في الذكرى المئوية لتلك الثورة التي سماها الباحثون والكتاب والمؤرخون {الثورة العراقية الكبرى} الذكرى التي تحل علينا اليوم، الـ 30 من شهر حزيران 2020، لا بد لنا من وقفة امام هذه الذكرى العطرة لثورة اجدادنا ورجالنا وشيوخنا وقبائلنا، وذلك الموقف الشامخ لعشائرنا العراقية الاصيلة، وما قدمته من دماء وتضحيات كبيرة على طريق الحرية والاستقلال والسيادة الوطنية.
لقد رافق الثورة الكثير من القضايا والامور التي كانت تعبر عن مجموعة واسعة من وجهات نظر متباينة تارة ومتقاربة تارة اخرى، وهو ما جعل الثورة تبدو وكأنها تشكل تيارا موحدا في موقفه الاستراتيجي، الذي يؤكد ان الشعب العراقي كان يمارس فعلا وطنيا خالصا وهو الدفاع عن الوطن العراقي وترابه وثرواته ومكوناته، وهو ما ارعب دهاقنة الاستعمار وديناصورات الامبراطورية البريطانية. حيث تمكن العراقيون وبسلاحهم البسيط (الفالة والمكوار) من الهجوم لانتزاع بلاد الرافدين من مخالب القط الانكليزي المتوحش، ويرفعوا رايات الثورة العراقية الكبرى (وانه لمن المؤلم حقا ان نرى ابناء الرافدين يغفلون عن هذا الحدث التاريخي الذي زعزع الاستعمار البريطاني وقوض اركانه في هذا الجزء من الوطن العربي الاكبر، متناسين تلك الاشلاء التي تمزقت، وتلك الدماء التي هدرت،وتلك الارواح التي ازهقت، بفعل وسائل القتال البريطانية، التي كانت تصب عليهم جحيم الموت الزؤام، وتهدم بيوتهم، وتدمر ديارهم ) 1/ الثورة العراقية الكبرى / عبد الرزاق الحسني.
كانت الثورة العراقية التي انطلقت من مدينة الرميثة يوم 30 حزيران من العام 1920، كانت ثورة وطنية، ورغم ان قيادتها كانت من شيوخ القبائل العربية ورجال الدين، لكن الثورة كانت فعلا وطنيا نابعا من شعور العراقيين جميعا بأهمية وضرورة الوقوف صفا واحدا لحماية التراب الوطني من ان تدنسه اقدام الغزاة البريطانيين الذين اجتاحوا البلاد في العام 1914.

الحرب العالمية الاولى، واحتلال العراق

اندلعت نار الحرب العالمية الاولى في صيف عام1914، وكانت تلك الحرب التي اشعلتها الدول الكبرى، تستهدف اساسا الاستيلاء على ممتلكات الدولة العثمانية التي باتت مفككة وموزعة.
في 7 تشرين الثاني من العام 1914 وصلت الحملة البريطانية الى ميناء الفاو، وكانت بقيادة الجنرال (ديلامين)، وقد تمكنت القوات البريطانية من الاستيلاء على ميناء الفاو الصغير، وهو ميناء يقع عند مصب شط العرب في الخليج العربي، بسهولة ويسر ودون مقاومة تذكر.
بعد ان تمت للجنرال " ديلامين " السيطرة على ميناء الفاو ترك سرية من جنوده في الفاو وشق النهر مع معظم قواته متجها نحو ميناء عبادان الايراني، حيث توجد منابع النفط ومؤسساته البالغة الاهمية بالنسبة للمجهود الحربي البريطاني، فانزل جنوده في منطقة " السنية "، دون ان يواجهوا مقاومة تذكر من جانب الاتراك)./1 محمود شبيب / جوانب مثيرة من تاريخ العراق المعاصر.
وفي 7 حزيران من العام 1915 تم اجتياح العمارة، وفي 25 تموز من نفس السنة سقطت الناصرية، وتبعتها الكوت في 28 ايلول من العام نفسه.
وهذه التطورات التي تلاحقت وتسارعت كثيرا، باتت تشكل علامة هزيمة كبيرة للجيش العثماني المرابط في العراق.
ولم يتمكن البريطانيون من الوصول الى بغداد، كما كانوا يتصورون، الا بعد مرور ثلاث سنوات، عندما استطاع الجنرال " مود " دخول بغداد في 11 اذار من العام 1917.
كانت الاطماع البريطانية في ولاية البصرة بارزة للعيان من تشديدهم على فصل ولاية البصرة عن جسد الوطن العراقي، ووضعها تحت الهمينة البريطانية المباشرة، كذلك كانت هناك نوايا مبيتة لابقاء العراق بشكل عام، تحت الحكم المباشر للتاج البريطاني من خلال اتباع سياسة تيسير الهجرة من الهند واستراليا وغيرها من دول العالم الى العراق، لغرض اخراجه من مرجعيته العربية وابعاده عن تاريخه ومحيطه العربي.
ثم وضعت الحرب اوزارها، وتوقفت الماكنة الحربية والتي كانت نتائجها فرض الوصاية والانتداب على بعض البلدان العربية ومنها العراق.
وقد توضحت النوايا الخبيثة للدول الغربية في فرض الهيمنة والسيطرة المباشرة على العراق وسوريا ولبنان وشرق الاردن وتهويد فلسطين. والهدف الاساس هو نهب الثروات العربية في هذه البلدان وترسيخ الاستعمار بصورته القبيحة، او المجئ بحكام موالين للغرب الاستعماري الذي كان قد اضمر الشر للعراق بشكل خاص لما يحتويه من ثروات هائلة.
هذه النتائج الخطيرة التي افرزتها سياسة الحلفاء في اقتسام البلدان العربية وشرذمتها ووضعها تحت الانتداب الغربي، حركت المشاعر الوطنية في العراق وادراك ضرورة الخلاص من الوجود الاستعماري والاحتلال البريطاني للعراق.
ان هذا كان من اهم الاسباب التي دفعت رؤساء القوم واعيان البلاد ورجال الدين وغيرهم من المخلصين لبلادهم وشرفهم الوطني، ان يتحركوا سريعا وان يوحدوا صفوفهم لدراسة ما ستؤول اليه الامور، خاصة بعد ان (اعلنت الهدنة، وتوقف القتال في شتى الجبهات) وهو ما دفع السلطة المحتلة في العراق لفرض المزيد من الضرائب الثقيلة على المزارعين واصحاب الاراضي الزراعية، (كما ان السلطة المحتلة شرعت في جمع التبرعات الاختيارية بعناوين مختلفة مثل – تبرعات الصليب الاحمر – وتبرعات – جمعية بناء الملاجئ للجنود في بريطانيا – وتبرعات – عمل تمثال للجنرال مود فاتح بغداد – وغيرها من الرسوم التي ارهقت كاهل المواطنين في ظل الكساد الاقتصادي والفقر والعوز في ذلك الوقت. وكان هذا هو ما اجج الموقف، حيث (كثر الضجيج وعمت الشكوى وبعثت النقمة) الثورة العراقية الكبرى / عبد الرزاق الحسني.

كيف تهيات ظروف الثورة ؟

ابتداء ان اندلاع ثورة العشرين المجيدة، ضد الاحتلال البريطاني للعراق، والسياسة التي اختطتها حكومة الهند البريطانية لجعل العراق ولاية تابعة للهند،تمهيدا لضمه الى التاج البريطاني. وكانت تلك الثورة امتدادا لسلسلة الانتفاضات الشعبية التي حدثت في بغداد،حيث اتخذت الثورة طابع التظاهرات والاحتجاجات من قبل الاهالي، وكانت انطلاقة تلك التظاهرات من تجمع الاعيان والاهالي في جامع الحيدرخانة،الذي شهد بداية الثورة في بغداد، ثم بعد ذلك امتدت المواجهات وانتشرت في مناطق عديدة، ومنها بشكل خاص منطقة الفرات التي تمتد من اعالي الفرات الى الناصرية.
ثم ان رجال القبائل ووجهاء السادة الاشراف نهضوا بهذه المهمة وتحركوا على المرجعية الدينية، لتكون سندا وعونا لهم في هذه المعركة الشرسة ضد الغزاة.
كان اول اجتماع عقده (لفيف من السادة الاشراف و العلماء والزعماء، واهل العراق الاحرار، ووضعت فيه سياسة السلطة المحتلة موضوع المناقشة، فتقرر نشر دعوة واسعة النطاق، ولاسيما بين رؤساء القبائل، لنبذ الخصومات، وتوحيد الكلمة، والاستعداد لمجابهة طواغيت الاحتلال بكل الطرق الممكنة). نفس المصدر السابق.
كان هذا الاجتماع السري الذي عقد في مدينة النجف الاشرف هو الخطوة الاولى في عملية التنظيم والاستعداد والمواجهة. وبعد ان انفض الاجتماع السري، تم العهد الى (الخطباء الفضلاء : كالشيخ محمد علي الجسام، والشيخ باقر الحلي، والشيخ محسن ابو الحب، وغيرهم) حيث نهض الشيوخ بواجبهم في مدن المشخاب، والسماوة، وكربلاء، وتوجه (الشيخ والخطيب المفوه، محمد مهدي البصير، من الحلة الى بغداد لايقاد جذوة نار الحقد على السلطة المحتلة).
وتوالت الاجتماعات السرية واللقاءات لحشد الجموع لمقاومة الاحتلال البريطاني،حيث حصل من خلال الزيارة الى مدينة كربلاء، ان التقى (جمع كبير من رؤساء الدين، وزعماء القبائل، وسادات العشائر، فعقد اجتماع تمهيدي في دار السيد عزيز الياسري، حضره لفيف من رؤساء " المشخاب " و" الشامية " و" الرميثة" وغيرها)، وقد كان السادة الاشراف على راس الحاضرين ومنهم ( علوان الياسري، وقاطع العوادي، وهادي زوين، ومحمد رضا صافي، ومحسن ابو طبيخ ) كذلك (المشايخ : عبد الواحد ال سكر، ومجبل ال فرعون، وعلوان الحاج سعدون، وعبادي الحسين، ومرزوك العواد، وشعلان العطية، وسعدون الرسن، وشعلان ابو الجون، وغثيث الحرجان، وشعلان الجبر) كذلك كان هناك مجموعة من سادة كربلاء وزعمائها ضمن الحاضرين لهذا الاجتماع (السيد محمد علي هبة الدين، والسيد عبد الوهاب الوهاب، وعمر العلوان، ومهدي القنبر، وطليفح الحسون، ورشيد المسرهد، وعبد الكريم العواد)، حيث تراس هذا الاجتماع الشيخ محمد رضا، نجل الامام محمد تقي الحائري. / نفس المصدر.

اتفاق مبدأي والشروع باعلان الثورة

وبعد ان تعززت ثقة الزعماء بقدراتهم واستعدادهم الكامل، فقد (قرروا الشروع في اعلان الثورة في مواضع مختلفة، وفي يوم واحد، ليتمكنوا من مشاغلة القوات الانكليزية في ميادين مختلفة، وكلفوا الشيخين : شعلان ابو الجون، وغثيث الحرجان ان يستعدا للقاء في السماوة، وان يحرضا بقية الرؤساء على الانضمام تحت هذا اللواء المقدس). / الثورة العراقية الكبرى / عبد الرزاق الحسني.
وبعد ان اقتنع الامام الشيرازي بموقف الزعماء والسادة الاشراف، واستعدادهم الواضح للمواجهة واعلان الثورة حتى اصبح مطمئنا تماما للموقف الموحد لزعماء الفرات والعاصمة بغداد، خاصة بعد ان وصلت مضابط التوكيل من المدن الرئيسية مثل بغداد وكربلاء والنجف والشامية، وهي تؤكد كامل الاستعداد والتهيؤ من قبل الجميع، وانهم تعاهدوا واقسموا يمين الاخلاص لكل حركة تستهدف تحرير العراق وتخليصه من براثن الاستعمار والاحتلال.
بعد ان توسعت رقعة المقاومة للاحتلال الاجنبي، خاصة بعد ان وصلت انباء (توكيل البغداديين، للمندوبين الخمسة عشر) حتى وجه الامام الحائري الشيرازي كتابا (الى الرؤساء والزعماء والاشراف، والافراد، في انحاء مختلفة من العراق يستحثهم فيها على الاستعداد والتهيؤ)، وان يكونوا موحدين في مواقفهم من الحكم الاجنبي المحتل للبلاد.

الاسباب الرئيسية للثورة

هناك اسباب داخلية واخرى خارجية، ورغم ان الداخلية كانت تمس حياة العراقيين مباشرة، في عيشهم وسلامة حياتهم العامة وكرامتهم واستقلال بلادهم وابعاد شبح الاستعمار عن وطنهم ومستقبل بلادهم بشكل عام، الا ان المؤثرات الاخرى الخارجية،كانت تشكل دافعا مضافا للظروف والاحوال الداخلية في مجتمع مازالت تشكل القبائل فيه نسبة عالية جدا، وهو ما اضفى على الحركة طابعا قبليا واضحا، اضافة للتاثير الديني الذي كان يرافق حركة القبائل العربية ويدفعها لمناهضة الغزو البريطاني لبلادهم.
وقد تمثلت المؤثرات الخارجية في العديد من الفعاليات السياسية التي اهتز لها الوجدان العراقي والعربي، ومن تلك المؤثرات (الثورة الحجازية، والوثبة المصرية، وقيام الحكومة الفيصلية في الشام)، اضافة لما ظهر من نكث العهود التي قطعها الحلفاء للشعوب العربية في مختلف بقاعهم في الارض العربية، وهو ما اجج المشاعر الوطنية والقومية لدى تلك الشعوب ومنها الشعب العراقي.
كما ان البلاغات التي كان يصدرها برسي كوكس (قائد القوات البريطانية في العراق)، كانت عاملا مؤثرا جدا في رسوخ القناعة لدى زعماء القبائل العراقية ورجال الدين وغيرهم من رجالات العراق، مما دفعهم للمزيد من التحرك وتوحيد الصفوف ونبذ الخلافات وشحذ الهمم لمواجهة القوات البريطانية المحتلة.