ينتمي عبد الكريم العبيدي إلى جيل احترف الكتابة بوصفها بديلاً عن الموت والتشظي، فهي الإكسير العابر للمحن والحروب والحرائق التي اعتلت المشهد العراقي إبان جولات النظام السابق وصولاته الخاسرة، وبعد أن كان الشعر سجلاً تراجيديا لمآثر العرب، وأوجاعهم وآمالهم. صار السرد الغريب عن هيمنة المشهد الأدبي العراقي بديلاً أصيلاً للتعبير عن كل ذلك. مع ملاحقته تفاصيل لا تستطيع الأجناس الأخرى ملاحقتها وتسجيلها. ولهذا كانت مدونة العبيدي الحاصل على جائزة كتارا في دورتها الاخيرة عن روايته "اللحية الأمريكية، معزوفة سقوط بغداد"، أنموذجا حيا لذلك المنحى الذي يسجل قضايا الإنسان "المهمش" المغلوب على أمره ويصور صراعه غير المتكافئ مع السلطة والحروب والقوى الاقليمية وغير الاقليمية ذات الهيمنة العليا.
كان لنا حوار مع الروائي عبد الكريم العبيدي لنكتشف تجربته الروائية المتميزة.

لمن يكتب عبد الكريم العبيدي؟ وبمن تأثر في البدايات والنشأة؟

ثمة مسؤولية ثقافية وأخرى أخلاقية حملتهما معاً على عاتقي منذ دخولي الى عالم الرواية. فهناك مناطق عديدة غير محروثة عشتها في عهد مكمم استبدادي شديد القسوة، وبات علي أن أقوم بعملية الكشف والفضح كشاهد أولاً ومن ثم كروائي. ربما فشل التاريخ في مهمة كهذه، وبات على الروائي العراقي أن ينوب عنه، رغم أن رواياتي ليست تأريخية بقدر ما هي مصادر شهاداتية لا يمكن للمؤرخ أن يتجاهلها حتى لو لم يعول عليها كسند تاريخي.
أظن أن رسالتي كروائي هي صنع مؤثر فاعل في الحياة والثقافة وبناء الانسان والمساهمة في خلق الجمال، وهذا المؤثر يأتي من الصناعة السردية المعول عليها اعادة خلق الوقائع والشخوص والمدن بخطاب يتسلل الى المتلقي ويحثه على المتعة والمشاركة والتفاعل والخلق. أظن أنَّ معرفة ضياع الوطن والخلوص له، تتطلب فهم أصغر المزالق، أكثرها تعذّراّ على الوضوح، هذا ما أردت قوله في كل رواياتي وأظنني نجحت.
في نشأتي الثقافية جرفني "أرثر رامبو" الشاعر الفرنسي الى عوالمه الشعرية والحياتية معا، وأظنه لا يزال.... كذلك جذبتي الوجودية بكل عوالمها وفلاسفتها وكتّابها وأظنها لا تزال. أما على الصعيد السردي فقد أعجبت بروايات ميلان كونديرا، وهيرمان هسه. وعربيا أعجبت بروايات حنا مينا، والطيب صالح ومحمد شكري وغيرها من الروايات ذات المشاهد السردية الصادمة كما هي الحال في رواية فاضل العزاوي القصيرة "القلعة الخامسة". والمسألة ليست متعلقة بطول الرواية وقصرها وانما متعلقة بحرارة السرد.

القارئ لخطاب العبيدي السردي يجد صبغة جديدة في عالمه السردي بماذا تعزي هذه الصيغة وكيف تفسرها؟

عبد الكريم العبيدي الانسان هو ابن الحروب وضياع أجيال عراقية كثيرة، وهو ذات تفاعلت بشدة منذ وقت مبكر مع كبار الفلاسفة والمفكرين والأدباء والكتاب والفنانين، وفي جعبته خزين هائل من الوقائع والأحداث، كما تكتظ ذاكرته بأشرطة حياتية وتاريخية تترى، ومن المؤكد أن يكون هذا "الانسان" مصدرا أساسيا مغريا لكل رواية، وقد تصطف وتتنافس سيرته الذاتية مع أي مصدر معلوماتي خارجي، بما فيها سير حياة المدن والأمكنة والأشخاص الآخرين. لقد صرتُ على يقين، إنني حين أنسى جراح الحروب، أو أحاول أن أتذكرها وأفشل، سيكون واحدا من اثنين، اما أن أكون ميتا، أو أن العراق يمر في عام يخلو من دم! لكنني أتعامل مع سيرتي الذاتية بعين سارد، فأصنع الحدث من داخل الحدث وأنتج منه صوراً سردية جديدة محبوكة بوحدات نصية منقوعة بالخيال ومفعمة باللمسة الشعرية التي تشتهيها الذائقة الجمعية، ولطالما عشت محنة خلق الأزمات المحزنة بقوالب مرحة تزيد من وقع مرارتها من جهة ويتفاعل معها المتلقي بمزاج رائق من جهة أخرى، وأحسب أن أمراً كهذا يحتاج الى مهارات كبيرة والى قدرة سردية غير عادية في الخلق والابتكار.
شخصياً لا أميل الى الابتعاد عن شخوص الرواية ووقائعها وأنصِّب نفسي آمرا ناهيا، بل أقترب منهم كثيرا وأتوغل في سهوب الوقائع ومجرياتها وأشعر بتوأمة لذيذة، أنا والرواية وشخوصها ووقائعها داخل رحم يسعنا ويبيح لنا التشارك في مشيمة واحدة.

اين تجد الرواية العراقية بعد 2003 من الرواية العربية والرواية العالمية؟ ومن هم كتاب هذه الحقبة؟

اتجهت الذائقة السردية العراقية بعد التاسع من نيسان عام 2003 الى الاطلاع على "المكمم" من حقب زمنية مغيبة وحبيسة، ونجحت الرواية في سردها وفضحها وتصويرها ببراعة. كما اصطف مع تلك الحقب راهن دموي مرعب يتصف بالانهيار والتفكك والضياع، فلجأت الرواية الى معايشته وتناوله في آن، ومن هنا برز عدد من الروائيين العراقيين المبدعين حملوا الرواية الى مطافات عربية وعالمية، وها هي الرواية تشهد قفزات مدهشة وسريعة.

طغت سمة السخرية والتهكم على كتاباتك. بم تفسر هذا الاتجاه في نصوصك السردية ونصوص غيرك من الكتاب العراقيين؟

واقعية هذا البلد هي فنتازيا بذاتها، ساخرة ومتهكمة من ذاتها، وحين أسردها أجدني أشاركها التهكم والسخرية. وقد أسخر منها، ربما هي تجرني الى ذلك. فأنا ابنها. وهذا ما جناه العراق علي!

قرأت لك رواية ضياع في حفر الباطن وهي روايتك الأولى المتميزة ، فهل يمثل الراوي فيها المؤلف نفسه؟ أهناك شخصيات حقيقية أم انصاف حقيقية؟

السرد كما هو معروف يشتغل في اكثر من اتجاه، إما أن يكون الراوي محايدا يخلق شخصياته، أو يكون بطلا مشاركا.. وهناك نوع ثالث أنا اشتغلت عليه في "ضياع في حفر الباطن"، على جانبين، فمن باب انا الراوي صاحب التجربة نفسها وأنا المؤلف ومن باب آخر أن أحد ابطال الرواية هو الاقرب الى الراوي ومن هنا خرجت من رواية السيرة الذاتية فهناك شخصيات أخرى واحداث معينة دخلت في الرواية وفرضت نفسها على الرواية، مثال ذلك هادي العاشق فهو غير موجود في حفر الباطن بل في حروب أخرى غير حفر الباطن.

أي الروايات أقرب إلى نفسك؟

رواياتي مثل "بناتي" لا أستطيع تفضيل إحداهن على الأخرى فكل رواية تمثل جانبا من حياتي أو من شخصيتي أو من تجربتي ورؤيتي للحياة.

لجائزة كتارا أهمية في المجال الروائي. أيعد فوزك بها نهاية المطاف؟ ام هناك ما يطمح اليه العبيدي؟

من المؤكد أن فوزي صنع ما صنع، وقد وضعته هو ودرع الجائزة على الرف. وعدت الى اكمال روايتي الجديدة منذ فترة ليست قصيرة. لدي مشروع روائي، وكتارا محطة فاعلة فيها ولكنها محطة وليست نهاية المطاف. لكن مأساة المبدع العراقي هو انتظار الاشارة الى ابداعه من الخارج! ثمة وهن وكسل واقصاء. وعلينا أن لا نعزل تدهور الفضاء الثقافي عن التدهور العام. وقلت مرارا أن الجائزة الرصينة هي التي تبحث عن المبدع وليس العكس. وإذا ما شرع الروائي بنصب قوالب خطاب الجائزة وكتب روايته فستفضح سريعا، بل أن روايته ستكتظ بمناطق رخوة وغير واقعية، ربما كُتبت لمغازلة الجائزة فوهنت حقيقتها ولبست ثوب الجائزة والاقتراب من مكافأتها. ولكن علينا أن لا نغبن دور الجائزة في الاشارة الى الابداع الحقيقي والترويج والاشادة به ونشره عالميا.