حدد مجلس النواب عند إقراره قانون الموازنة الاتحادية لسنة ٢٠١٩، موعدا للانتهاء من ملف ادارة مواقع المسؤولية في الدولة وكالة. فعند حلول نهاية شهر حزيران القادم، تكون أكثر من ٤٠٠٠ درجة وظيفية تشغل الآن وكالة، في حكم منتهية الصلاحية وشاغرة على وفق القرار البرلماني.

ومعلوم ان هذه المواقع تشمل الدرجات الخاصة، وتضم طيفا واسعا من الاختصاصات، بينها من هو بدرجة وزير، اضافة الى وكلاء الوزارات والمدراء العامين والمفتشين العموميين وعدد من القادة العسكريين والأمنيين، فضلا عن اعضاء الهيئات المستقلة والجهات غير المرتبطة بوزارة.

القلة القليلة من اصحاب هذه الدرجات الخاصة، جرى تعيينهم وفقا للمواد  الدستورية ذات العلاقة وصادق عليهم مجلس النواب، ومنهم السفراء، فيما العشوائية والفوضى وغياب المعايير والمحاصصة والمحسوبية والمنسوبية  وشراء المناصب وتعيين ذوي القربى  وتدافع المتنفذين عليها، هو ما حكم التعيين فيها عموما، فجاء  الكثير ضعيفا لا يمتلك المؤهلات والكفاءة الضرورية لإدارة موقعه الوظيفي، وتحمل المسؤولية  التي أسندت اليه، وكان ذلك من بين الأسباب العديدة التي  أضعفت  الأداء الحكومي والمؤسسي وهيبة الدولة،   وساهمت  في تفشي الفساد والرشى وضياع المال العام والوقت والجهد، وبطء  تنفيذ الخطط والمشاريع، وتلكؤ عملية اعادة البناء والإعمار.

ويمتد الخلل الى الفوضى العارمة في مجموعة الأنظمة والقوانين والتعليمات، والكثير منها صدر ايّام النظام المقبور وما زالت سارية المفعول. تضاف اليها الصلاحيات غير المبررة او المستندة الى تشريع قانوني، التي تمنح لهذه الجهة او تلك ولهذا الشخص او ذاك. والأنكى ان تستحدث مؤسسات وهيئات ووظائف لا حاجة لها البتة، ولا تؤسس الا لإرضاء أشخاص او جهات معينة، او استجابة لضغوط داخلية او خارجية.   وهو ما زاد الطين بلة من ناحية ترهل مؤسسات الدولة وتضخم جهازها وقلة فاعليته ومحدودية كفاءته.

ولعل من النادر ان يوجد في دولة كم هائل من المناصب القيادية الرئيسية المدنية والعسكرية، التي تدار بالوكالة، مثل الموجود في بلادنا اليوم. لذلك فان التوجه الى معالجة جذرية للأمر، بات امرا ملحا وضروريا في سياق عملية اصلاح شاملة، تتضمن ايضا اعادة النظر في تركيبة وهيكلة الجهاز الإداري بمجمله، وان يطال التغيير والتجديد القوام (بما في ذلك الغاء الدرجات الخاصة غير الضرورية في الدوائر المدنية والعسكرية) وأساليب العمل على حد سواء، والتخلص من الترهل والبيروقراطية، ومن الفاسدين والمرتشين، ومن القوانين والتعليمات المعرقلة والكابحة.  اضافة الى اللجوء على نطاق واسع الى الحوكمة الإلكترونية، وتسهيل تقديم الخدمات للمواطنين والتخفيف من معاناتهم.

ومن شأن النجاح في ذلك ان يشكل مساهمة كبيرة في تحسين الأداء وتطويره، وتقليص الضائع من المال والوقت والجهد، ورفع نسب تنفيذ المشاريع والخطط والاستراتيجيات المرسومة.

وفِي هذا السياق يتوجب تشريع قانون الخدمة المدنية، وتفعيل قانون مجلس الخدمة العام وتشكيل هذا المجلس دون ابطاء، كي يباشر تنظيم عملية اعداد الضوابط والمعايير للوظيفة العامة، ومراقبة تنفيذها بحيادية وشفافية ومسؤولية، وبما يتيح للمواطنين التقديم الى الوظيفة على وفق الكفاءة والتأهيل والنزاهة، وتوفير الفرص المتكافئة للعراقيين جميعا، ليتنافسوا بحرية ومن دون تمييز لأي سبب او ذريعة.

ان تحقيق هذا وغيره من الاجراءات الضرورية والواجبة، سيتيح تحقيق جانب من العدالة الاجتماعية، وتفعيل مبدأ المواطنة، ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب، بدل الفوضى الحالية في التعيينات وإسناد الوظيفة العامة، على مختلف المستويات.

كما انه سيسهم في تفكيك الدولة العميقة، وانهاء احتكار الوظائف العامة من قبل مجموعة من المتنفذين وأحزابهم، ويفسح في المجال للمواطن الكفوء والنزيه وذي الخبرة، مستقلا كان ام منتميا، لخوض المنافسة والتقدم لإشغال المناصب العليا والدنيا في الدولة.

غير ان هذا يتطلب توفر الإرادة الوطنية المقتنعة بضرورة التغيير، والمدركة الحاجة الماسة اليه، كما يتطلب ان تعي الكتل السياسية والأحزاب جميعا، ان وظائف الدولة ليست غنيمة واحتكارا لها، وان الإصرار على المحاصصة والاستناد اليها في معالجة ملف إنهاء وظائف الدولة بالوكالة، وفي إسناد الوظيفة العامة عموما، واعادة انتاج الدولة العميقة بهذا الشكل او ذاك، ما هو الا تشبث بالمصالح الخاصة الضيقة على حساب مصلحة الشعب والوطن العليا.

  وفِي ذلك إضرار عمد، ووضع للعصي في دواليب عجلة الاصلاح والتغيير المنشودين.