في العاصمة الألمانية برلين أقام "منتدى بغداد للثقافة والفنون" مؤخراً أمسية أدبية فريدة موسومة "الأدب النسوي العربي في المهجر" شاركت فيها ثلاث أديبات عربيات ، وحضرها جمهور من الجنسين من أبناء الجالية العربية بينهم نخبة من المبدعين والمثقفين ، الكاتب عماد خالد نعمة والمفكر والكاتب د. كاظم حبيب والكاتب الصحفي يحيى علوان والشاعر كريم الأسدي والمؤرخ فؤاد عبد النور وغيرهم.

وفي كلمته المقتضبة باسم المنتدى تحدث د. بهاء الخيلاني قائلاً: دعونا نستمتع بما ستلقيه علينا ثلاث نساء عربيات ضليعات في فن الأدب والخوض في عوالمه ، ونعني به في هذا المقام "الشعر وكتابة الرواية والقصة القصيرة". والأمسية هذه ستكون باكورة نشاط المنتدى بهذا النوع من الثقافة ، حيثما سيتسع المكان كل مرة لطيف جديد من المبدعات المعنيات بأدب المرأة. وإذ يعبر الأدب النسوي في الغالب عن رؤية واقعية ودلالات قيمية لمواجهة التحديات اليومية التي تقيّد انعتاق المرأة من التسلط الذكوري ومبدأ المساواة ، فان مقاربته أي "أدب المرأة" من الحدث في الحياة العامة ، يفسر لنا قدرة المرأة العربية على الابتكار وإقتحام المساحات والأشكال لتبلغ محيطها المجتمعي وتؤثر فيه.

الأدب النسائي أو ما يطلق عليه أيضا أدب المرأة. الأدب الذي يكون النص الإبداعي فيه مرتبطا بقضية المرأة وما تمثله من رمزية في محيطها المدني.. ودرج النقاد في عالمنا العربي على وضع تصنيفات عامة حول الأدب النسوي وخصوصيته الهامة ، وجعل بعضهم ما يعرف بالأدب الذكوري أكثر سطوة ، لمواجهة وتحييد "أدب المرأة" عن الثقافة العامة. ومنهم من وصف الأدبيات التي تكتبها النساء ، بالمعنى الضيّق ، بـ "تجارب الإناث" في إشارة إلى أنها نصوص لا تقرأها إلا النساء بشكل أساسي. وأن  أدب "الجنس الأنثوي" ينطوي على خطر التجانس ومنافسة "الأدب الذكوري" من قبل النساء أو من أجلهن. بيد أن الباحث في الشؤون الثقافية الألماني زغريد فايجل "Sigrid Weigel" يذهب للقول: الأدب النسائي ليس حدثاً استطرادي يخضع للشروط والأشكال التقليدية كـ "المنشأ والجنس أو النوع"، إنما يعتبر كتابة وقراءة ، الأدب الأكثر شعبية في العصر الحديثْ.. ونظراً للتاريخ المفاهيمي يرجع عهده إلى قرون وبلغات مختلفة ، الأمر الذي لا يمكن الأخذ بالآراء  التراكمية التي يثيرها العنصر "الذكوري" حول أدب المرأة.    

في نهاية القرن التاسع عشر ، ظهر عدد متزايد من الكتّاب الإناث اللواتي لم يعدن يعتبرن الكتابة مهنة ، لكنهن ارتبطن برغبة طموحة في التعبير عن عملهن سواء في النص الشعري أو الروائي الذي يعتمد على نماذج أدبية ـ شاعرية ذات عوالم جمالية ""Gattung- Poetik تضاهي النصوص الأدبية الذكورية ، وبالضد من الخصائص الفسيولوجية الجنسية ـ النفسية الوهمية التي تهيمن على عقول الذكور.

في مفهوم الأدب الأوروبي ليس هناك ما يفصل الشاعر عن محيطه ، أنت تقرأ شعراً في السياسة كما في الطبيعة والحيوان والخير والشر ، للمرأة والرجل ، بالشكل الذي يجد كل فيه مبتغاه .. والقصائد الأكثر كثافة في التعبير ، هي تلك القصائد الأكثر تحديا للواقع والأكثر تعبيراً عن الذات حيث يتكلم الشاعر بلسان الآخر.. جميلة هي قصائد الأديبات العربيات المشاركن في أمسية منتدى بغداد ، حيث أنها تحمل شحنات رومانسية ولغة حالمة عذبة. وإن كانت تعتمد الرمزية أحيانا أو تلجأ إليها ، فهي جريئة تخزن في أحشائها مظاهر القلق تارة والإثارة تارة ، حتى في السياسة لا تخلو من انسيابات تعبيرية نقدية مباشرة. كما تمتلك مقتنيات مثيرة تكتنز سونتات "Sonette" غنائية تتناغم مع صور وأشكال تجمع بين حساسية العاطفة وروح الدعابة والتأمل. 

 رشا السيد أحمد:

شاعرة وفنانة تشكيلية ، حاصلة على ماجستير "الفنون الجميلة" ودبلوم تربية وعلم نفس أستاذة في كلية الفنون لمادة التصوير والنحت في سوريا. لها خمس دواوين ومجموعة قصص روائية منها. أشواقك قيصر ظالم و أغاني المطر و ديوان بساتين في ذاكرة المطر.

أمسكْ شَفتيكَ
أمسكْ شفتيكَ عن ندفِ القصائدِ السريةِ 
أمسكْ شفتيكَ عن بذرِ القُبل ْ 
لنجومِ السماءِ اللاهِثةِ خلفَ القمرْ
فلا أنتَ تستطيعُ أنْ تهدي قلبكَ أيامَ الأستواء 
خارج َ النص 
ولا أنتَ تستطيعُ 
ضم الجوريةَ الحمراء ِ حين يجنُ الشوق 
خارج َ السطر
سَتحرِقُكَ القصائدُ السرّيةُ 
ستحرقُكَ 
رعشاتُ النراجس ِ 
على كتف ِالفراتِ وبردى والنيل 
أن أنتَ لم تطلقْ قلبُكَ لكفِ الريح ِ حُرا طَليقاً 
يُعانقُ توأمهُ على غرة ِ الكون ِ 
ويكن هو هو
لا تدعْ جِهات الرؤى في حدقتيكَ 
تُسرفُ في الشّعر ِ
فغيرُ معبدَ الفجرِ وبريقَ النبض ِ وسكّرةَ التماه ِ 
مع نجّمَة ِ الصبح ِ
ما كانَ للقنديلِ سرٌ للضياء ِ
تظّلُ هكذا
تَعدُ أزهارَ الشفاهِ و تَشربُ الأنفاسَ خمرا 
وحينَ صرتَ
على مَسافة ِ قبلة من وجهِ البوّابةِ الكوّنية
بعثركَ نشاز ِ يسيرُ جانِبك َعلى الرّصيف ِ
بعثركَ جنونكَ بإستكشاف ِالألحين ِ
وترُ تغريهِ تنهدات اللجيّن ِ 
على صدر ِ البُحيّرات الفاتحة ِ الزرقة
هكذا يظلُ رامبرانت يَرمقكَ بقوةٍ 
باحثاً في عيّنيكَ عن كَمّشةِ النورِ المُخبأ
بينما " إنانة ُ " تمدُ الأفقَ بحلم ٍ ضَوئي
تستلُ منهُ استشَّراقاتهِا
تودعُ صَباحاتِ البرد ِ في الّجرح ِ 
لأيام ِ استوائية ٍ
تَجعلها تُسطّرُ القصائدَ السريةَ بصُوفية ٍ مُطلقة
تنثرها على أفقية َ البحر ِ بريقَ
غادرْ الشفاهَ بعيدا عن رسمِ أزهارِها 
خيولاً تعّدو في قلبكَ
حين يَنبَثقُ الأسى لِوجهِ القُبلةِ
غادرْ حينَ يَصيرُ الشِعرَ حريقاً 
يأكلُ الندى ويُوزع ُ الحب َ بالمجان ِ
أو اصنعْ اللحظةَ 
التي تريدها رغماً عن أنّفِ المُستَحِيل 
ودع عبثية َ المجاز
لكني لن أغادرَ وجهَ الحلم ِ 
سأدعه ُ .. 
ينّدلقَ شَهاباً في دَمي 
فما كانت القيثارةُ يوماً إلا لعازِّفها
شتان َما بينَ زجاجةٍ تدارُ على الكؤوس ِ 
وقيثارة ٍ تنثر ُ الأناغيم َ في المعبد

سأتنهدُ حُروفَ الشوق ِ في كف ِ المُطلق ِ 
فلا بد يزورهُ بحفيفِ الريح المَجازُ .

أشجان نورس الشعراني:

مهندسة معمارية وشاعرة من مواليد مدينة دمشق. تم تكريمها في عدة مهرجانات شعرية منها مهرجان سقراط في مصر. ديوانها الأول يحمل أسم "منمنمات على كف دمشقية" والديوان الثاني قيد الطباعة بعنوان "طبول عارية لأفروديت"

حبُّكَ قافيةٌ من عشقٍ
أنشَدَها للكون جنوني

يا نبضاً يسكن أعماقي
يا دمعاً يجتاح عيوني

وتقول في قصيدة ـ بحر يأخذني

البحرُ يأخذني لأبعد موجةٍ
و أنا التي تخشى مِنَ الإبحار

ما زلت أنتظر السعادة .. ترتجي
رؤيا علامةِ وصلها أنظاري

حتى كرهتُ الليلَ انَّ ظلامهُ
كفرٌ يخون عقيدتي بنهاري

و ركبتُ في بحرالوفاء سفينةً
و بهِ استلمتُ قلادةَ البحَّارِ

قلبي الجريح حملتهُ و رسمتُهُ
ظهراً يجالد مهنةَ الأسفارِ

لكنني آمنت بالشمس التي
لا بد أن تأتي لحيث مداري

فاطمة طيّب:

أديبة وكاتبة فلسطينية ـ جزائرية تناضل من اجل القضية الفلسطينية منذ نعومة أظفارها ، ناشطة في مجال الدفاع عن حقوق المرأة العربية ، عضو في عدة جمعيات وهيئات دولية وعربية ، عضو المكتب الدائم للاتحاد النسائي العربي العام مقره القاهرة مكلفة بالثقافة. باحثة اجتماعية بقضايا المراة والطفل ولها عدة مقالات بالصحف العربية ، نالت العديد من التكريمات والجوائز للقصة القصيرة والشعر.

عندما يسكن الليل في بغداد 

يجن النخيل .. على ضفاف دجلة الحزينة

وينثني على البيوت

يطرق الأبواب .. ثم يختبيء 

كي يرمي الأحلام في وسائد الأطفال 

عندما يهدأ الليل في بغداد 

يرى السمار في الفرات أشرعة 

ومجذافا وحيدا 

يضرب الأمواه مثل كف غارق

في لجة المساء .. 

وعلى ذبول الدرب عابرون

على حواف الصمت يفكرون 

طيبون .. عاتبون .. يسألون :-

كم تدوم ياحصار  ؟ 

وكم تريد من لهاثنا .. كم تريد من لحومنا

من رجالنا من نسائنا من اطفالنا كم تريد ؟

كي تزيح عن صدورنا الجبال

ويسقط السؤال ..

يضيع حالما يلوح وجه بارجات الليل 

اذ تجوس في المياه

كأنها نمت على المياه كالتلال

وقامة الحصار ماتزال فك وحش

ينهش النبات والطحين والهواء والأطفال 

على الضفاف ياه .. توجع النخيل

هناك في بغداد

احس بالسياب يصعد من ترابه

يصيح بالامواه : آه آه 

لو يعود لوطن الأشعار 

من مدينة الردى 

فيرجع الصدى

كأنه مرارة النشيج بلا صدى

مداخلات قيمة في ختام الأمسية

تحدث الشاعر العراقي كريم الأسدى قائلاً: كانت لدينا الليلة قراءة شعرية من الدرجة الأولى ، إكتسبت أهمية خاصة، كونها  محاولة أدبية نادرة. وأود أن أتقدم بجزيل الشكر لـ "منتدى بغداد للثقافة والفنون" الذي فاجئنا بإستضافة ثلاث سيدات عربيات بارعات بنظم الشعر. والحقيقة لم نتصور وفي أول نشاط من هذا النوع بأننا سنستمتع بفضاءات من الشعر وبهذا المستوى الرفيع. سحر أسرى بنا إلى زمن نشأة ما يعرف بـ "شعر التفعيلة" أو الحر ، وإستذكار الشاعرة العراقية الراحلة نازك الملائكة صاحبة قصيدة "الكوليرا" الشهيرة ، والتي هي مِن أهم مَن إبتدء الإنشاء بهذا الإسلوب ووظفه بدقة في الأدب العربي المعاصر وفي ما يعرف بالشعر الحر.. واسمحوا لي أن أعترف بأن جمالية اللغة في شكل القصائد وتركيبها من ناحية الوزن والنمط وعذوبة الإيقاع قد تكلم عن نفسه. ومَن ذا الذي يستطيع فعل ذلك أفضل مما تقدمن به السيدات في هذه الأمسية الجميلة.  

وقال الكاتب الفلسطيني عماد خالد نعمة: يسعدني أن أقول أنني استمتعت أيما استمتاع وأنا أستمع لقصائد تناوبت بين حب الوطن والحب الإنساني ومغلفة بــ "نستولوجيا" متأججة. وهنا يمكنني أن أقول أنَّ ما أطلق عليه الأدب النسوي كان قد تشكَّل في العقد السابع من القرن التاسع عشر في فرنسا، وذلك نظرًا للظلم والقهر الذي يعاني منه هذا الأدب والذي لا يقتصر على المرأة فقط في ظل استمرار النظرة الذكورية لها ، بل يمتد إلى التضييق على الانفتاح الإبداعي لها حتى ولو كان هذا الانفتاح في حدود العادات والتقاليد العربية. وبالرغم من التضييق الكبير والتجاهل في كثير من الأحيان لكتابات المرأة ظهرت بشكلٍ جلي وواضح نماذج مبدعات استطعن القفز على كل تلك المعيقات وحققن حضورهنَّ من خلال أدبهم "النسوي" ، مثل نوال السعداوي ولطيفة الزيات ورضوى عاشور في مصر، وفاطمة المرنيسي في المغرب ، وخالدة سعيد في لبنان وسحر خليفة الفلسطينية وغيرهن، بشجاعة نادرة لمواجهة العقليات المتحجرة التي تقف في وجه رغبة المرأة في تحررها مما علق بها من ظلم وخنق لفاعليتها، في تحد صريح لكثير من الممنوعات المحبطة للمرأة والمعيقة لتحررها، من أجل تحسين وضعيتها ورفعها إلى مكانة اعتبارية مستحقة. غير متناسين توجه يحمل اسم «ما بعد النسوية» في ثمانينات القرن العشرين ، وظهر لتفادي التناقضات الملحوظة التي ظهرت في الحركة النسوية الأولى. ما سمعته اليوم من الشاعرات الأستاذة رشا السيد أحمد والأستاذة أشجان الشعراني والأستاذة الشاعرة والباحثة فاطمة الطيب ، يؤكد بكل المعايير أن الأدب النسوي في المهجر يسير باتجاهه الصحيح وما زال يُكتب بلغةٍ باذخة.

في السريالية ، كما في نقد الواقعية الاشتراكية تحدث أندريه بريتون Andre Breton عن أهمية الشعر من تفاصيل الحياة، بمعنى موقف الشعر من الحياة العامة من أجل هدف له ما يبرره ، بول إلوار Paul Eluard عن "المتعمد" و"غير المقصود" في الشعر، وتعرض جاك بريفير Jacques Préver لما كان شائعاً بـ "الشعر الملغز". أيضاً المصنفات القديمة والحديثة منذ كان أرسطو على قيد الحياة وحتى القرن الثامن عشر، امتازت بتقسيمات فرعية للشعر، كالتفصيلية والملحمية والدراما والمأساوي والهزلي والكوميدي الساخر، أو النموذج الألماني الذي يطلق عليه حسب نظرية الأنواع الشعرية بـ "الشعر الملموس أو المعقول" الذي يدفع في إطار فلسفي إلى أقصى الحدود.  لكن شعر السيدات الأساتذة رشا السيد أحمد وأشجان الشعراني وفاطمة الطيب ، قد أتاح لنا من ناحية الذائقة الأدبية وفقاً لشاعرية أرسطو "حتى الكلمة شعر" مصدرها الخيال. أيقظ ذائقتنا نحو فن أدب الشعر دون تأصيل ذلك بأي أدب "نسائي" أم "ذكوري" كان.. في ستينيات القرن الماضي عبر محمود درويش بـ "الشاعر فنان ماهر"  أولًا وقبل أي شيء ، وأنه بمقدار ما يكون الشكل ملتحمًا مع المضمون تدنو القصيدة من المعنى الصادق القريب للشعر الرائع. وهذا ما افضت إليه الأمسية وإنعقد عليه رئينا.!  

عرض مقالات: