شاعر حملت قصائده هموم الناس قبل أن تحمل همومه وأحزانه، مناضل أخلص لوطنه وشعبه، كان انتماؤه الى اليسار العراقي منذ بدايات شبابه قد رسخ لديه قناعات في الثبات على المبادئ والقيم التي تعلمها عبر مسيرة نضال طويلة، هو شاعر الحب والإنسان والثورة، انه الشاعر الكبير عريان السيد خلف الذي رحل عنا قبل أيام قليلة من نهاية عام 2018 وقد سبب رحيله صدمة كبيرة لمحبيه ولكافة ابناء الشعب العراقي، فالكبير والصغير حفظ قصائده وأحبها. لقد حزن العراق، كل العراق على رحيله المؤلم ودجلة أصبحت ثكلى، الفرات توشح بالسواد، النخيل حزين، الأشجار حزينة، الطيور حزينة، كل شيء في العراق يلفه الحزن وحتى السماء كانت في يوم رحيل الشاعر حزينة.
عريان السيد خلف المولود في مدينة الناصرية منتصف الأربعينيات خلف وراءه تركة شعرية كبيرة وحبا عظيما في قلوب العراقيين لم ينله شاعر من قبل. لقد كان لصدى قصائده الأثر البليغ داخل نفوس الناس منذ أيام اعتقاله في سجن الحلة بعد الانقلاب الدموي في شباط 1963، كتب قصيدته الشهيرة "وركات البافرة" عن صديقه في السجن الذي أراد ان يكتب رسالة لأهله في الموصل على وريقات البافرة، القصيدة حفظها العراقيون وترنموا بكلماتها. لم يرضخ الشاعر عريان السيد خلف لنظام القمع رغم المضايقات الكثيرة التي كان يتعرض لها واستجوابات الأمن في فترات الثمانينات والتسعينات بل كانت قصائده عبارة عن سهام حامية تقض مضاجع النظام وأزلامه في مناسبات كثيرة!
رحيل الشاعر عريان كان بمثابة خسارة وفقدان مُني بها الوسط الثقافي وكل طبقات المجتمع التي أقامت العزاءات في عموم العراق وخارجه ولم يشهد العراق ونخبه الثقافية إجماعاً على شاعر مثلما اجمعوا وحزنوا على رحيل الشاعر الذي ستبقى قصائده نبراسا في سماء القصيدة الشعبية العراقية تعلمنا كيف نعشق الوطن والناس؟ وكيف نعيش بسمو وشموخ؟
التقيت الشاعر لأول مرة في أواخر السبعينيات وكنت فرحا بذلك اللقاء وبعدها تكررت اللقاءات به في اتحاد الأدباء ، وفي عام 1995 وأنا أدخل مقهى العاصمة بعمّان شاهدته جالساً وكان اللقاء بطعم الوطن، أكثر من شهر في تلك السنة كان عريان السيد خلف ينثر علينا قصائده الجديدة التي لم نسمعها ويجهز لطباعتها بكتاب شعري جديد اسمه "صياد الهموم" وهو عنوان قصيدة في المجموعة، قام بإرسال نسخة من المجموعة التي اطلعت عليها كمخطوطه الى دمشق حيث صديقه ورفيقه الشاعر الكبير مظفر النواب الذي كتب مقدمة رائعة عن المجموعة وقام بإرسالها، كانت جهة عراقية معارضة للنظام في لندن قد تبنت طباعة كتابه الشعري الجديد، ومن خلال قراءتي لتلك القصائد الجميلة والنابعة من احساس فريد وقلب يتألم، يحاول ان يصطاد هموم الناس وهموم الوطن وهموم الحبيبة بذكاء شعري نادر لا يتقنه سواه فهو ابن الجنوب الذي أجاد وأبدع في توظيف كلمات صعبة ومعقدة من اللهجة الجنوبية "الحسجة" النابعة من الفرات ونخيله وشمس العراق وأهواره وقصبه، فاللغة تبدو شبه معقدة من بعض الكلمات إلا انه استطاع ان يذيبها في أغلب اللهجات العراقية التي تختلف أحيانا من مدينة الى أخرى.
في قصيدته صياد الهموم يصور لنا الشاعر شحة الأفراح داخل العراق أيام الحصار الذي ترك آثاراً سلبية كبيرة على العراق أرضا وشعبا، واستطاع الشاعر ان يخلق الابتسامة عنوة من الويلات ! بينما كان الصياد لتلك الهموم يسجل ويحصي هموم العراق ومصائبه في تلك الفترة الصعبة، صور شعرية تتقافز وتطير عاليا في فضاء الروح عبر أبيات القصيدة التي تشعرك بالروعة والجمال رغم الحزن الشديد الذي يلف القصيدة.
تغنى الشاعر بجيفارا الثائر وسلام عادل وهوشي منه وعبد الكريم قاسم والكثير من أحرار العالم وكان البارع في صنع قصيدة الحب التي تحاكي القلوب فقد لحن الكثير من ملحني العراق قصائده وغناها كبار المطربين على مدى عقود من الزمن ومازلنا نحفظها ونرددها.
يقول الراحل الكبير في مطلع قصيدته صياد الهموم:
ضمني ابليل ثاني وحل حلال الخِل
شحيحة افراحنه ودكانهه امعزل
البسمة انبوكها من الآه والياويل
وصياد الهموم بدفتره ايسجل!

عرض مقالات: