هل كان الشاعر زهير بهنام بردى يعمل على صناعة الغواية عبر تدمير سلطة الزمن والاحتفاء بالنساء كبديل أفضل؟ كفعل تعويضي للخراب الذي يعم الزمن الشخصي للفرد المستهلك للزمن ذاته، والذي بدوره لا يشكو من الانقراض، وعبر صناعة الجمال كجالب للغواية، وأن يحول هلامية الزمن إلى وجود ي أبعاد، متلبسا بالإنسان عامة، و بالنساء خاصة.
هل كان الشاعر ساعيا لإقامة قوانين كتابية جديدة؟ لا أعتقد ذلك، أن إقامة أنظمة كهذه تعتمد شكل القانون سوف تحول الكتابة بهذا الشكل أو ذاك إلى نسق، يمثل واحدا من اثنين، أما أن يكون نسقا منتجا للمنع ليتحول إلى ثابت، وأما أن يكون منتجا لنسق أشد منه قوة وقدرة على الإلغاء والتدمير والتطرف ليتحول كل من هذا وذاك إلى قوة قامعة لإنتاج اللا قانون وسط فضاء ينتمي إلى اللا تحجيم، حيث يتقدم الشاعر نحو منجزه الإبداعي متخلصا من منجزه الاتباعي.
ان تعدد الحريات الحياتية لا بد له من أن ينتج حريات كتابية، حريات تفكيرية، حرية ممارسة الفعل الحياتي، حرية الاعتناق، حرية القراءة وتخيل، حرية كتابة وهدم وتعمير، هذ الحريات لا تنتج الفوضى، بقدر ما تنتج إعادة تشكيل مفردات الحياة.
الشاعر هنا في "العاشرة نساء" لا يطلع من الواقع بل من اصداف الواقع، ومن درع سلحفاة الحياة المحتمية بقوة ثوابتها، حيث الإحساس بالأمن، لولا الخوف من الآخر، الإلغاء لما تسلح القنفذ بالأشواك، واللؤلؤة بالقوقعة، والانسان بالمخيلة،
هكذا الإنسان - البدائي والمعاصر - وسط الخوف يحاول أن يختفي، يتماهى خلف تمثال ما، وربما يتوقف عن صناعة مفروزاته من حب وكره، ومودة واحلام، إنها عملية إلغاء الأنا، لتحل الكوابيس والالغاءات، وسلطة الحس الجمعي، تمتع الشاعر بالحريات التي يوفرها الفكر المتداول، رغم خصوصيته يدفع به إلى أن لا يترك ما يتوفر له مما حوله من مهمل أو مستور، أو منسي أو ممنوع، أو تابع لسلطة الثوابت بتعددها، الحياة المتاحة للكائن، و للواقع المعيش توفر حالات كثيرة من وجوب صناعة المتغير، من صناعة المختلف.
لقد كان الشاعر أمينا على ما تم ائتمانه عليه، من أفكار وتخيلات، من طرق تفكير وإقامة، لم يكن هناك شرطي ثقافي يقتفي خطوات الشاعر، ليدفع به إلى عالم من الكوابيس والإحساس بثقل الواقع والتأزم، وتدمير الآخر.


الشاعر لم يكن في ظل سلطة ما ينتمي الى الرقيب أو الرقابة، مع توفر الضمير المنفتح على أكثر من أفق، حيث الدواخل البعيدة عن الحسابات القامعة.
ولأن الشاعر يتحرك من غير أن يحمل قائمة تشير إلى الممنوعات، والمسموحات، سوف يجد القارئ أن القصيدة، النص تتحرك و معها ما بدور حولها، الى حيث توجد الحياة، حيث كل الأشياء، الموجودات من الممكن أن تتحول إلى شعر وإلى ممارسة حياتية للجمال، وإلى قوة الإحساس بسلطة الدهشة والجمال والتغيير، ففي لحظات الوعي والمعرفة لا يمكن أن تتحول القصائد إلى قطيع ماعز يسير خلف جزار إلى حيث المسلخ.
القصائد بين يدي الشاعر، العارف، الرائي لا يمكن أن تكون غير نفسها الباحثة عن البقاء والجمال، القصيدة هنا تمتلك شيئا أو أشياء من الحياة، حيث يشكل الحراك كل تفاصيلها، لذلك نراها نحن القراء تتجه نحو صناعة نوع من التفرد، حيث التخيل يشكل عمودها الفقري.
"لا شيء يغويني، لا التقليد، ولا وهم العبادات، إنه الجوهر".
هل القصيدة كائن يفكر، يصطحب الشاعر إلى حيث الوجود، العالم ؟ من ذا يختار لها تأثيثاها؟ سوى اثنين لا ثالث لهما، هما الشاعر والقارئ كاتبا النسخة الأولى، وكتاب النسخ التي توازي عدد القراء، هنا القصيدة تدافع عن نفسها عبر وجوب توفر الاختيارات في التقاط، و انتقاء الأحداث والوقائع وحسن التفكير في تدبير شؤون القصيدة.
هكذا يجد الشاعر الواقف خارج الممنوعات نفسه حرا، كاشفا، مغامرا غير مكبل بالثوابت، لذلك تتشكل الصورة، وتتكون العبارة خارج توقعات المتلقي، عبر ذهاب الشاعر إلى أطراف النثرية في الكتابة، حيث تدخل القصيدة فضاء شبه اكتمال الاحتفال، بعيدا أو قريبا مما ينسب إلى الموسيقى أو الإيقاع، أو النبرة، بعيدا عن الصراخ، لذلك فهي ليست بحاجة إلى ذاكرة، إلى شيء من التعليب، إلى تكرار الصورة.
الذاكرة فعل ينتمي إلى التعبئة، الى الخزن، الى شيء من الإعادة، إلا أن الشاعر هنا يسعى إلى قصيدة تعاين المستقبل، أما الماضي فهذا شأن آخر، قد يشكل بعض الأخطاء التي من الواجب تجاوزها من أجل صناعة البدائل، ليجد الشاعر نفسه محكوما بالكتابة من غير أن يكون متهما بالتقليد، بل ربما يتهم بصناعة النسق، النص المتطرف، الأكثر جدة، الذي تعجز النصوص اللاحقة عن تجاوزه، وربما الغائه، هذا الشكل، الطراز الذي يظل يدور فيه وحوله، هذا النموذج شكل رغم تجاوز ملامحه السابقة يظل تواقا لاكتشاف ما بعد النسق، من أجل التجاوز حيث سيشكل علامة لما بين منجز سابق، وآخر لاحق.
* * *
زهير بهنام بردى وفي العديد من كتاباته وآخرها "العاشرة نساء" يداوم على الأخذ بدور الباحث، المتقصي، والمشاكس للعديد من الأشكال والأنماط الأنساق التي بدأت بالسيادة على الساحة الأدبية، الشعرية.
ان امتلاك الشاعر مساحة إبداعية توفر له القدرة - ربما غير المحدودة - لإنتاج المتخيل، بإمكان القارئ المتابع أن يلاحق تحولات قصائد الشاعر تبعا لفعل الانقلابات السياسية، والثقافية فكل من الشاعر والقصيدة يشكلان كائنا ابداعيا متحولا، حيث يكونان في قلب الحدث الذي يلف الفكر والوعي والمعرفة، حيث الإحساس بالتبصر يكون على أشده، بسبب إلغاء النمط الفكري والسياسي لسلطة الذكورة.
* * *
زهير بهنام بردى بفعل انتمائه - اجتماعيا وفكريا ودينيا -لأفعال الانفتاح رغم محاولات الانغلاق على الذات - دفاعا عن النفس - ومسايرة الواقع المعيش وعدم الانجرار إلى المواجهات، ليتحول هذا الموقف - الانطلاق من المناطق المعتمة إلى المضيئة والانتقال من الظل، الذات إلى النور، الآخرين، حيث تتم عملية الانتقال من الفرد إلى المجموع وإن كان المجموع يشكل أحيانا كثيرة افعالا مضادة.
هذه الخصيصة دفعت بالشاعر إلى أن يستفيد من كل ما يحيط به من مفردات الحياة، حيث تتحول النسوة بأجمعهن إلى أنثى واحدة، والزمن بسرمديته وابديته إلى لحظة حبلى بالتاريخ، حتى تتمكن القصيدة من إلغاء الحدود بين الأشياء، حيث تبدأ مهمة الشاعر الأصعب، حيث وجوب صناعة الجملة والصورة من خلال كم هائل من التناقضات.
كل الأشياء تحاول أن تستحوذ على اهتمامات الشاعر، كل المهملات كل ما وقع عليه فعل - التقية - تبدأ بالتسلل إلى جسد القصيدة لتحوز على عناية الشاعر ببعضها، وأن تدافع مفردات الحياة بكل ما تمتلك من تناقضات واختلاف، من خمول وتفاعل، لتتحول إلى قوة قامعة للنص الشعري الجمالي النائم.
ولكن الشاعر يبدو مؤهلا لاحتواء ارتباكات وفوضى انطلاق المخفيات، الثورة لا تنتقي مفرداتها في لحظة قيامها، الحركة الكلاتية تجرف أمامها الجميع، الفاعل والخامل، المع والضد، ومن خلال الثورات والانقلابات تظهر على السطح الصراعات الفكرية، تتصاعد طافية الجماعات المعارضة للتغيير، لإنتاج الأفكار، لظهور القصيدة المغايرة، لصعود المسكوت عنه.
هنا يجد الشاعر نفسه وسط حقلين، الأول البقاء مع تبعية الماضي، الجامع، والثاني الذهاب مع الحركة الجديدة في الشطب على النموذج الثابت، والذهاب نحو اللا نموذج المتحرك.
في هذه اللحظة من الممكن أن تجد قصيدة "زهير" نفسها فيها، متجاوزة المأزق، عنق الزجاجة، متجاوزة التردد ما بين الثورة واللا ثورة أو الرفض والقبول "وضمن حالة من الوعي بأهمية الكتابة ودورها في صناعة المتغيرات" يتحرك زهير في كتابة المختلف، فما عاد لدى الشاعر ما يخسره، أو يضمه، أو يسكت عن قوله، وضمن مواجهة كهذه يكون هو الرابح الأول مع قصيدته من أجل الوقوف إلى جانب القادم الجديد، أعني به الثورة ومفروزاتها، والتخلص من قيم القمع، والتبعية الكتابية.
"كما أني أجدى نفعا بسخاء، يهز الأشجار بكثير من الحرية، و التموج في غابة النساء بإفراط مزعج".
بين يدي شاعر متمكن يشتغل بحرية، تسيل اللغة، جميع التفاصيل رغم استقلاليتها تكون تحت سلطة المتخيل، اللاواقع.
* * *
الفعل الثقافي ومنه الشعري لا يشتغل على إلغاء الآخر، السابق، بل سوف يجده القارئ يحاذي اللاحق و يتداخل معه، فالثقافة لا تلغي الذكورة، الزعامات، رغم تصنيفات البعض من وجود ثقافة ذكورية خالصة، وأخرى لا ذكورية مستسلمة، أي هناك ثقافة استبداد، وأخرى ثقافة معايشة، رغم وجودهما في فضاء السلطات الدينية والاجتماعية والتنظيمات الحكومية، لذلك نرى أن قانون الإلغاء الكلي والبديل الكلي. فعل لا وجود له في حقول الأدب والثقافة، ربما هناك إلغاء جزئي، إلا أن كلانية السابق ما زالت تجد لها أكثر من موقع قدم.
زهير بهنام بردى يحول الأفعال الماضوية إلى نقطة، منصة انطلاق للتحليق، والماضي بكل سلبياته وما يمتلك من بعض المحاسن سوف يكون تربة جيدة لاحتضان البتلات الجديدة في حديقة القصيدة.
* * *
هل كانت قصيدة الشاعر غرضية؟ تبدو كحيوان الساقية. يدور حول نفسه ليتصاعد الماء، من غير أن يشعر بدوره في صناعة السقي والزرع، و قطف الثمار، أم أن تكسرات الحياة و تقاطعاتها هي التي ستكون البديل لغرضية الكتابة، للخلاص من الدوران حول الذات، حيث يكون الجهل بما يفعل البعض هو الذي يجب ان يحدث،
القصيدة بين يدي الشاعر تعاين ما تنتج، وتنتقي ما سوف تقيم، مجموعة أجهزة تتناقض مع ما ينتمي إلى السبات، يقظة قادرة على استيعاب تحولات الكائن البشري، وما يحيط به من آلات وادوات، و تعدد مراكز القوى المنتجة للجمال.
قد لا تشكل القصيدة الواحدة من مجموعة - الاحدى والعشرين - العنوان ضمن فضاء الفهرست كنموذج أو كبديل، قصائد منفتحة على بعضها، الاشتغال على صناعة الجمال، الحياة، عدم الإحساس باليأس والإقصاء، الانهماك بكلانية الحياة، وعدم تحويل الأنا إلى حقل نرجسي، وتجاوز الحروب والكوارث، و تحويل اللحظة الآنية إلى أفعال شاملة، المرأة، الأنثى كائن لا تشتغل على صناعة الآثام، ضمن حالة تضامنية مع الرجل، الذكر.
على القارئ أن لا يكون خلف الشاعر، وينتظر منه مساعدة لحل المعادلات الحياتية، بل عليه أن يحاذي القصيدة، ليتمكن من متابعة حركة الشاعر، حيث كثيرا ما تؤكد انجي، الأنثى للشاعر إنها دليله إلى رائحة الساعة العاشرة نساء، حيث لا شيء ينتمي للخيانات، حيث المرأة، الهواء، لا علاقات مقموعة في تواصلات الشاعر مع الانثى، فكل شيء مكشوف ،كذلك سوف يجد القارئ أن المرأة، الأنثى هي القصيدة في الكثير من جوانبها، لحبها يسعى الشاعر، وبها يهتدي للوصول إلى أصول جميع الأشياء.

عرض مقالات: