استثارتني جملة "بستان النخل"  التي يوردها غاستون باشلار في كتابه احلام اليقظة، والتي يضعها في سياق اهمية المؤنث في اللغة الشعرية "الصنوبرة تحلم بنخلة" من قصيدة للشاعر هنري هاين،  ويستطرد باشلار "كل هذا الفيض من سعفات النخيلة الخضراء وهي تخرج من المشّد  الشجري القشري، من جذع قاسٍ، مع رؤيتي هذه، اروح اتخيل هذا الكائن "الجميل" الجنوبي حورية نباتية، حورية الرمال".

نخلة وشعر، هذان العنصران الأغنى في العراق، ترى اين حلمنا بهما؟ والحلم الذي ينشده باشلار، هو الكيفية التي يجعل بها اللون الاخضر، اللون الاحمر يغني، وكما في الرسم، فإن العلاقة بين صنوبرة الثلج ونخلة الرمال هو هذا الاخضرار الغني الذي يملا اية قصيدة شاعرية.

يمتلك بستان النخل في ثقافتنا العراقية غنى تراثيا لا حد له، ولو امعنا النظر في ظاهراتياته المنتقلة من صلابة الجذع إلى نعومة الثمر ، لأمكننا أن نشعر بالنخلة انثى، ولأننا منغمسون في ثرائها بالرغم من شحته، اقول ربما لن يكون لغير الشاعر العراقي مثل هذا الثراء، فالنخلة اقدم من اللغة في تراثه، وهي التي اعانته على ان يتلمس الطريق بها إلى الله "نخلة الله" للشاعر حسب الشيخ جعفر، هذا الكائن السبيل الذي يخصصه ملاك النخل لمن لا ثمر عنده، فالشعرية ليست الفاظاً عن مصائب وكوارث وحروب ووفيات، بل هي نسغ هذه الحياة الذي يتلبس المادة الحية ليجعلها تفرز لونا اخضرا دائما.

2

لابد للقصيدة من ان تنبئُنا بالمستحيل، فالشاعر عرافٌ، ربما ان بستان النخل كان يوما محطة لشخصية عاشقة من شخصيات الف ليلة وليلة، او كان مؤسسة لزراعة الورد في الطريق الموصل بين الذاكرة والحلم، ولأننا قليلو الاحلام، ولا ننتج أفكارا، لا نرى النخلة إلى عندما تثمر، ولا نتفاعل معها شعرا إلا عندما يخترقها الليل، وهي الانثى التي تشد اشواكها عند بلوغها الحلم على طلعاتها الملقحة.

عشت سنوات من عمري وانا اتأمل نخلاتنا المئات، وهن يكبرن  على يدي مثل ما اكبر، هذه الاناث قل ان تجد مثلهن حريصات على ثمارهن، ما ان يبدأ آذار حتى ترتخي اشواكها، مستقبلة اللقاح، كأي انثى نضجت للتلقيح، وما تلقح طلعاتها حتى تشد اشواكها على حملها، كأي أم تحمي حملها، وتدمي اي يد تمتد لطلعاتها الملقحة. وبعد ان ينضج ثمرها ترتخي سعفاتها فقد بلغت مرحلة الولادة بانتظار القطف، فأية أنثى هذه؟ الانثى المشبعة بالطبيعة الغائبة عن ثقافتنا وشعرنا وتصورنا؟ نتحدث في الشعر عن الفقمات والأيائل والتعازي، و نترك ثراء الاخضر، وهو يحمل إلينا في عام ما لا يوصف من شعر.

الحلم بجذير اخضرار النخل، ويعممهن ولأنه بستان تنوعت نخلاته، تنوع اخضراره المثمر، هذا التنوع لا يرضع إلا من ثدي الرافدين، فلم الاختلاف مادام جذر الحليب نهد عراقي، وسماؤه اخضرار الروح، والقصيدة التي تنمو عبر هذه الجدلية، ستكون بستانا للثقافة، فالنخل العراقي حاضنة لصنوبرات الشمال، ومراعي البادية، وبساتين البرتقال، فأي خلاف في ان يكون للصنوبرة اغنيتها، وللنخيل احلامه، ولنا في هذا البستان فسحة للحوار.

إذا كانت صنوبرة هنري هاين قد استدعت نخلة الجنوب، وإذا كان حلم يقظة الشاعر قد حول اللون الأحمر إلى اخضرار، ترى لماذا تقف القصيدة العراقية عند اعتاب الفكرة ولا تتغلغل في تأملاتها؟ ربما سيكون من باب النقد القول: أن كل ما يفكر الشاعر فيه هو المذكر، في حين ان الشعرية الحق هي ان تبحث عن المؤنث في الاشياء واللغة المذكرة، إن تأنيث الكلمات قصيدة، واستجلاب صور الاشياء المختفية مطرا شعريا، هذه النفس الشعرية القاسية التي لا تنشد غير ذاتها ممتلئة بالمرض، هذا ما عليه شعر بعض الشعراء العراقيين، في حين شعراء الفحولة يمزجون بستان وفيقة بالأمل، وغابة النخيل بالعينين، ويجعلون من زمان القرية زمننا دائم الحضور، ومن جيكور قرية العراق ،إن خلطة الشعر التي يزيح الاخضر فيها كل الدماء التي تسيل على ارض الرافدين.تجعلنا نعيش حلم يقظة السياب الدائم.

عرض مقالات: