المجموعة القصصية الثالثة لـ ضياء جبيلي بعد مجموعته "ماذا نفعل بدون كالفينو" و"حديقة الأرامل". لا طواحين هواء في البصرة هي مجرد أمنيات قارئ، كم تمنيت أن يكون هذا العنوان لرواية، وبدلًا من غزارة هذه الشخصيات في المجموعة أن تكون ثلاث شخصيات ليزُجّ القارئ معه في عوالمهِ التأملية التي تتعلق بغور أعماق الشخصيات، وهذا ما يميزهُ كقاص بصري عن البقية، ولمحت من خلال قراءتي لهذه المجموعة أن هناك تشابها من حيث التبويبات، والفصول السردية المنقطعة كما في رواية "الحديقة الخَرِبَة" للكاتب المكسيكي "خورخي فولبي"، فولبي من خلال روايته كانت الموضوعة واحدة، ولكن استخدم أسلوب المقطوعات السردية في سرد روايته، أما جبيلي فتناول موضوعات قصصية تتعلق بمدينة البصرة بالكامل، أما من حيث الأسلوب السردي في الكتابة فقد كان مشابهًا نوعًا ما لأسلوب فولبي، ويشكل فولبي طليعة جيل أدبي جديد بدأ يتشكل في السنوات الأخيرة، وهو تيار ابتعد كثيرًا عن مفهوم الواقعية السحرية، هذه الانطلاقة الجديدة بدأت عبر تأسيس حركة "كراك" الأدبية، مع نهاية تسعينيات القرن الماضي، وكان من هدفها تجديد الحركة الأدبية المكسيكية الغارقة في نمطيتها.
لا طواحين هواء في البصرة تختلف كثيرًا عما طرحه جبيلي في المجوعتين السابقين، فهي تتناول موضوعات شتى كـ "الحرب والحب والمرأة والطفل والشعراء وأناس من مدينة البصرة بأسلوب الفنتازيا، من خلال ما طرحهُ من شخوصه وزجهم في المجموعة القصصية، وكأنه اراد إن يوظف، "الألم والصراع" من خلال قصصه التي تعتبر أرشيفا بصريا خالصا.
جبيلي نجح في تدوين وملاحقة الشخصيات الواقعية في مدينته التي يتحكم بها من خلال شبكتهِ السردية بأسلوب قصصي كخيال تأملي ما بين الوهم والحقيقة، وما بين الحرب والحب، وما بين الطفل والرجل، كل هذه الانتقالات والتحولات التي تمر بالفرد دون اكتراث أو تدوين من قِبل ذاكرة العقل حتى وإن احتفظ بها، ولكن بمرور الوقت ستندثر من ذاكرتنا، من هنا انطلق ضياء بمجموعته على أنها مركبات معقدة، وكأنما هي نسيج مُحبك يضُم في شباكهِ هؤلاء التبويبات "حروب – حب – أمهات – أطفال – شعراء - متفرقة" فراح يفكك تلك التبويبات بطريقة فنتازية مملوءة بالهم والوجع كما لاحظناه في بداية المجموعة وينطلق كتمهيد للبوح عما يريد أن يخطه من خلال "آه وما أهمية كل هذا" لـ "أيما بوفاري" عبارة قد اختزلت الكثير من المعاناة لدى شخوص جبيلي في مخيلته، بدأت الشخوص تنضج وتتصادم وتتصارع لكل منها طريقها الخاص، فكل الشخصيات لدى جبيلي لديها أوهام كـ "دون كيخوته" ولكنها عاجزة.... تحارب من؟" لا توجد طواحين هواء في البصرة أين أذهب بكل هذه الأوهام؟ أقاتل من؟". هذا المدخل يمهد به جبيلي من خلال تأويله العنوان "لا طواحين هواء في البصرة، لو أردت أن تتناول عنوان المجموعة القصصية بشكل مفصل، عليك أولاً أن تقراً لـ "ثربانتس" وبالتحديد رواية دون كيخوته، حتى تعي جيدًا ما يحدث من خلال هذه المجموعة التي تحمل على أكتافها شخصيات محملة بالوهم والحُلم المذبوح: منهم من يحلم بالطيران، ومنهم من يحلم بالحب، من خلال ما لاحظناه من المجموعة الأولى من خلال "حروب" كما في قصة "الطيران".. فالطيران حُلم لدى الكثير من الناس منذ الوجود فكل منا له حلمه الخاص في الطيران، حتى مبارك كان له حلمه الخاص بعيدًا عن الأحلام الوردية، لأنه طار إثناء الحروب الأولى عندما كان جنديا في سنة"1991"، والثانية عند عمله في مصنع الدواجن للدجاج. أثناء الغزو الأمريكي سنة 2003. استطاع أن يطير وسط الريش المتناثر وسط ضجيج القصف على معمل الدجاج.. وبما أن الموضوعة واحدة في تبويبات "حروب " ينتقل بنا جبيلي الى قصة " المملحة" في هذه القصة يتناول فيها مفهوم الحرب والانتماء الحقيقي للوطن وخصوصاً المدينة التي نشأ فيها جمال، وبالصدفة وبالتحديد في طفولته تكتشف جدتهَ إنه مصاب بداء الصدفية، حتى أصبح ينثر الملح من طفحهُ الجلدي، فأصبح جمال كالبصرة، الأعين عليه كثيرة والكل يتمنى أن ينثر ذهب، والآخر ألماس.. بعد ما كان أهلهُ يستخدمون منه الملح لاحتياجات المنزل، الا أن جمال كبُرَ وأصبح جنديا وأمتزج "بالمملحة" منطقة في البصرة، أثناء الحرب سنة 1988. وعاد إليها وصار جزءا من البصرة، فراحت أمهُ تردد "فص ملح وذاب.." حتى في قصة "وطن" يركز جبيلي على مفهوم الانتماء والحنين إلى الوطن من خلال ما لمستهُ في قصة وسام الذي فقد يديه اثناء الحرب في عام 1991، وتم تبنيه من قِبل عائلة من أستراليا فكان عمرهُ آنذاك ستة أشهر، فنشأ في أستراليا وتعايش معهم، ولكن الهوية والجذور كادت أن تقتِلهُ وتُقطع أنفاسهِ، فأصبح سيئ المزاج وبدأ يمرض شيئاً فشيئا، وتم عرضهُ على طبيب نفساني وقام بعرض خارطة العالم عليه فبدأ وسام يشير بشفتيه الى خارطة العراق وينحني. وينهي القصة بـ "كان لقبلته حينئذ، صوتًا، يشبه كثيرًا صوت من التقم حلمة ثدي أمه للمرة الأولى..، يتنقل بنا جبيلي ما بين الواقعية والفنتازيا كما لاحظته في قصة "الفزاعة"، حيث لا يزال حكيم شامخاً وواقفاً على حقل الألغام منذ عام 1988. حتى الآن لم يتحرك، وكما في قصة " طعم الموت" عطوان المزارع يتسبب في إزعاج الموتى الـ "14" شخصا الذين رقدوا في أرضه بسبب الحرب، فَعودة عطوان لإحياء أرضه تتسبب في إزعاجهم فقرروا المغادرة الى مكان مجهول، هذا ما تميز به جبيلي في ترك النهاية مجهولة أو غامضة في أغلب قصصهِ.. حتى في قصص الحب طرح موضوعات غرائبية ممزوجة بالواقع كما نجدهَ من خلال قصة "الجعل" استطاع أن يوظف أسطورة سيزيف، والتي من خلالها تمكن أن يتناِول الأحداث بأجواء علمية غرائبية التي كان ضحيتها "برهان" حيث خُذل من قِبل عالمة الأحياء، كانت طالبة معهُ، فجعلتهُ مكسوراً، وأثناء عودته راح يضرب بحصى، إلى أن كبرت هذه الحصى معهُ وأصبحت ترافقه كصخرة سيزيف ليذهب بها بعيدًا إلى جبل "السنام" أما في قصص "أمهات- نساء" طرح موضوعات مهمة وأهمها موروث الأمهات في الجنوب وبالتحديد "البصرة" هذا الموروث الذي توارثناه من السابقين، ودائما ما يكون مصحوبا بعاطفه مُفرطة، ليختم جبيلي مجموعته القصصية بتبويبات تضم "أطفال- شعراء- متفرقة" كأنه يود أن يمر بكل تفاصيل هذه المدينة التي همشت من قِبل الكثير.ِ