ملحمة جلجامش التي يصح أن نسميها أوديسة العراق القديم يضعها الباحثون ومؤرخو الأدب المحدثون بين شوامخ الأدب العالمي، لأنها أقدم نوع من أدب الملاحم البطولية في تاريخ جميع الحضارات، وإلى هذا فهي أول وأكمل ملحمة عرفتها حضارات العالم القديم، وليس ما يقرن بها أو يضاهيها من آداب الحضارات القديمة قبل الإلياذة والأوديسة في الأدب اليوناني، ومع إن هذه الملحمة قد دونت قبل 4000 عام، وترجع حقبة حوادثها إلى أزمان أخرى أبعد، فإنها في مجالها ومداها وأغراضها، والمشكلة التي عالجتها وقوة شاعريتها، كل ذلك يجعلها مثل الآداب العالمية المشهورة ذات جاذبية إنسانية خالدة في جميع الأزمات والأمكنة، وأروع ما فيها ذلك الرثاء في تاريخ الحب والصداقة "رثاء جلجامش المؤثر لصديقه وخلّه أنكيدو وبكاؤه عليه".
نظمت ملحمة جلجامش بالشعر البابلي، وكذلك كانت الحال في معظم النصوص الأدبية الأخرى، مثل أسطورة الخليقة البابلية والنصوص السومرية التي جاءت إلينا بالشعر السومري، ولذلك يحسن بنا أن نوجز ما نعرفه من الشعر في أدب حضارة وادي الرافدين.
وقبل أن نتكلم عن الشعر في هذه الحضارة، ولاسيما الشعر البابلي، يجدر بنا أن نذكر أن الباحثين يجمعون على أن الشعر كان أقدم ما زاوله الإنسان من الفنون الأدبية، كما يرجح كثيراً أن أصل الشعر كان في الغناء والإنشاد الشعبي، ومما يقوي هذا الرأي أن الكلمة التي تطلق على الشعر في أدب حضارة وادي الرافدين "سورية والعراق" هي كلمة "شبيرو" البابلية و"سير" أو "شِر" السومرية - التي ظهرت في نظام الكتابة السومرية منذ أول ظهور الكتابة- تعني في أصلها الغناء والإنشاد والترانيم، هذا ولا يمكن الجزم بأن أصل كلمة الشعر السومرية "سر أو شر" مأخوذة من الكلمة البابلية "شيرو أو شرو" والعكس هو صحيح، على أنه ما يؤيد الأصل البابلي أن هذا المصطلح اللغوي منتشر في جميع اللغات العربية القديمة السامية مثل "شير" العبرانية، و"شو" الآرامية، "وكلها فقدت حرف العين"، ومن ذلك المصطلح العبراني "شير هشريم" وهو نشيد الإنشاد المنسوب إلى سليمان في التوراة، ومن قبل ذلك ما جاء في المآثر العربية عن أصل العروض والوزن في الشعر أنه من الغناء وحداء الإبل، والمصطلح الأدبي المألوف في رواية الشعر "وأنشد فلان" والشعر في أدب وادي الرافدين، سواء كان سومرياً أو بابلياً - مثل أنماط الأشعار عند الأمم القديمة والحديثة، كان يخضع لفن خاص من النظم والتأليف، أي الشعر الذي نظمه شعراء العراق القديم باللغة العربية القديمة، ذلك لأن معرفتنا باللغة البابلية وشعرها أكمل وأوفى من معرفتنا بالشعر السومري، لأن الباحثين المختصين مازالوا غير مطمئنين إلى لفظ أصوات الكثير من المفردات السومرية على الرغم من معرفتنا بمعانيها، ولذلك فلا يمكن الوقوف على أوزان الشعر السومري بشكل مضبوط حسب وشائج القربى بين اللغة وأخواتها من اللغات السامية المعروفة التي لا يزال بعضها محلياً، وفي مقدمتها العربية والعبرانية والآرامية وغيرها، وإذا تجاوزنا مناقشة ما هو الشعر، وما هي أسسه ومقوماته، ولاسيما في الاتجاهات الأدبية الحديثة، فإننا نسير في تحديد مفهوم الشعر في النصوص الأدبية التي جاءت إلينا من حضارة وادي الرافدين على الأسس والمبادئ المأثورة "الكلاسيكية" المتبعة في دراسة الآداب العالمية.