في المنظومة الفكرية الماركسية يمثل التاريخ مجمل نشاط الناس في سعيهم الى تحقيق أهدافهم عبر تطويع الطبيعة في صراعهم معها باستخدام المهارات والتكنولوجيا من أجل خلق الظروف المادية لكي يمارس الفرد حريته ويزيد من فرص بقائه وبالمفهومين الشخصي والتطوري. وعلى الرغم من انكار الفلسفات الوضعية والمثالية لدور القوانين العامة في تطور المجتمعات، يصنع البشر تاريخهم في ظروف قائمة ومستمرة وخارجة عن إرادتهم. فطبقا للمقاربة الماركسية التي تعتمد المنهج المادي الجدلي تمثل القوى المنتجة (تشمل الأدوات ومهارات انتاج السلع والخدمات والتكنولوجيا) الأساس الذي يعتمد عليه التطور الاجتماعي الارتقائي في الانتقال من نمط اجتماعي الى آخر أعلى بشكل تدريجي بطئ ولكن بقفزات عندما تنضج الظروف الموضوعية والذاتية لقيام الثورة.
ومن المتغيرات الهامة في قوى الإنتاج في القرن الحالي الدور المتزايد لاستخدام التقنيات الرقمية، وخاصة الذكاء الاصطناعي، التي تعتمد على الحوسبة الفائقة السرعة والشبكة العنكبوتية لتسهيل العمليات الاقتصادية ورفع مستوى الكفاءة الإنتاجية عبر حوكمة التخطيط والإدارة والتسويق وتعزيز دور الابداع والمعرفة والتطور العلمي لأحداث تغييرات جوهرية في أنماط العيش. في هذا السياق يشكل الذكاء الاصطناعي تقنية محددة رديفة للاقتصاد الرقمي (استخدم المصطلح لأول مرة عام 1995) الذي يعتمد التكنولوجيا الرقمية لتحسين الاتمتة والروبوتات في الصناعة والقدرة على تحليل كميات ضخمة من البيانات بسرعة ودقة فائقة والقدرة على تطوير منتجات وخدمات جديدة وعصرية ودعم الإبداع الرقمي لتقديم خدمات أفضل .
وسيكون لهذا المتغير في مكون رئيس من قوى الإنتاج تداعيات اقتصادية واجتماعية عميقة مازال المختصون يحللون أبعادها وآفاقها وتأثيراتها على مستقبل البشرية . فمثلا أدى هذا التطور قي قوى الإنتاج الى ملامح تأثير نوعي على علاقات الإنتاج التي سمحت، ولأول مرة، بزيادة غير مسبوقة في الترابط والتفاعل بين البشر عبر الهاتف النقال والتواصل الرقمي عن بعد الى الحد الذي شكلت فيه الاتصالات أحد المقومات الرئيسية لهذا الاقتصاد الجديد الذي يختلف عن الاقتصاد التقليدي كونه متحركا ومعولما ويمتد فيه التنافس الى مجالات القدرة في الابداع والابتكار والجودة والتكيف .
ومن الآفاق الواعدة لتقنيات الذكاء الاصطناعي إمكانيات تفاعلها مع الاقتصاد التقليدي الوطني أو القومي خاصة في اصلاح العمليات الاقتصادية والصناعية التجارية والمالية بهدف الوصول الى مجتمعات ذكية مستدامة تحافظ على البيئة للأجيال القادمة وتعمق الممارسة الديمقراطية ودور مؤسسات المجتمع المدني في تعزيز الرقابة من تحت على نشاط الحكومة ومؤسسات الدولة والقطاع الخاص لخلق بنية تحتية مجتمعية تدعم المساواة والشفافية والمشاركة المجتمعية وصولا الى مجتمع المعرفة والمعلومات المتاحة للجميع لرفع الوعي والمسؤولية تجاه الإنسانية والكوكب الذي نعيش عليه.
ويطلق ماركس على أدوات الإنتاج "الجهاز العظمي والعضلي للإنتاج"، وبها تتمايز العهود الاقتصادية تاريخيا. فما قبل الثورة الصناعية كان البشر يستخدمون الأدوات اليدوية وكان الإنتاج بدائيا حتى ظهرت الآلة البخارية ومحرك الاحتراق الداخلي في عام 1860 ولكن جميعها "امتداد لليد "حتى شرع الانسان بتطبيق العلوم الجديدة المتمثلة الآن بالثورة الرقمية وصعود تقنيات الذكاء الاصطناعي التي أصبحت "امتدادا للدماغ ".
ولأهمية الثورة التكنولوجية الحديثة التي اجتاحت العالم والنجاحات التي حققتها تصدرت جداول أعمال القيادات السياسية ورجال الاعمال والمال وعلماء التقنيات الرقمية في العالم وبهدف تمكين الاقتصاد الرقمي وتعشيقه مع الاقتصاد التقليدي لتحقيق مستويات جديدة .
ولو انتقل ماركس الى 2025 ورأى الآلاف من المجلدات والمقالات التي تناولت ما كتب عن الماركسية وحول تجربة الاتحاد السوفيتي وانهيارها عام 1989 من الثناء والنقد الموضوعي أو لتسجيل موقف معادٍ مسبق أو عشرات المدارس الفكرية الي تدعى انتماءها للماركسية لأعاد قراءة وتدقيق ما كتبه مع رفيق دربه انجلز وبالاستفادة من الأفضليات التي تقدمها الثورة الرقمية والمعلوماتية .
فلن يضيع ماركس وقته مثلا بالذهاب يوميا الى المكتبة البريطانية في لندن بل لاستثمر قدراته المالية المحدودة في كومبيوتر محمول وسجل في كورس تعليمي للتعرف على ما هو ضروري لبناء قدراته على الاستخدام الكفوء للتقنيات الرقمية الجديدة ومنها الذكاء الاصطناعي واستخدام خوارزميات تمكنه من تحليل وترجمة الكم الهائل من الكتب والأوراق البحثية والمقالات والتي سيعتمد عليها في تدقيق اطروحاته التي نشرها بمفرده او مع انجلز في مجالات الفلسفة والاقتصاد والنشاط والتنظيم السياسي وإضافة جزء رابع الى كتاب (رأس المال) حول الاقتصاد الرقمي. فالماركسية ليست مذهبا جامدا أو ايقونات صالحة لكل زمان ومكان، بل هي منهج نقدي جدلي يسمح استخدامه بالوصول الى نتائج رصينة يمكن التحقق منها علميا وفي سياق التراكم التاريخي لمكونات المعرفة العلمية.
في الجانب الآخر خلق عمق وسعة التطور المتسارع للتقنيات الرقمية وتأثيراتها المجتمعية المتعددة الأوجه أزمة فكرية معرفية من نوع آخر. فالصراع بين التيارين المادي والمثالي مازال قائما ويتجلى بحيرة ودهشة علماء العلوم الطبيعية والرقمية للأبعاد الفلسفية لهذه التخوم المعرفية الجديدة غير التقليدية كعوالم الجزيئات ما تحت الذرة في الفيزياء وعلم الكون وثقوبه السوداء والكوازرات والحاسوب الكمي، وفي علوم الرياضيات والجينات والآن هذا الفضاء الرقمي المجهول الحدود. ولكن يختلف الامر عندما يتعلق بالتاريخ وحركة المجتمعات حيث مازالت بقايا فلسفة الكانتيين الجدد سائدة في انكار وجود قوانين تحكم التطور الاجتماعي ويتعاملون معها بشكل وصفي ومن وجهة نظر ذاتية وأخلاقية .
ومن انعكاسات هذه النظرة الفلسفية العجز عن تقديم تقييم موضوعي للأهمية التاريخية للثورات العلمية والتكنولوجية، منها مثلا تأثير الأنظمة والبرامج التي يمكنها محاكاة القدرات البشرية في التفكير والتعلم والتفاعل لأغراض تتعلق بتمكين الآلات من القيام بمهام تتطلب الذكاء البشري مثل الفهم اللغوي، والتعرف على الصور، واتخاذ القرارات والتي يستخدم بعضها اليوم البلايين من البشر خاصة في تقنيات التواصل الاجتماعي.
وفي الوقت التي تقيم المقاربة الماركسية الثورة الرقمية إيجابيا في كل تطور علمي فانها تنظر الى جانبها السلبي المتمثل بخضوعها لقوانين التطور الرأسمالي وتناقضاته الداخلية بكل ما تولده من أمراض اقتصادية واجتماعية وروحية وأخلاقية، وجوهرها استغلال شغيلة اليد والفكر، وتركز الثروة والسلطة لدى الأقلية الفاحشة الثراء. كما تعمق التقنيات الرقمية الحديثة حالات الاغتراب وفقدان الشعور بالهوية والانتماء وتمويه الصراع الطبقي وإعادة تشكيل وعي زائف بسبب الاستخدام الواسع لتقنيات الدعاية والتواصل الحديثة، فيتطور وعي مجتمعي يبرر التبعية والتشيؤ، حيث يحقق الشخص ذاته عبر اقتناء البضائع الرقمية كالموبايل، ويصبح كل شيء سلعة حتى الثقافة والفنون والبيانات، وتتحول التكنولوجيا الى أداة للسيطرة بيد السلطة او فرض الهيمنة العسكرية أو للقمع الداخلي (في عام 2022 في سان فرانسسكو وقع مئات الآلاف على عريضة لمنع استخدام الروبوتات في اعمال الشرطة المحلية) أو لتطوير أسلحة الدمار الشامل .
وفي ذات الوقت تفرز هذه الثورة النقيض اجتماعيا، فالتكنولوجيا الرقمية يمكن ان تحرر الانسان اذا استخدمت لتحسين ظروف العمل وخلق فرص جديدة للفرد للتدريب والتعليم، ومجتمعيا على تعزيز العدالة الاجتماعية وترصين السلام العالمي ومنع الحروب، لأنها لا تملك قوى سحرية وليست شريرة بذاتها الا أن مخاطرها تأتي من إساءة استعمالها من قبل قلة من البشر من مالكي الثروات الطائلة ومن أوساط وفئات تدين لهم بالطاعة والولاء أشبه بالعبيد لقاء منافع مادية كالمنح والتمويل والرواتب المغرية .
فما نشهده من شد وجذب حول الذكاء الاصطناعي هو في جوهره سياسي اقتصادي اجتماعي يتركز حول القضية المركزية وهي لخدمة من يتم تطوير التقنيات الرقمية، وبذلك تعود ملكيتها الى كل فرد وللبشرية جمعاء إن أردنا الحفاظ على استدامة الأرض واستمرارية الحياة عليها .