مرت قبل أيام قليلة الذكرى العاشرة لرحيل كاتب ومفكر عراقي لم يأخذ نصيبه الكافي من الشهرة في وطنه العراق، لكن كتاباته وتنظيراته وأفكاره التي لا تشبه أحدا جعلته في طليعة الكتاب العرب الذين يحملون رؤى فكرية مختلفة، أكثر انفتاحاً وتنويراً في الزمن الصعب، إنه الكاتب والمفكر أمير داود الدراجي المولود في مدينة الناصرية عام 1948والتي عاش فيها طفولته وشبابه حتى مغادرته العراق والعودة اليه بعد عام 2003 حاملا الحنين والذكريات ولوعة المنفى الطويل، لكنه ما لبث ان عاد الى المنفى من جديد بعد شهور قليلة.
قرأ الدراجي مؤلفات نيتشه وديكارت ودستويفسكي ولوركا وبودلير والسياب والبياتي وحسب الشيخ جعفر وانسي الحاج وآخرين من العباقرة والمفكرين والشعراء، ولمّا نضجت أفكاره لم يتحمله أصدقاؤه من المثقفين جراء ما يدلو به من أفكار تكاد تكون صعبة وغير مألوفة وتبتعد عن السائد والمعروف، ولهذا شد رحاله أوائل السبعينيات من القرن الماضي الى العاصمة اللبنانية بيروت ونذر نفسه في الدفاع عن القضية الفلسطينية لسنوات طويلة كفدائي ومناضل همه الوحيد نيل الحرية إلا انه لم يفلح في ذلك، وقد عانى سنوات طويلة من إصابة في ساقه اليسرى في واحدة من المعارك التي دارت أثناء الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982 الأمر الذي حدد حركته بعض الشيء على الرغم من العمليات التي أجريت له ولهذا شد الرحال مرة اخرى الى بلاد الثلوج والجمال والنوارس النرويج ليؤسس مملكة خاصة به ويحركها كما يشاء رغم الثلج والبرد على طول السنة.
عند وصوله الى النرويج منذ ما يقارب العقدين كان قد جاب المنافي الكثيرة، وقبل أن ينتصر عليه المنفى بشتاته ووحشته استخدم الدراجي اسلحة مضادة تكاد تكون شبه خيالية بتفتيت ذلك المصطلح الكلاسيكي والذي يسميه البعض الغربة/ المنفى وما تراكم عن سلوكيات البعض جراءه ، لقد كيف نفسه للعيش بسعادة يحسده الجميع عليها، أنه الأبن البار للعراق الحزين الذي تعاقب الطغاة عليه من أجل تدميره . يعتقد الكاتب والمفكر أمير الدراجي كما يعتقد نيتشه حين قال بأن الفضيلة تكافىء نفسها.
كان الدراجي منذ السبعينات يكتب ويتحدث عن المواطن الكوني وأن هذا الشعور قاده الى محاولات لتأسيس أفكار تقترب من العنصرية وحتى منتصف العقد الثمانيني انتبه الدراجي وهدم كل شيء ذاتي، فيقول في حوار مطول كنت قد أجريته معه بداية عام 2002 داخل العاصمة أوسلو عندما كان يقوم بزيارتي كل اسبوع قادماً من مدينته النرويجية "كونك سفنكر" التي تبعد عن اوسلو 90 كم والتي دفن فيها بعد رحيله عام 2009 على اثر مرض مفاجئ لم يمهله طويلا.
يقول الدراجي متحدثاً عن وطنه العراق بطريقة ثاقبة للأشياء تدلل على درجة عالية من الوطنية وحب الوطن: "الناصرية أو العراق هي وطنية ليست بمفهوم الموز، أو بربريات الإنسان الابيض، او طوطميات التومن الأفريقي، العراق والناصرية على وجه الخصوص اكتشفت انسانيتها وكونيتها، لذا لا أنتمي الى العراق باعتباره ثنائية حزبية، معارضة ولاء، ولا أنتمي الى مفهوم متوتر حروبي يستغفلنا من قبل مجموعة من الأميين ثقافياً والمفلسين أخلاقياً والجهلة انسانياً.. وطننا هو رسالة كونية ثقيلة العيار، حتى الآن لم أشاهد تماثلاً له في أي رمز سياسي أو ثقافي إلا ما ندر هناك قطوعات مخيفة في الضمير والوجدان الحضاري لهذه البلاد التي ما تزال حتى الآن أمبراطورية الذاكرة البشرية، لهذا لم يمثلها ولا يعرفها أحدا ولم يتوصف وطنياً أي احد بما يليق بوزنها".

عرض مقالات: