اختفت مع الفترة الرئاسية الاولى للرئيس (بيل كلينتون) أية مؤشرات على تفكير الاوساط المحدِدة للسياسة الخارجية الامريكية. عادت هذه الرؤية للبروز في أوساط الادارة الامريكية مع حلول 22 مايس 1997 وهو تاريخ بداية عرض ومناقشة تقرير "المراجعة الرباعية للدفاع" The Quadrennial Defense Review   من قبل وزير الدفاع الامريكي آنذاك ويليام كوهين William Cohen   أمام الكونغرس. ثم اصبح وزير الدفاع في ادارة كلينتون ويليام بيري William Perry  في 1 كانون الاول/ديسمبر 1996 ملزما بإحداث هذا المجلس وهو ما تم فعلا. و بعد ذلك باسابيع قليلة أقدم كلينتون على تغيير في غاية الاهمية: فقد عُيّن في ظروف غامضة (ويليام كوهين) وزيرا جديدا للدفاع حيث قام هذا الأخير بُعيد مباشرة مهامه في شهر شباط 1997 بتعيين عناصر جديدة في "مجلس الدفاع الوطني" و اشرف بشكل سريع وفي غضون بضعة أشهر على احياء و اصدار"المراجعة الرباعية للدفاع".

لقد تمت مناقشة تقرير كوهين في الكونغرس خلال الفترة بين 22 آيار 1997 و 15 كانون الاول/ديسمبر من نفس السنة حيث وقع تبنيه بشكل نهائي. يقول التقرير في اهم فقراته ما يلي: "سيبقى العالم مكانا خطرا وغير آمن بشكل كبير وستواجه الولايات المتحدة على الأغلب عددا من التحديات الجدية لأمنها من الآن حتى سنة 2015. أولا، سنواصل التعرض لمجموعة من المخاطر الاقليمية، اكثرها أهمية على الاطلاق يمثله تهديد التحرش بالولايات المتحدة و اصدقائها في مناطق حساسة وغزو كبير لحدودها من قبل دول معادية تملك قوة عسكرية مهمة. وفي جنوب غرب آسيا، يواصل كل من العراق و إيران التسبب في المخاطر لجيرانهما وللتدفق الحر للنفط من المنطقة. سيبقى الحصول على النفط في المستقبل المنظور حاجة قومية للولايات المتحدة". وفي مكان آخر يتعرض التقرير بشكل مباشر الى خيار "الحرب الاستباقية" كخيار استراتيجي للولايات المتحدة حيث يقول:"إن مسألة اتخاذ القرارات بشأن استعمال القوة العسكرية يجب ان تُحدد قبل اي شيء على اساس المصالح القومية للولايات المتحدة (...) وعندما تكون المصالح حيوية – أي تتسم باهمية كبيرة و شاملة في بقاء و أمن و حيوية الولايات المتحدة- فيجب آنذاك ان نقوم بكل ما يلزم للدفاع عنها بما في ذلك، وإذا دعت الضرورة، الاستعمال الأحادي للقوة العسكرية (The Unilateral of military force)   وذلك لأسباب منها منع ظهور تحالف أو قوة اقليمية معادية". و في رسالة علنية بتاريخ 26 كانون الثاني 1998 موجهة الى الرئيس الامريكي بيل كلينتون دعا انصار "الحرب الاستباقية" الرئيس لتبني استراتيجيتهم الهجومية و وضعها موضع التنفيذ من خلال العدوان على العراق، ذلك المثال الذي ما فتئت كل الوثائق أعلاه من الرجوع إليه عند الدعوة لاستراتيجية "الحرب الاستباقية".

لقد وُقعت هذه الرسالة من قبل ثمانية عشر شخصية سياسية و فكرية كشفوا فيها لأول مرة عن وجود تيار واضح المعالم يتبنى استراتيجية "الحرب الاستباقية"، وشملت القائمة العديد من الشخصيات التي لعبت أدوارا سياسية في الحرب الاخيرة على العراق: دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع وقبل ذلك المسؤول البيروقراطي والمخضرم في وزارة الدفاع و النائب المتنفذ في الكونغرس؛ وبول وولفويتز، نائب وزير الدفاع في حينه؛ و ريتشارد بيرل Richard Perle  كبير مستشاري وزير الدفاع حتى الحرب على العراق والذي بدأ حياته السياسية ضمن دواليب وزارة الدفاع في السبعينات رفقة صديقه وولفويتز؛ وبيتر رودمان Peter Rodman  مساعد وزير الدفاع الامريكي المكلف بشؤون الامن الدولي والذي عمل في وزاراتي دفاع ادارتي ريغن وبوش الاب؛ وريتشارد ارميتاج Richard Lee Armitage  مساعد وزير الخارجية الامريكي؛ وجون بولتون John Bolton  وهو الآخر مساعد وزير الخارجية الامريكي؛ وباولا دوبريانسكيPaula Dobriansky  نائبة وزير الخارجية الامريكي المكلفة بالشؤون الدولية؛ وزلماي خليلزاد Zalmay Khalilzad والذي كُلف كمبعوث رئاسي في مهام حساسة في حروب الرئيس بوش الابن سواء في افغانستان او العراق والذي له إرتباطات قوية بعدد من الشركات النفطية الأمريكية خاصة منها  Unocal؛ وايليوت ابرامز Elliot Abrams  كبير مستشاري الرئيس بوش الابن في مجلس الامن القومي في شؤون الشرق الاوسط و شمال افريقيا؛ و روبرت زوليكRobert Zoellick  والذي كان يشغل منصب الممثل التجاري الأعلى للولايات المتحدة ضمن مكتب الرئيس بوش الابن و الذي عمل سابقا ضمن دواليب وزارة الخارجية خاصة عهد الرئيس بوش الاب. كما ضمت قائمة الموقعين على الرسالة تشكيلة منوعة من "مفكري الظل" منهم بالخصوص: فرانسيس فوكوياما Francis Fukuyama المحسوب عادة على "الليبراليين"؛ وويليام كريستول  William "Bill" Kristol  اهم منظري تيار المحافظين الجدد حينها؛ وروبرت كاغان Robert Kagan المنظر الثاني في مجموعة المحافظين الجدد؛ ثم جيمس وولسي James Woolsey  مدير وكالة المخابرات المركزية الامريكية خلال أواخر الثمانينات من القرن العشرين و العضو في عدد من مراكز البحث الامريكية و أحد أهم الوجوه التي تتصدر منظري المحافظين الجدد؛ وويليام بينيت William Bennet أحد المفكرين الأساسيين لتيار المحافظين الجدد و الذي يرجع تأثيره الى عهد الرئيس (دونالد ريغان) حيث شغل منصب وزير التعليم و هو حاصل على دكتوراه في الفلسفة السياسية من جامعة تكساس. بالاضافة الى هؤلاء فإن عددا من الوجوه السياسية مثل وولفوويتز و بيرل و رودمان و دوبريانسكي لعبت في الواقع دورا تنظيريا وتملك عموما خلفيات اكاديمية في مجال العلوم السياسية.

واذا كانت مجموعة "الحرب الاستباقية" في ادارة بوش الابن قبل 11 أيلول/سبتمبر 2001 لم تنجح في اقناع الرئيس كلينتون فقد نجحت في التحكم في طاقم ادارة الرئيس بوش الإبن. فكما اوضحنا أعلاه فان عددا هاما من الموقعين على الرسالة عُينوا في مناصب حساسة من قبل إدارة بوش الابن و هو ما عكس سيطرة كاملة على وزارة الدفاع - حيث يجب اضافة اسم دوغلاس فايث Douglas Feith   الى المجموعة أعلاه- بالاضافة الى سيطرة جزئية على وزارة الخارجية. تجدر الاشارة هنا الى ان سرعة التغيرات الميدانية دفعت بالبعض الى التراجع أو تبني مواقف هذه المجموعة، غير ان اهم المؤشرات التي تدل على الاضطراب الذي يمكن ان يحدث داخل هذه المجموعة ويعكس وحدتها الهشة كان الصراع الذي دار بين "مجموعة السياسيين" و "مجموعة المنظرين" في صيف 2001 أي قبل أسابيع قليلة من أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001، يوم كانت إدارة الرئيس بوش الابن تمر بحالة صعبة جدا حيث استمر بشكل واسع الجدال حول مدى شرعية الرئيس الامريكي عقب واحدة من اكثر الانتخابات الرئاسية إثارة للجدل في تاريخ الولايات المتحدة. كان لذلك تأثير أكيد على البرامج الأولية التي قررها طاقم الادارة الامريكية و التي تأثرت بالشعبية الضعيفة للادارة الجديدة. فمن جملة التغييرات الطارئة كان التخفيض في ميزانية وزارة الدفاع مقارنة لما نادى به في السابق أقطاب المحافظين الجدد المسيطرين على وزارة الدفاع. فقد نشر كل من كريستول وكاغان في عدد 23 تموز/جويلية 2001 من دورية Weekly Standard مقالا مشتركا بعنوان "بدون دفاع" ، يبدأ المقال كالتالي: " هذه نصيحة ضرورية الى صديقين قديمين، هما دونالد رامسفيلد و بول وولفويتز: استقيلا".

في مقال له بعنوان "البحث عن السياسة الخارجية" Looking For a Foreign Policy  يقول ستانلي هوفمان Stanley Hoffman ما يلي:

"منذ نهاية الحرب الباردة، شرعت السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية في مهمة للبحث عن خط موجه جديد على شاكلة مذهب الاحتواء الذي صاغه جورج كينان في عامي 1946 و 1947، والذي كان موجها طيلة الحرب الباردة".

وقد بدا واضحا أن التوجه الجديد اعتمد على رؤية "توازنية " Equilibriste، فبين التيار التدخلي، الهيمني الذي يريد من الولايات المتحدة أن تقوم بدور عالمي مهيمن، والتيار الانعزالي التقليدي الداعي إلى انسحاب الولايات المتحدة من مسؤولياتها العالمية المكلِفة دون مردود، اتجهت الإدارة الأمريكية الجديدة اتجاها يحاول أن يكون موفِّقا بين الاثنين، وبالتالي أكثر تكيّفا مع واقع وضعية الولايات المتحدة الذي يفرض عليها مسؤوليات عالمية قيادية دون أن تُطرح هذه المسؤوليات بالشكل المطلق، وفي الوقت نفسه يمكِّن الإدارة من الالتفات لمعالجة الوضع الداخلي، وهي المهمة التي كانت تقع على رأس قائمة أولويات الإدارة المنتخبة في نوفمبر 1992. وقد عبر كلينتون عن هذا التوجه في خطابه الموجه للجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 27 سبتمبر 1993.

 ويرى بعض المهتمين بهذه الاشكالية أن تبنِّي الإدارة الأمريكية خلال "حقبة كلينتون" لهذا الاختيار جاء نتيجة موازنات قادتها إلى النتيجة التالية: "إن سياسة خارجية مبنية على مبدأ الهيمنة العالمية سيكلِّف الولايات المتحدة ثمنا اقتصاديا باهظا، كما أن إتِباع سياسة مبنية على مبدأ الانعزالية التقليدية سيكلّفها ثمنا سياسيا أكبر ".

عرض مقالات: