لا تدعي هذه المقالة بأنها مسح للمقاهي الادبية في بغداد التي ظهرت في حقبة مهمة من تاريخنا المعاصر، او التعريف بالريادية منها وإلقاء الضوء عليها وعلى الدور الذي قامت به وتوثيقه كما فعل شعراء وكتاب عراقيون امثال: حسين مردان وشاكر حسن آل سعيد وسامي مهدي وفاضل العزاوي وحميد قاسم وقيس الجنابي ومحمد جبير، على قدر محاولتها في التذكير بدور هذه المقاهي في التبشير المبكر لحركة تحديث الادب والفن في العراق، حينما كانت البديل الوحيد لحياة ثقافية لم تلجها المؤسسات، وغابت عنها الاتحادات الادبية والجمعيات الثقافية.
ولعلنا لا نغالي القول بأن المقاهي البغدادية هي التي مهدت الارض الخصبة للحياة الثقافية او الادب الجديد حينما شق طريقه الى الصحف والمجلات وفرض وجوده منذ مقهى "الواق واق" في الاعظمية عام 1946 وحتى مقهى الشابندر في شارع المتنبي منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي وحتى اليوم. والمفارقة التاريخية هنا، ان المقهى الاول لم يعمر او يستمر وجوده سوى شهرين فقط، بسبب اغلاقه من قبل السلطات الامنية الملكية وقتذاك، في حين استمر وجود الثاني الى يومنا الراهن منذ بداية تأسيسها في بداية القرن العشرين كمكان يؤمه الوراقون واصحاب المطابع والمحامون كما تفيدنا الحوليات المتأخرة للعهد العثماني السابق.
بل اننا لا نغالي القول ايضاً، بأن المدن الاوربية مثل باريس ولندن وامستردام وروما تميزت منذ عصر النهضة بظهور ما يسمى بالمقاهي الادبية، وقد شهدت هذه الظاهرة انتشاراً واسعا خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وباتت هذه المقاهي المكان المفضل الذي يرتاده كبار الادباء والشعراء والمفكرين والفنانين، غير ان المقهى الاوربي ليس مجرد مكان للجلوس واللقاء والحديث فقط، بل انه احد ابرز التعبيرات العبقرية في شوارع اوربا.
اجمل عشرة مقاه
ترى المؤلفة السورية هدى الزين في كتابها الممتع "المقاهي الادبية في باريس/ حكايات وتاريخ" ان المقهى منشأة شرقية عرفت اولا في بلاد الشرق. وقد رآى طبيب الماني المقهى في منتصف القرن السادس عشر في حلب. وتورد الزين قائمة باسماء عشرة مقاهٍ في العالم، هي: مقهى نيويورك في بودابست ومقهى فلوريدا في البندقية ومقهى سنترال في فينا ومقهى امبريال في براغ ومقهى دي لابيه في باريس ومقهى ماجيستك في بورتو ومقهى كونفيتاريا كولومبو في ريو دي جانيرو ومقهى كامبيرينيوس في نابولي ومقهى تورتوني في بوينس آيرس ومقهى جيريكو في روما.
و كانت لنا اجمل عشرة مقاه في بغداد خاصة بالادباء والفنانين كمقهى البلدية في الميدان ومقهى الزهاوي وحسن عجمي وعارف آغا والبرلمان ومقهى البرازيلية في شارع الرشيد ومقهى ليالي السمر في شارع الخيام، ومقهى كيت كات المختلطة والمعقدين في بداية شارع السعدون ومقهى ابو ناطق في صالحية الكرخ الخاصة بفناني الاذاعة والتفزيون التي يغلب فيها وجود العازفين العميان.
غير ان هذه المقاهي لا تقتصر على وجود الادباء والمثقفين بل يتردد عليها الموظفون والمتقاعدون وبعض الرياضيين ولاعبو الشطرنج، ومن النادر ان تقدم فيها "القهوة" او المشروبات الغازية عدا مقهى "البرازيلية" التي تقدم البن البرازيلي و"كيت كات" التي تقدم القهوة والحليب والمرطبات، وما عداها تختص بالشاي والحامض والناركيلة مع طعام رخيص يؤتى به الى المقهى من مطعم قريب. وكان ثمة ادباء لا يفضلون مقهى على مقهى، فهم يرتادونها جميعها ويقضون وقتا هنا ووقتا هناك ولكنهم لا يستغنون عن مقهى البرلمان صبيحة الجمعة.
ومن الطرافة ان تجد في هذه المقاهي بعض المندسين من مخبري الامن وعناصر الاستخبارات العسكرية، فسيماهم في وجوههم، طالما ان نقاشات الادباء وبكافة اجيالهم خصوصا الستينيين والسبعينيين تبدأ بالادب وتنتهي بالسياسة، او تبدأ بالسياسة وتنتهي بالادب، وسنورد لاحقا البعض من الطرائف مع القوى الامنية.

من الحيوية الى الزوال

من النادر ان تجد أدباء من الجيل الخمسيني يؤمون المقاهي المذكورة، عدا فؤاد التكرلي ويوسف عبد المسيح ثروة ومهدي عيسى الصقر ويوسف نمر ذياب وعبد الجبار داود البصري والمحامي الاديب محمود العبطة، اذ كان روادها الأعم هم الستينيين من الشعراء والقصاصين مع البعض الاقل من السبعينيين امثال: جهاد مجيد وخزعل الماجدي وكاظم جهاد وصفاء صنكور ورعد عبد القادر. وكان ابطال هذه المقاهي او فرسانها الصعاليك عبد الامير الحصيري وخالد يوسف وجان دمو.
ان أبرز سمات العاصمة العراقية في سبعينيات القرن العشرين هو ذلك الانتشار الكثيف للمقاهي على مختلف جاداتها وشوارعها، ما يضفي عليها حيوية تميزها عن سواها من المدن. انك لا تصدم ان تجد في ساحة الميدان وما يجاورها مقاه خاصة بأم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الاطرش، مع مقاهٍ اخرى خاصة بالمقام العراقي. ومن المؤسف ان بعض هذه المقاهي قد تم ردمها وتحويلها الى منشآت تابعة الى محافظة بغداد كما جرى لمقهى البلدية او محلات للالبسة ومطاعم كما حدث للبرلمان وعارف آغا والبرازيلية وكيت كات، وثمة الكثير من المقاهي التي جلس فيها كبار المبدعين واستراح فيها اساتذة من الباحثين والناشطين المدنيين لقيت المصير نفسه، او ربما مصير اسوأ ولا عزاء لعشاق هذا المقهى او ذاك.
ورش الابداع
الى جانب ذلك شكلت المقاهي جزءاً لا يتجزأ من المشهد البغدادي ومن حياة البغداديين وعاداتهم اليومية، ومن تراثهم وتاريخهم، لكونها واكبت تطورهم السياسي والفكري والاجتماعي منذ بدايات القرن العشرين الى درجة يقال عن بغداد ان فيها ما بين المقهى والمقهى مقهى آخر. ولا يوجد كاتب من بغداد او من مدن العراق الاخرى عاش في بغداد لم يكتب عملا ادبيا من اعماله في المقهى. اتذكر شخصيا ان القاص الراحل موسى كريدي كتب اغلب اقاصيص مجموعته "غرف نصف مضاءة" في مقهى البرلمان، وكذلك كان الشاعر المرحوم عبد الامير الحصيري يكتب قصائده العمودية في مقهى عارف آغا. اما في مقهى "ابو ناطق" المجاور لدار الاذاعة والتلفزيون فكان يجلس الشاعر الغنائي زامل سعيد فتاح هو وصحبه من امثال جبار الغزي وكاظم الرويعي ليكتبوا اغانيهم السبعينية الجميلة.
ومن المقاهي الادبية انطلقت المدارس الواقعية الاجتماعية في الادب والمنطقية والوجودية في الفلسفة، وما اسبغ على المقاهي المذكورة من شهرة هو ارتباطها بالتيارات الفكرية التي شهدها العراق في فترة ذهبية من تاريخه الادبي والفكري والفني.
ومن الظواهر الثقافية والفنية في المقهى البغدادية، هو رسم البورتريهات التي ابدع فيها الرسامان فايق حسن وابراهيم رشيد، الاول في مقهى البلدية الصيفي، اذ كان يقول: في "البلدية" تجد مكانا للقاء والتأمل، تحتسي فيه الشاي ويتم التعرف فيه على وجوه العابرين تحت سماء بغداد الرمادية الملبدة بالغيوم شتاء، او تحت اشعة شمس نحاسية ومبهجة صيفاً. اما الثاني فكان يرسم وجوه شباب وفتيات مقهى كيت كات من دون استئذان او تحية وبصمت ممتع.

طرفتان وشهادتان

ذكرنا في مطلع مقالتنا بأن مقهى "الواق واق" الذي افتتح عام 1946 قد تم اغلاقه من قبل السلطات الامنية في العهد الملكي بعد شهرين فقط من هذا الافتتاح، والسبب كما تقول الوقائع، ان الجماعة التي ساهمت في تأسيس هذا المقهى كانت تطلق على نفسها بجماعة "الجيل الضائع" ومن افرادها المعروفين: بلند الحيدري ونزار سليم وحسين مردان وابراهيم اليتيم ونجيب المانع وحسين هداوي وعدنان رؤوف وسلمان محمود حلمي وفؤاد رضا. وقد اصدروا عددين من مجلة هي اشبه بالنشرات المخطوطة غير المجازة رسميا تحمل العنوان الصادم ذاته.
كانت ممارسات وافعال هذا الجيل في مقهاهم وفي الشارع تعبر عن نزعة وجودية غير منضبطة ازاء العرف العام، مما اثار حفيظة الناس والاجهزة الامنية في ذلك، الامر الذي دعا الى إغلاق المقهى والمجلة معاً، من دون أي مأخذ سياسي معلن. وقد كتب عدنان رؤوف بعد سنوات، قائلا: " كانت "جماعة الوقت الضائع" مجموعة من الشباب الناشئين اكثر مما كانت مدرسة، ولم يتجاوز ما ربط بين اعضائها مجرد محاولات الكتابة ونشدان التعبير عن الذات".
ويقدم غائب طعمة فرمان وصفا للجماعة من خارجها في مقال له تحت عنوان "كتّاب من العراق" في احد اعداد مجلة الثقافة المصرية عام 1950 قائلا: "لو رأيت احدهم لعرفت من هيئته ومظهره الخارجي انه فنان! ولو ضمك مع احدهم مجلس، وانصت الى حديثه واطلعت على آرائه، وقرأ لك شيئا من نتاجه لما فاتك ان تدرك ان هذا الفنان متأثر بالغرب وفنه تأثرا قويا عميقا.. كلهم ساخط متبرم، وكلهم مرهف الحس بعيد عن الحرية! وكلهم يتخذ تلك المذاهب الجديدة في الادب والفن صورة لحريته المعبودة، ومنفذا لنفسه المتبرمة، وعونا له على تلك التناقضات التي يراها في بيئته، فيتألم منها ويضيق بها، ويسخط عليها اشد السخط، لأن حياتهم عبث تمضي الى غير غاية، وملل يذبل كل شوق..".
اما الطرفة الاخرى او الشهادة الثانية حول المقاهي الثقافية والادبية العراقية فتأتي على لسان الشاعر فاضل العزاوي في كتابه الممتع "الروح الحية" حينما داهمت الشرطة مقهى ليالي السمر في شارع الخيام، واقتادوا حوالي عشرين شاعرا وكاتبا، بينهم شريف الربيعي ورشدي العامل، الى المخفر ثم اطلقوا سراحهم بعد ساعة او ساعتين، اذ يبدو ان الامر قد التبس على رجال الامن فقد رأوا ان هؤلاء الشبان يتناقشون بحماسة شديدة حول اشخاص لم يكونوا قد سمعوا بأسمائهم من قبل. كان رجال الامن يعرفون اسماء ماركس ولينين وفهد وعفلق، ولكن من يكون سارتر وبيكيت وجويس؟ فكروا في الامر ربما يتعلق بتنظيم شيوعي جديد. في المخفر عندما سألهم المفوض ان كانوا شيوعيين او بعثيين او قوميين، رد عليه احدهم: "ما هذا القول؟ هل تريد ان ترعبنا"؟ وكان قد اغمي على احدهم او تظاهر بالاغماء. اضاف شخص آخر من المحجوزين: الا ترى اننا نكاد نموت من الرعب؟ اكتب اننا عبثيون".
سأل مفوض الشرطة: " وما معنى ذلك"؟ رد الشاب: "اي اننا لسنا شيوعيين ولا بعثيين ولا قوميين". استغرب المفوض: "اذا لم تكونوا من كل هؤلاء فلا بد انكم من عديمي الاخلاق".
-
بالضبط كيف عرفت ذلك؟
ولما لم يكن العبثيون مسجلين في قائمة اعداء الدولة اطلق المفوض سراحهم، ناصحاً اياهم بالتقليل من مناقشاتهم في المقاهي.