومآتم لا تنتهي في قلبي.
بهذه التقريرية المباشرة التي أنصبت في توثيق حدثٍ مكاني لانفجار، اتسع مداه داخلياً وعلى وفق تقنية التأثير والتأثر بمجريات المشاهدة البصرية، يحاول الشاعر أن ينقل الينا صورة واقعية، إنه يحرضنا على التأثير المتناوب معه اتصالياً وبلا شعور ينقلنا الى مكانية الحدث من خلال المؤثرات الاستيعاضية كردّ فعل قائم، فهو يمتلك قدرة وبراعة في تحريك ادواته الفنية، حيث أن انفجار السيارة المفخخة في مكان ما من البلاد، اخذ حيزاً وبعداً متداخلاً لدى الشاعر، لاعتبارات تكرارية الفاجعة، وما تهشم زجاج بيته، وموت شجرة الحديقة إلا شاهدٌ على تلك المأساة الإنسانية، هكذا هي أوجاعنا مآتم وحداد لا نهاية لها، يوميات شكلت مقاربة في المشهد العراقي الضاجّ.
وأنا أسأل
لماذا عليّ أن اموت
ما زلت اسمع موسيقى مونومور
وأقرأ رواية توليتا
وأغامر قليلاً في شارع الوطني
يثير الشاعر فينا رسالة انسانية وتساؤلاً ذاتياً فيه خطابٌ مباشر يتحرّك على وفق نسقيّةٍ تنسجم والبنية الدلالية "وأنا أسأل، لماذا عليّ أن اموت"، هذا التحفيز على عدم تقبّل فكرة الموت القسري المؤدلج بمحرّضات خارجية، لا يمكننا ان نتعامل معها كونها تشكل فعلاً حياتياً ضاغطاً، مما كشف لدينا عن اشارة اعتبارية، تجسّدت في المقطع الآتي:
"
ما زلت اسمع موسيقى مونومور، وأقرأ رواية توليتا ، وأغامر قليلاً في شارع الوطني".
اذا الحضور يتجلّى ضمن "اسمع... موسيقى مونومور، أقرأ... رواية توليتا، أغامر... في شارع الوطني". ليكشف لنا عمّا تورّم في عمقه الذاتي من ندوبٍ لم تزل تشكّل علامات تؤدي الوظيفة الدلالية ولتضيء فحوى النصّ، لتحرّضنا على مشاطرته هذا التساؤل الصريح الرافض، ثمّ يؤكد بقاءه بـ "فتاة فلبينية" مديات أبعد مما قد نتصوّره من شمولية الخطاب بحواريته المتراخية التي تحرّكت على وفق مساحة منبسطة بشمولية الحدث والرؤية المتناسقة مع المقطع الاول ، هذا، البثّ جاء متلائماً بقوة التكثيف الدلالي الذي خرج الى قصدية النصّ.
في المقهى
يتحدث العابرون
عن التجاعيد التي نبتت في الطرقات
عن القلوب التي انقطعت عن الحضور
يقول أحدهم
لا اعرف قصته
منذ يومين خنقته التجاعيد بالأمنيات
كسرت غصن روحه الوحيد
استطاع الشاعر أن يمركز شيفرة التجاعيد ضمن مدارات استقطابية جاذبة، كونها تحمل اوجاعاً لا يمكن التخلص منها وهي دلالة على الشيخوخة المبكرة التي جاءت نتيجة تأزمات نفسية حادّة شكلت اغترابات روح في فضاءات الحياة، "المقهى" هي مركز الانطلاق، والبحث والرؤية التي بدأت تكشف عن ماهيات الانكسار الباطني الغاصّ التخمة "انقطعت عن الحضور، خنقته التجاعيد، كسرت غصن روحه، غصّ بحكايته، هل لديك قبر". كل هذه التراكيب اشارة الى الانعكاس الذاتي المتورم، لذا مال الشاعر الى جعل المتحدث: "العابرون، احدهم"، رغبة منه في هذا التوظيف الذي يكسب الجملة الشعرية ايحائية اكثر دقة.
إنك مغامر كبير
وعليك ان تمضي للنهاية
هي مجرد حرب قصيرة
سأعود منتصراً
وأنت مواطن صالح للحروب
وأولادك مهيئون تماماً
لما افكر به
لقد شكّلت مفردة الحرب لدى الشاعر انعكاسا يوقظ في نفسيته شحنات سلبية، فهو متخمٌ بها، حدّ الجنون والهوس، رافضٌ لمنطقها شكلاً ومضموناً، لكنه لا يمكن أن ينسلخ عنها، لأنها تركت فيه آثاراً لا يمكن له أن ينتزعها من جسده وروحه، ولا يقدر ان ينسى ساعاتها ودقائقها، فهي تزحف في عمقه الذاتي حبلى تتكوّر، دون أن يستطيع الافلات من شرنقتها، انها تراكمات ومخلفات ثقيلة وقاسية، الشاعر "الغريب" يشعرنا بارتياحه التامّ حينما يجسّ مكامن البوح، وهو يرى أنه عالمه الخاصّ الذي يعتمل في داخله، وحده قادر على رصف انزياحاته الدلالية، فكلما اقتربنا منه انفجرت فيه اختناقات وطن، هو يقف على مسافة قريبة جداً منه، يسجل يومياته دون ان يكترث لما تؤول اليه الاحداث الساخنة، وأنت تقرأ له تجد "مغامر كبير، مواطن صالح، الرئيس يقودنا، المذيع يقول"، مهيمنات اشتغالية تدفعه الى نشوة الانتصار والشعور بلذّتها، لكنها لذّة موهومة غير مكتملة، فالمواطنة أكلتها الحروب، والأبناء لم يستطيعوا الانفلات من رحاها، ودكتاتور الحرب شاخص لا همّ لديه سوى فكر مريض يغرينا بطيش الانتصار.
استطاع الشاعر أن يتحرك ضمن لغة شفيفة، ذات مجسات انسيابية متراخية، انه "السهل الممتنع" الذي مال اليه اسلوبياً، كي يمنح النصّ الشعري روحاً تعيش في منابت القارئ ، الفاعل.
يبتعد الشاعر عن ضجيج الحرب وشيفراتها الضخمة، كونه إنساناً اختبرها كمحارب خاسرٍ، ودخل في أتونها وذاق ويلاتها، فأثرت فيه بكلّ تفاصيلها، لذا حمل بين طيّاته رسالة ذلك الوجع، أنه يميل الى توثيق وأرشفة الحرب حسب رؤية شاعر متمرّس.