عتبــة

"شبح نصفي" عتبة تتقاسمها لوحة الغلاف، في تشكلات روايةمحمد خضير سلطان فالشبح مرئي، لكنه يبدو متخفياً وسط شك الرؤية، أي أنه لا يستكمل صورته إلا عبر تشكله الشكي وبالتالي تشكله التاريخي كما يُسفر عنه المتن. فهو متماه مع ما حوله، منبثق حين تحين اللحظة. لذا فالفنان وهو يقدم توصيفاً للعتبة ومتن الرواية عمد إلى اختياره جزءا من منحوتة الفنانجواد سليم، لأنه أدرك خلال إشارة المؤلف ما تعنيه وحدات نص منحوتة"نصب الحرية" وما كان متداولاً داخل نص الرواية . لذا فاقتطاع جسد الأم "حصراً" أو كما نراه، وهي تتمسك بقامتين، يعني تشبثها بالأرض، كما هو ظاهر أسفل جزء النصب. وهذه إحالة إلى التعبير عن النصفين وما يلي في المتن أيضاً، فهو سردية تاريخية بأسلوب الرؤى وليس السرد المتعارف عليه. فقد وجد الفنان بالصدفة أن الطير" الحمامة" تقف فوق رأس النصف المضيء، وهو رؤية لفأل حَسنْ، فتظهر مدوّنات الأزمنة واضحة كما هي في سياق النص،بينما النصف الذي يحمل ظِل العتمة المضافة الى تاريخ الأشياءفتتماهى فيه المدوّنات بالرغم أنها موجودة في واقع جزء النصب هذا والأجزاء الأُخرى المكملة لسردية الجدارية المرئي البصري. وبهذا تحققت دلالة الـ"نصفي" كوّنه من اختلاق الأزمنة. فالمعادلة التي تحملها المرأة"الأم" متوازنة ومتعادلة، لكن الذي يحيل تفاصيلها إلى نوع من التغطية المعرفية؛ هو واقع الزمن . ولعل مصمم الغلاف الدكتور فرات العتابيأحال كل جزء من اللوّحة إلى دلالة. فكلمة"رواية" كانت بلون أحمر، يحاكي لون الدم. لكنه قد كوّن معادلاً إخصابيا لأنه ورد بمقابلة اسم المؤلفمحمد خضير سلطان. وبهذا تكون دائرة لوّحة الغلاف قد استكملت عبارتها الفنية، كوّنها لم تُعط صورة سلبية، لما هو دلالي لمفردة"شبح" ثم"نصفي" فالكلمتين وضعتا ضمن فضاء مختلف، فإذا كانت"شبح" قد تاه مساره في مساحة مفتوحة. فـ"نصفي" قد استقر مقامه في كون له علاقة ممتدة إلى اسم المؤلف. وفي هذا تعالق دلالي يمحو أثر الـ "شبح". من هذا نجد ثمة تجاوبا موضوعيا قد تحقق بين النص وقارئه "الفنان"، وسوف يكون افتراضاً بين الرواية بكل تشكيلاتها والقارئ المرتقب.

إشارات قارّة

أراد المؤلف أن يستهل نصه الروائي بإشارات، فقسمها إلى "نبذة انتقائية، المتن الحكائي، إشارات أُخرى". وبهذا استكمل رؤيته وهو يحقق كتابة نص روائي، له تخريجات متباينة مع المتعارف عليه في الكتابة والتدوين، تواؤم مع ما كتب من نصوص قصصية سابقاً. فهو ليس معني بالمغايرة فحسب، وإنما معني بتقديم رؤى عملية في كتابة النص . في "نبذة تقنية" صنف نصه على أنه ينضوي ضمن حراك النصوص ذات الهم الفكري. والفكري هنا لا يعني احداث جدل بشأن قضية معيّنة، بل أنه يسعى الى مداولة مسار زمني " تاريخ"، الظاهرة ونتائجها. وهنا يعني تاريخ العائلة. العائلة المضمر تاريخها، أو المنسي بحكم التراكم الكمي.
لكن النوع يتصدى له السرد بتقنيته هذه ليزيح عن سطحه أولاً ما تراكم، ومن ثم التسلل بمعرفة إلى متن التاريخ الدال، بما اصطلح عليه المؤل"المروية" بتعدد مفاصلها ورواتها. وبهذا ساير جدلية التاريخ حين صنفها إلى "رعوية + التحوّل الحديث+ الحصيلة الرمزية ". وبهذا اكتسبت جدليتها كمدوّنة تندرج ضمن سياق التاريخ والتاريخ المتخيّل، ولا تنحو إلى تفاصيله كما اعتاد السرد المتعارف عليه. بمعنى سوف لا يكون ثمة انسياق وراء غواية اللغة والسرد والوصف، وإنما اختيار مؤشرات اللغة ومضمراتها، لحصد الدلالات.


هذا المسار الروائي قاد إلى تشكيل إطار كما ذكر المؤلف. الإطار هنا جاهد على أن لا يتأسس على تراكم الأحداث، وإنما يكون المتحقق عبر الرمزية التي تتغذي من ضرع الواقع. فليس ثمة مخيال سردي خالص، ولا توصيف واقعي خالص. إن المحصلة هنا ؛ هي مزيج من رؤى لكل هذه الوحدات التي تشكّل النص. رؤى متمكنة من صياغة وحداتها النصية،دون اسفاف، لا في التجريب خارج هذا الإطار، ولا الإغراق في غواية اللغة البلاغية. بلاغة النص من بلاغة إشاراته .في جانب آخر استطاع الكاتب أن يُشير إلى ما سماه "الخط السردي الرئيس" الذي نسبه إلى مؤسسة العائلة. فكأن لهذه العائلة مساراً هو مسار تاريخها. ولعل الإشارة تخص موازاة هذا المسار مع مسار "السلطة"وتقلباتها الدموية. وبهذا حقق طرفا جديدا لمعادلته النصية في كون النص يتداول تاريخا عنيفا بين الاستحواذ على "الملك،الوطن"، ومصادرة حق المالكين الأصليين عبر خزانة الأب المتروكة كإرث. فالوطن له ملكية عامة، والأزمنة من خلق تيارات الاستحواذ على هذه الملكية.
وبهذا نرى أن النص حاز ويحوز قراءات متعددة في كوّنه يحمل إشارات تؤكد حراكا اجتماعيا سياسيا ــ فكريا تنتجها قراءات متعددة .هذه القراءات تتواصل خلال انفتاحها على النص،وانفتاح النص عليها. إن انتاج وحدة متماسكة بين الطرفين، تؤكد صيرورة النص وتؤشر مستواه باعتباره محركا معرفيا، يقود إلى الحرث في القدرات الذاتية من جهة، وتحقيق صيرورة نصية من جهة أخرى.
إن الاشارات المقدمة والسابقة للمتن الروائي، تؤكد طبيعة الرؤى التي اعتمدها الكاتب، كونها تتناول الكيفية التي تشكّل بها ومنها النص. لاسيّما تغيير ضمير السرد "الانا، الثالث،النحن" لتقديم فرشة سردية بعيداً عن التفاصيل . في الجانب الموضوعي، يتأكد مسار النص باعتماده "الهجرات"،وهو يعني مسار التاريخ البشري، صحيح أن النص يتناول سيرة حياة عائلة "آل فالح" إلا أنها تعتبر مدونة تاريخية مصغرة لتسلسل تاريخ الوضع البشري الأنثروبولوجي حصراً، وارتباطاته بآلية الانتاج ونمو الأفكار، أي أن الحراك الاجتماعي وتحوّلاته، ساير تحولات المناحيالأخرى التي رافقت التطور البشري. فالتحوّل بين "الماء والصحراء والسهل والجبل" لاقى بطبيعة الحال ظاهرة تصادم، كما أشار المؤلف في متن إشاراته والتي أكد فيها على"طبيعة هذا التحوّل وتصادمه بين أصل المراحل الأُولى وارتقاء العهود الجديدة "وهذا اكسب النص صفة المدوّنة، حيث نشب نوع من النزاع على الملك الذي أشار إلى تحوّله من الخاص إلى العام. المروية تحوّلت بفعل السرد إلى تداول مرويات،هي مرويات"الجدة، الأب"كل هذا اتخذ توصيفاً معنيا برفع التراكم التاريخي الذي غيّب عائديه المُلك بما أسبغه من أُطر الاستحواذ والسيطرة.وقد أشار في نهاية التقديم إلى مصادر مهمة ساعدت على انضاج متن النص. وهي بطبيعتها ذات مناحي متعددة، تصب في ذات الصيرورة النصية التي تمثلت التاريخ، بل أنها غدت تاريخاً لأصغر وحدة، هي الأسرة،تعبيراً إلى أكبر اسرة هي التشكيل البشري، وبالتالي تأكيد جدلية الوجود إزاء اضطراب الآصرة الاجتماعية، وتكالب القوى على محو التواريخ الجزئية، التي لولاها لما تشكل التاريخ الكلي. إن ما نمّت عنه المقدمة دليل على رؤية المؤلف الذي حاول ويحاول خلال نصوصه كـ "رقعة خزيمة" أن يجترح لنصه مساراً ذا حراك فكري.

عرض مقالات: