لا يُعرف المثقفون على مستوى العامة من الناس إلا بمواقفهم، وبإبداعهم، وخصوصيتهم المعرفية. وما انتاجهم إلا جزء من هذه المعرفة، فالناس لا تقرأ كل ما ينتجه المثقفون، من روايات وقصص وقصائد ولوحات فنية وموسيقى وغيرها، إنما يرون ما يحدث من تغيير في حياتهم اليومية، شارع بهندسة منتظمة، عمارة تؤدي وظيفة جمالية للمدينة، حديقة تستوعب حياة الناس بعد العمل، مسارات الشوارع المنظم، بضاعة تنساب لأطراف المدينة ومراكزها التجارية، تنظيم وسائط النقل، نظافة الشوارع، انجاز مهمات العمل، تناغم بين الأرصفة والشوارع، اضاءة منتظمة... الخ. كل هذه الأعمال ثقافة، وثقافة من النوع الذي ينقل المدينة من خرائبها إلى مدائنها الشواهد، وكانت مدننا مضرب المثل في التنظيم والنظافة.
أما المثقفون، وهو مدار حديثنا لا ينتظمهم نظام طبقي واحد، فهم شرائح وفئات موجودة في كل الطبقات الاجتماعية، ولكنهم متفقون بأنهم ينجزون ثقافة مقروءة، مرئية، مسموعة، وفي الوقت نفسه مختلفون بحدود في انتماءاتهم الفكرية، ولكن ما يجمع بين المثقفين عموما، هو موقفهم من حقوق الإنسان، والحرية، والتنظيم، ومشكلات النساء، والطبقات الفقيرة، وحقوق المواطنة، والتنظيم بين مفاصل العمل الثقافي، ولذلك أولى المفكرون اهتماما يليق بموقع المثقفين الطبقي والفكري والعملي، ففي اولى التشخيصات المنهجية أن يؤدي المثقف دور الناقد لما يجري في بلده، فالمثقف يحمل قيما كونية كما يقول فوكو، ويشغل موقعا نوعيا في بنية المجتمع، ويستمد خصوصيته من نمط العلاقة التي تربطه بالوظائف العامة للمعرفة في المجتمعات المعاصرة. ولذلك يتحدد موقع المثقفين في بنية المجتمع بثلاث خصوصيات، الأولى موقعه الطبقي اي هو ضمن البرجوازية الصغيرة المتحالفة تاريخيا مع الطبقة العاملة، وهذا الموقع يلقي عليه دور المحرض والكاشف والناقد. والخصوصية الثانية هو ان يعرف انه متخصص في مجال عمله الإبداعي والمعرفي، وانه مسؤول عن تطوير هذا التخصص، وبما يعني جدلية الإبداع. الخصوصية الثالثة، هوان يكون ضد السياسة القائمة الآن في المجتمع، بما يعني تطوير ايجابياتها. ونقد سلبياتها، وان يكون هدفه هو التغيير المستمر في بنية النظام السياسي وعدم الثبات على منطلقاته القديمة، لان النظام يتبع تغييرات المجتمع وليس تغييرات ومتطلبات الإيديولوجيا، ومن هنا اصبحت على المثقفين واجبات اخلاقية تجاه شعبهم، وفي مقدمتها تحرير سلطة الحقيقة من الهيمنة على الناس، فليس من حقيقة ثابتة ولا من رؤية مطلقة، ولا من نص لا يقبل النقد والتأويل. وان يزاوج بين المعرفة والحقيقة التي تؤطر وجوده ووظائف مجتمعه.
في مجتمعنا لم يجر تحديد مواقع المثقف بدقة، ومن هنا اضطربت رؤية بعض المثقفين لدورهم ، وتخلّوا عن مهماتهم الوطنية والفكرية، في حين ان مهمة كل المثقفين الذين يواصلون العمل الإبداعي في كل المجالات، ان يعملوا بدأب متواصل من اجل سن سياسة بديلة للحقيقة القائمة والتي يعتقد القائمون عليها أنها حقيقة مطلقة وانها تتجاوز النقد. وتصلح لكل زمان ومكان. بينما ما ثبت أن حركة التاريخ المصحوبة بإرادة المثقفين والطبقات الاجتماعية لا تثبت على شكل سياسي قار.
في السنوات التي اعقبت الاحتلال، نجد مواقف المثقفين متأرجحة بين ان يكون المثقف موظفا بمهمة ثقافية محددة، أو أن يكون ناقدا للأوضاع السياسية، والسبب يعود كما أرى لأرجحة موقفه الطبقي، بالرغم من أن موقفه النضالي والسياسي، وعلى مدى تاريخ طويل لصالح القوى الاجتماعية الوطنية، ولكن تبين ان هذا الموقف العام غير كاف لاستمرار هوية المثقف النقدية. فما نريده من المثقف أن يزيد اهتمامه في تخصصه المعرفي اولا ، فهذا الحقل كبير ومهم، لأن المثقف ليس اسما او صفة لشيء، بقدر ما هو بنية معرفية مهمتها زيادة التخصص في مهمته الابداعية، ومطلوب من المثقف أن يشخص ما يحيط به، ليس على مستوى البلد، إنما على مستوى العالم، فكل شيء بدا مترابطا، ويؤثر بعضه ببعض، لذلك عليه ان يكون شاملا في نظرته لما يجري. وأخيرا على المثقف أن يشارك نبض الشارع في التغيير، منتجا فنا متحركا. فالحقيقة لا تعرف شكلا ثابتا.

عرض مقالات: