يبدو أن ماكنة زهير كريم بحاجة إلى قارئ لم تكن القراءة بالنسبة له فعلا عابرا، بل من الممكن أن تشكل أكثر من هم، قارئ عليه أن يقود الماكنة لا أن يتحول إلى ضحية ضائعة وسط تروسها رغم توقع غياب طرقات كهذه ، فما بين "حظ عاثر وفنطازية الواقع والحقيقة المفزعة، حضارة المدينة، نجد شخصية النص الأول "ليلة في فندق اميغو" الذي يتشعب إلى "منزل السيد برايتون وجوليانسكي وسجن البلدية وجوليانسكي أيضا، هذا التقسيمات التي تنتمي إلى صناعة المغامرة، تمزيق تكتلات النص، حيث يتم الاستناد إلى شخصية رئيسة تتحدث عن "شخصية المهاجر، الغريب"، تتحدث عن ماذا؟ هل على القارئ أن يأخذ مهمة التجسس والكشف لكي يتمكن من أن يضع يده على الآخر، البلاد، المجتمع، الفعل الحياتي الحضاري.
هناك فعل سردي شديد الغموض بالنسبة للقارئ الاعتيادي شديد الوضوح للقارئ السارد، هنا يبرز دور القراءة والمتابعة ومصاحبة السارد، ومحاولة ازاحته - ديمقراطيا واستلام أمور القائم بأمر الكتابة.
تظل فكرة الاغتراب والإحساس بالفقدان، فقدان المرجعية الجغرافية، الوطن، تشكل أكثر من هاجس، وسواس، كابوس، قد تشكل أفكار الحريات، ومحاولة تحقيق الحلم وربما الإشباع الجسدي تشكل الكثير من مناحي الأفعال الحياتية في المنافي، الأوطان البديلة، إلا أن فكرة الاغتراب، حيث الإحساس بالوهن الروحي هو الذي يشكل السقف الضاغط على الحاضر بفعل الماضي.
ان غياب الانفعالية استطاع أن يوفر للسارد أكثر من وسيلة تنتمي إلى محاكمة الحدث، الواقعة، وإعادتها إلى أصولها، بعيدا عن الانجرار نحو تسطيح الفعل السردي، من أجل أن يقول السارد ذاته أو شخصية النص الرئيس، أن يقول محاكماته لأركان الفعل السردي، ومواقف الآخرين. واستقبالات التشكيلة الإنسانية الجديدة بعيدا عن الإحساس بالخسائر ،أو المواقف الضعيفة.
قدرات السارد في ماكنته الكبيرة مكنته من أن يدير حياة ومواقف شخصيات السرد التي جاءت منكرة لا اسم، لا كنية، لا مرجعية مكانية، ورغم هذا لم تشكل حالة هلامية، فالانضباط العالي، وامتلاك القدرة على صناعة الموازنة، ما بين تكوينات البيت الجديد، المنفى، الوطن البديل. واسترجاعات الماضي المستبد، واستحضار منتجات الحروب، السارد وسط تكوينات كهذه يحاول الابتعاد عن الانزلاق إلى المباشرة، أحداثا وشخصيات ومحاولة ضبط النفس بحضور صاحب البيت، حيث يشكل السارد شخصية الضيف.
السارد هنا، يلتقط، يختار، ينتقي الحدث، أو الشخصية، ،او الموقف، فبين يديه العديد والكثير مما يمكن أن يشكل فعلا سرديا، إلا أن الأقرب إلى الاختلاف يكون من حصة التناول، ربما يكون في الحدث الكبير، أو النظرة المتشعبة، أو الشخصية المركبة، قد لا تمتلك فهما مشتركا مع الآخر، فالانفراد بشكل الفعل الحياتي قد لا يوفر فعلا عجائبيا، جماليا بقدر ما توفره الشخصية المنفتحة، أو الحدث الواضح، وزاوية النظر، التي تتيح للقارئ أكثر من فرصة للوصول إلى جانب مهم من جوانب الحياة، فالسرد كشف لبعض الخصوصيات، أي أن هناك مخبوءات، من غير مقدمات، من غير استهلاك، لصناعتها، ،هكذا ضمن فعل فجائي، يجد القارئ ومن قبله شخصية السرد نفسه بمواجهة الاختلاف، حينها لا يجد المتلقي أمامه سوى الذهاب مع التبدلات. لان السارد وحيد في الحياة المعيشة، ووحيد كذلك في النص، الحياة المفترضة، فعملية تفكير الشخصية لم تستمر طويلا ليعلن السارد عن الاسم الذي لن يكون سوى اسم السارد.
في معظم ما يكتب زهير كريم من سرديات يلاحظ القارئ أن نصوص السارد لا تركز على الشكل الخارجي - العنوانات الفرعية، الترقيم، التنجيم، حيث المنجز السينمي، اللقطات التي اعتمدها الجيل الستيني وما تلاه من الأجيال اللاحقة، كتابة تكاد تشكل العبارات الطويلة التي لا تتوقف عن السيولة إلا حين يتناول القاص حدثا آخر، عبر بنية كتابية كهذه ، شكل كتابي يفاجئ الكاتب القارئ بانتقالات تؤكد وجود فعل سردي مختلف، اذا على القارئ أن يكون فطنا.
الجيل الستيني من القصاصين كان فنانا يبحث عن شيء من الذهاب بعيدا في التجريب، ضمن فضاء التطرف من أجل صناعة الاختلافات الشكلية التي لا بد أن تتبعها اختلافات في بنية الجوهر، المعنى، حيث التقطيع والأرقام والتنجيم البياض، والمقدمات والاهداءات والهوامش والتعليقات وربما العبارات بلغات اجنبية والرسوم والتخطيط والصور الفوتوغرافية، في الستينات استطاع السارد أن يدخل حقول الممنوعات، واستطاع كذلك الاستفادة من أدوات الفن السينمي وتحويلها إلى أدوات سردية، كل هذا من أجل الوصول الى الاختلاف، حتى تحولت الفنطازيات إلى واحدة من أهم منجزات الأفعال السردية، حيث تحول الشكل الخارجي إلى هدف قد يتجاوز المعاني ذاتها، من الممكن أن يسترجع القارئ النبه تجارب الخطاطين، النساخ العراقيين في تحويل الكتابات إلى صور ورسوم وزخارف.
زهير كريم في ماكنته الكبيرة يذهب إلى حيث الابداع من غير الالتفات الى سلطة العنوان الأصلي، العتبة النصية لمجموع الكتابات، الغلاف، العنوان الذي يعتمد على مفاجأة القارئ، ومحاولة ترحيله إلى الكوابيس، وتصوير الحياة على أنها فعل فاسد يجب مقاطعته.
يكتب زهير كريم ضمن مقترح ينتمي إلى الحياة الجديدة التي تعتمد الجمال وصناعة مفرداتها، فهو لا يعتمد على تشظية الفعل الحياتي ومن ثم تمزيق الفعل الكتابي الذي يعتمد صناعة الواقع الآخر، المفترض، نصوص ممتلئة، ليست بحاجة إلى كاتب يعمل على تسطيحها، وتهشيم زجاج تشكيلاتها، لم تكن كتابة القاص كتلة جامدة صامدة، بل كانت كائنا شفافا يتمكن القارئ من خلاله رؤية ذاته، والاخرين، كائنا يعيش على تغيير مفردات تكوينه، وعلى مغادرة السكونية من خلال تغيير القارئ نقاط المعاينة والرؤية وإمكانية تحميل الحدث وتفعيل الشخصية.
النص السردي لدى زهير كريم كائن ساحر، لا يمنح القراء موقفا محددا، بل بإمكان القارئ وفق قدراته ومعانيه أن يستل ما يتصور، أنه نص منتج للنصوص وموقف من الحياة بإمكان القارئ استعارته لإقامة نموذج حياتي آخر، ولكن بشكل مختلف، ربما تشكل الجملة أو العبارة أو الصورة أكثر من وحدة تدوينية غير قابلة للانفراط، غير قابلة للتمزق، وحدة تشكل فعلا مكتملا، قد تكون الجملة بين يدي الآخرين من القصاصين تأخذ شكل البالون، قابلة للمط والانتشار من غير توفير ما ينتمي إلى المعاني المضافة.
العبارة السردية لدى زهير كريم هي ما تتمتع به العبارة الشعرية لدى الشاعر عبارة ملتئمة، مجتمعة، ذات كثافة شفافة، وما الانفلات من عبارة الى أخرى سوى إنتاج لحدث آخر، يدور حول شخصية مختلفة.
ان الكتابة عن الآخر - الصديق، الخصم ، الند، الربيب - واقعا حاضرا أو تاريخا ماضيا بحاجة إلى فعل معرفي وليس الى مخيلة شعرية أو سردية فحسب، فحين يكون الواقع المعيش مصدرا للكتابة فلا بد أن يكون الحذر من الانسياق خلف ما كتب الآخر عن تاريخه ،لا بد من أن تتشكل محاكمة للتاريخ، هذا الكائن الذي يشكل فعلا مساعدا للكتابة، عبر إضاءة شظايا الأفعال وبقاياها، وآثارها، وتحويل قسم منها إلى واقع ينير ما حوله، أن الكتابة وفق تفاصيل كهذه هي عمل صناعة سيرة حياتية لمن لا سيرة لها.
يستند السارد في أفعال كهذه إلى وقائع وتواريخ من اجل إقناع القارئ بتصرف كائنه السردي، كل هذا أو بعضه يحدث في نصه الذي ينتمي إلى الكابوسية من جهة والسخرية من جهة أخرى.
جملة زهير كريم لم تكن إخبارية باردة، بل كانت وعاء للفعل السردي الذي من خلاله يتحرك النص متخلصا من سكونية الجملة الاسمية الإخبارية الخالصة، عبر جملة قصيرة فاعلة كهذه وفر القاص فعلا سرديا يعتمد الحدث المتعدد، والشخصيات المتعددة والمواقف المتعددة كذلك.
هل كان زهير كريم بروكسليا، بلجيكا، أوربا، كائنا مهاجرا؟ أم أن التاريخ الشخصي والجمعي ما زال هو المهيمن، من غير أن يعمل على تسقيط فردانية الكاتب.
ما زال زهير كريم حاملا صخرة سيزيف لا كفعل إجباري، بل كفعل يمثل دفاعا عن الذات، سواء ضمن الفعل الحياتي، الواقعي أو الفعل الكتابي، المفترض رغم شخصياته واحداثه التي تمثل الآخر إلا أن النص يبقى عراقيا عربيا، ينتمي بكل تفاصيله إلى الإبداع ، الانفتاح.
تاريخه الفردي والجمعي لم يتحول إلى قوة شاطبة لتاريخ آخر يمثل ما يمكن أن يسمى المنفى، البلد البديل، أسماء، أشخاص، مدن، شوارع حانات، ساحات، كل الظواهر الجغرافية تنتمي إلى البلاد البديلة، إلا أن القارئ سوف يضع يده على بواطن الأمور، على الحس الإنساني من خلال الكتابة عن الآخر.
هل للجغرافيات، الامكنة خصيصة في الكتابة؟ حيث اختلافها يؤدي إلى المختلف من السرد والعبارات والصور، هل كان السارد ضمن حالة من الاستجابة لطقوس المكان، واختلافه - المكان فعل ثقافي؟ هذا ما يمكن الكاتب من الوصول إلى صناعة الاختلاف، وهذا ما يمكن أن يعثر عليه القارئ حين يتنقل مع الكاتب ما بين المدينة والحياة المتعجلة والجملة القصيرة، السريعة، من جهة والريف والحياة المنبسطة السهلة وحيث العبارة التي فيها الكثير من الابطاء والمباشرة والسهولة والعبارة الطويلة المنتمية إلى التمهل وإلى شيء من السكونية، حتى يحسب القارئ أن انسان الضواحي والارياف انسان كسول مهمل، لا علاقة له بالتحولات "الحقيقة أن الحياة كانت هادئة في الجنوب".
من خلال تصورات كهذه تنتمي إلى الواقع المعيش يشتغل السارد وصولا إلى اللا واقع، حيث يمنح السخرية كفعل قادر على صناعة الوجه الآخر للألم، يمنح السخرية أكثر من محاولة لصناعة الطرف الآخر لمعادلة.
هل كان زهير كريم يتحدث ويكتب عن لسان اعجمي، غير عربي عن حرب خاصة، عن حرب خاضها هو وأفراد أسرته واقرانه من العراقيين وأصدقائه؟ أم أن السارد استطاع أن يوظف تاريخ الاخر، الوطن البديل، وأن يتابع تجانيد الجنود والقادة وجغرافيات المعارك.
لقد استقبل القارئ العراقي خاصة والعربي عامة والإيراني وربما الإسرائيلي المئات بل الآلاف من قصص الحرب والمئات من الروايات تتحدث عن الحروب التي دارت بين طرفين أو أكثر "العراق، الجزائر، فلسطين، مصر، لبنان، سوريا، اليمن، الكويت، الأردن" هذه الدول دخلت العديد من الحروب وانتج روائيوها وقصاصوها الآلاف من القصص والمئات من الروايات، وهناك الآلاف من الوثائق والافلام والتحقيقات الصحفية ومئات الآلاف من القتلى والضحايا والشهداء، مفروزات الحروب كانت وما زالت تشكل تاريخا حيا يشاهده ويمارسه انسان هذه البلدان أو سواها حتى تحولت مفردات الحرب أو الحروب إلى أفعال حياتية تعيش في بيوت سكان البلدان المتحاربة في غرف النوم والحمامات والمقاهي والشوارع والساحات حتى تحولت إلى كائن ينتمي إلى بلدان المتحاربين، بعيدا عن امتلاكه هوية شخصية، أو بطاقة سكن.

عرض مقالات: