يُعدّ التّوظيف المكثّف للغة الشّعرية في الخطاب الرّوائي مظهرا من مظاهر الحداثة في الرّواية العراقية الجديدة، وتنزاح لغة الخطاب الرّوائي الما بعد حداثي عن تقريرية لغة الرّواية التّقليديّة وبساطتها إلى لغة إيحائية مليئة بالمجازات والاستعارات، بينما تشكّل الاستعارة في الرّواية الما بعد حداثيّة إحدى الدعائم اللّغويّة للخطاب. ويدخل النص الروائي عند الروائي حميد الربيعي ضمن هذا المدخل أعلاه، فهو مليء بالدلالات الإيحائية، حيث يكتب بتقنيات عالية، وحين تنجز الرواية عنده تشعرك أنه يكتب بغيرية تجاوزية المعنى فهو يتقفى خلال إنتاجه الإبداعي كل مستويات التحديث، وعليه فان هذه الرواية هي من ضمن الروايات ذات النضج الفني المتميز لما يمتلكه كاتبها من طاقات إبداعية مهمة، وقد أراد الكاتب بطرح العديد من التناقضات بين المدينة تاريخيا "الذات/ الحلم" وطبيعة فعل تغير الزمن والحروب عليها، بحيث تحولت الأمكنة إلى خراب ومزابل بعد أن كانت حواضر يكتبها التاريخ بأبهى التوصيفات.
ويسوق لنا الكاتب خرائب أمكنة كانت تعج بالراح والراحة وقصص النساء الجميلات، وأيضا كشف هذه الأمكنة من الداخل وحديث الذكريات "الايروتيكية" وكشف جوانب في السرير "جمال وفورة الجسد الانثوي" في شارع "أبو نؤاس".. وهو المفتتح القرائي للنص "أحمر حانة" هذا الكشف والرصد عنوان يحمل العديد من الدلالات الشعبية والسمات الفنية الكبيرة التي تندر بقوة الكاتب في ابتداع نصه القريب من الخطاب السردي الروائي المثير للسخرية والتهكم. وهكذا فالمكان لم يعد حسب الرواية مجرد فضاء يتحرك فيه وانما هي سرد مالم يقال من أحداث بل هو مسرح الحدث لكافة الشخوص.. ذاكرا "الادارسة "ادريس العاشق القادم من العمارة" ثم تشظي هذا الاسم الى عدد من تلك الأسماء والتي تشترك في الفعل السردي ذاته وحيث طبيعة الأحداث أراد لها الكاتب ان تكتب، ثم يشير الكاتب كذلك الى قضية تاريخية لسكان "الكرخ/ الرصافة" تاريخيا والدلالة الحقيقة للصراع بين المفاهيم المعاصرة والطائفية لرسم خرائب جديدة.. ويمكن للقارئ ان يقرأ ذلك في كتب "ابن الأثير /الجاحظ/ الخطيب البغدادي" وكذلك قصة الاسكندر المقدوني وحكاية مدينة "خاراكاس".. كل الذي جرى للمدينة المدورة ورؤيتهما جميعا الى بغداد اليوم وخاصة قضية "الفرهود" الدخيلة على المجتمع العراقي صاحب القيم والأعراف الاجتماعية الرائعة كانت تصدع الرؤوس..
"سيدخل ابن الأثير المدينة المدورة من بابها الشمالي الذي تحول الى خربة لقد أزيلت الأسوار منذ أمد بعيد، تراءى له انه يلج مدينة جديدة لم تطأها قدمه من قبل، لقد بدت له موحشة من كثرة الأطلال التي تمثل حضارة منقرضة...".
اقتباس:
"هنالك ولدت يا ادريس، فتحت أمك ساقيها بعدما قعدت على حافة الهور فاسحة المجال لانزلاقك من رحمها، في البدء صامته تضرب رحمها بقبضة يدها...".

تداخل الأنساق الصوتية:

ما أود التركيز عليه هو تداخل الأنساق الصوتية في هذه الرواية وفي مفاصل متعددة، لاحظ:
"الريح تهب جافة، تكنس بعض الأوراق والأسمال البالية، تترك في زوايا البيوت المهدمة طنين أصوات بشرية، الصدى والريح يتحول بفعل الأيام إلى تهويمات، الغيوم البيضاء تركض مبتعدة على ارض اليباب، ترعد ولا تبرق، عبر الماضي الذي يطوف في الأرجاء، وعند ساعات المساء يصير أنين يصاحبه ناي يعزف عن بعد حياة سابقة...".
أيضا هناك مقاطع من الرواية وهي تساهم في تنمية بؤر السرد التي تؤدي الى تعدد فضاء الحركات الزمانية والمكانية وقد هيمن على هده الإحالة السردية صوت الراوي تداخلا غرائبيا، إذن هكذا رسمت الرواية معالمها الغرائبية بشكل جيد وأوصلت وجهات نظر مختلفة للمتلقي من الرمزية والدلالة غنية في مشاكلة المعنى..

اقتباس:

"كان يا ما كان دخل اثنان الى حانة شبههما الساقي في لحظة الدخول بالديك والغراب طلبا زق خمرة، نهرهما وشتمهما الساقي عدة مرات ولما خرجا رفض نقودهما القديمة، كان يريد الدينار الذي يذبح الطير.. ذهب احدهما وبقي الآخر رهينة...".
"أحمر حانة " رواية تطرح كثيرا من الأسئلة بل طوفانا من الأسئلة، تجعل الذّهن يتّقد والفكر يتأجج، ويسرح في مفهوم الزمان والمكان "الواقعي/ المتخيل"، وتتجوّل في أبعاد الذّات الإنسانيّة غير المكتشفة، امتزج فيها "الموضوعي/ الذاتي"، فالتحما التحاما عضويّا متينا، وغلبت الحكاية على الحبكة والعقد المشوّقة التي يمكن أن تستهوي عامّة القرّاء، ولذلك فهي رواية تستقطب بالأساس مدونات متنوعة والشبيهة لطريقة سرد حكايا الف ليلة وليلة..
أقول إن رواية "احمر حانة" جديرة فعلا بالقراءة والتحليل والوقوف على ظاهرة أدبية جذبت انتباهنا عند قراءتها والتعرف على عوالم الصور السردية التي تدور في فلك الواقع/ اللاواقع والمرئي/ اللامرئي والخروج عن المألوف أمام أحداث خارقة في الرمزية، والتي لا تخضع لما يسمى قانون العقل والوعي ولكنها حدثت، سردها كاتبها عبر خاصية العوالم الغرائبية لتأخذ على عاتقها مهمة صعبة كشف "الحقيقة"، اذن هي تبحث عن الخلاص للمدينة والإنسان معا.
والمؤلّف هنا وبكل جرأة استعمل في هذه الرواية البناء الروائي ولكن أسلوبا جديدا، ضمنه لعبة التخيل والتحويل والتشويق وتبادل الادوار، ويجد القارئ نفسه في حيرة بين عالم الحقيقة و عالم المجرد اللامحدود، وقد وفق الروائي حميد الربيعي إخضاع النص ومنحه تقنيات حداثية، وانفتاح النص وتأطير مسيرته في تشكيل الخطاب السردي المتميز، وراح يرتقي إلى بناء العوالم الجمالية اللانهائية وراء المشاهد العجائبية والرؤية العميقة في تشكلاتها المختلفة من مظاهر الإبداع الفني الروائي.
الرواية لا تقدّم حدثا معتادا كما يصرّح بذلك المؤلّف نفسه أثناء عمليّة السّرد، بل تقدّم أسئلة فكرية مادتها التاريخ، وفهم أبعاد المكان والزمان للمدن بأبسط تفاصيل الحياة، هي رؤية "الذّات" المنكسرة للمدينة والإنسان وعلاقة ذلك بالسلطة، تجعل المتلقي يرى بعين ثاقبة، حتى ولو كان هو أحد مشاريع الكاتب - هذه المسوخ..
لقد استطاع الكاتب أن يسرد في فقرات نصه هذا النوع من السخريّة المريرة ومن الوجوه الباهتة من قاع المجتمع، بينما على الجانب الآخر من النهر اللصوص وجامعي الثروات المهدورة في إسراف وتبذير لا مثيل له. هو في الحقيقة الرأي السّائد والانطباع العام عند عامّة النّاس سبب دمار وخراب البلدان. وربّما كانت أغرب الصور السردية التي ختم بها الكاتب روايته، وجعل منها أغرب طريقة للانتقام، هي أن الذي يتصدّى للظلم.

اقتباس:

"الملائكة السبع الواقفون أمام الكراسي قد أعطوا سبعة أبواق وحالما نفخ في البوق السابع تكون النهاية قد أتت، عندها سيقف بعيدا عن المدينة كل قبطان سفينة وكل راكب وعندما يرون دخان احتراقها سيصيحون: أي المدن كانت مثل هذه المدينة العظيمة"؟
في الختام، رواية "أحمر حانة" هي رواية جاء تميزها من مادتها الحكائية وأسلوب سردها إذا ما وضعت في سياقها الزمني، بالنسبة لإنتاج كاتبها، كما أنها على قدر كبير من الجودة مقارنة مع المنجز الروائي في التاريخ نفسه ، وبالنظر إلى ما هي عليه من إبداع أدبي ولغة شاعرية راقية ومحور صراع متجانس وناضج، مع النمو المضطرد والمتوازي للأحداث ذلك الذي يشد القارئ بجاذبية جميلة بما فيه من مفاجآت وغرائبية، فيها كثير من اللطف والدهشة والجمال، يغلف كل هذا في أسلوب الكاتب الراقي والمبدع، وقد بدا أكثر إشراقا ومرونة وشاعرية. وما الإبداع الأدبي إلا ثوب جميل يزين المواضيع المنتقاة، المواضيع التي يمكن أن نختلف حولها، إلا أن الأصل في الإبداع الأدبي هو اللغة الراقية والأسلوب الجميل مع المعالجة الفنية الناجحة والمقدرة على حبك الأحداث بطريقة راقية وجذابة تدهش القارئ وتأسر مشاعره، وتروي ظمأه، وتنعش ذائقة المطالعة لديه. ونعتقد أن هذا ممكن التحقيق ويمكن ملامسته عند أحد أهم كتاب الرواية المعاصرة.