بعد انتهاء "الحرب الباردة" وتراجع دور العامل الآيديولوجي مؤقتا لصالح العامل الاقتصادي والعسكري- وهو تماما ما يتماشى مع رؤية الجمهوريين- وإثر التحولات الدولية التي طرأت على الواقع الدولي بالانتقال إلى وضع الأحادية القطبية، فإن ثمة سؤال يطرح نفسه هنا وهو: ما هي طبيعة ومعالم الإستراتيجية الأمنية الأمريكية خلال فترة رئاسة بوش الأب؟ وما هي أهم القضايا التي واجهت الإدارة الأمريكية في تلك الفترة؟
تقتضي الضرورة هنا وفي اطار المسعى للإجابة على هذا السؤال التوقف قليلا عند بعض القضايا.
بعد نهاية "الحرب الباردة" وجدت الولايات المتحدة نفسها في عالم بدون حدود ولا معالم ولا عدو، ما جعل الإدارات المتعاقبة من بوش الأب وكلينتون إلى بوش الإبن، تبحث عن دور للولايات المتحدة في "عالم ما بعد الحرب الباردة"، وهو ما أدركه المفكرون الأمريكيون، عملا بـ "نظرية التحدي والاستجابة" للمؤرخ أرنولد توينبي، التي تقول أن المدنيات التي تواجهها التحديات هي فقط التي تزدهر وفي غياب التحديات تراوح مكانها ثم تضمر، وكذلك "نظرية الكتلة المزدوجة" لكانيتي ومضمونها استمرار الدولة لا يكون إلا بوجود دولة ثانية ترتبط بها، سواء تواجهتا أو تبادلتا التهديد جديا، فوجود الدولة الثانية أو حتى التخيل الكثيف لها كفيل بضمان تماسك الأولى، ومن نتاج هذه الأطر نجد "نظرية صدام الحضارات" لصامويل هنتنجتون.
في خضم هذه التجاذبات احتدم النقاش وتمحور حول ثلاثة اتجاهات:
الاتجاه الأول: يجمع أنصاره على أن جوهر الصراع القادم سيكون اقتصاديا، ومن ثم يجب على الولايات المتحدة مواجهة الأقطاب الاقتصادية الأخرى (اليابان والصين والاتحاد الأوربي).
الاتجاه الثاني: يرى بأن الصراع في القرن القادم سيكون حضاريا، نتيجة سعي الولايات المتحدة لنشر منظومتها الفكرية والقيمية والتي سوف تتصادم مع حواجز الحضارات الأخرى، وتندرج أطروحة صدام الحضارات ضمن هذا الاتجاه.
الاتجاه الثالث: يتمسك أنصاره باستمرار أهمية العامل العسكري في التوازنات الدولية، وعليه فكل الدول ذات القدرات العسكرية والخارجة عن نطاق المظلة الأمنية الأمريكية تشكل تهديدا حقيقيا للمصالح الأمريكية، لذلك يجب العمل على منع ظهور أو تطور أي مصدر تهديد، عملا بمقولة "إذا لم تصنع مستقبلك فإن الآخرين سوف يصنعون لك هذا المستقبل".
لقد كان كل اتجاه من الإتجاهات الثلاثة للصراع القادم- اقتصادي أو حضاري أو عسكري- يدفع باتجاه تبني أطروحاته في صياغة السياسة الأمريكية.
من المعروف أنه وفي اوائل التسعينات من القرن العشرين، عاد "الوِلسنيون الجدد" للتعبير عن اعتقادهم بأّنه لدى الولايات المتحدة فرصة رائعة لخلق عالم جديد، وأن على الأمريكيين بذل كل الجهود لاستغلال هذه الفرصة لنشر "ثورة ديمقراطية" في العالم أجمع. والشيء الملاحظ أن إدارة الرئيس جورج بوش (الأب) قد احتضنت هذه الرؤية غداة إعلان شن الحرب ضد العراق نهاية العام 1990. فمن ضمن الأهداف المحددة للولايات المتحدة خلال عملية بناء الحملة العسكرية ضد العراق، أشار الرئيس بوش أمام جلسة مشتركة للكونغرس الأمريكي في 11 سبتمبر 1990 إلى هدف وصفه بالخاص والرئيسي أسماه "بناء نظام عالمي جديد" (Building a New World Order) واضعا تفصيلاته حسب الصورة التالية: "نظام دولي جديد، حقبة جديدة خالية من التهديد باستعمال العنف، أكثر قوة في متابعة العدل وأكثر أمنا في السعي نحو السلام. عهد يمكن فيه لأمم الشرق والغرب، الشمال والجنوب، من أن تزدهر في رخائها، ومن العيش في تجانس [...]. اليوم يصارع النظام الجديد لكي يولد عالم يختلف تماما عن الذي نعرفه، حيث سيستبدل حكم الفوضى بحكم القانون، عالم تدرك فيه الأمم المسؤولية المشتركة للحرية والعدالة، عالم يحترم فيه القوي حقوق الضعيف".
وبالمقابل فإن الكثير من الملاحظين كانوا ينظرون إلى رؤية إدارة بوش (الأب) لدور الولايات المتحدة في عالم ما بعد الحرب الباردة على أنها تكتيكات أكثر منها رؤية إستراتيجية بعيدة المدى، على الرغم من أنها حاولت توظيف المثاليات الأمريكية وتدعيم القوة العسكرية في آن واحد.
ويمكن الاتفاق مع الملاحظة التي أشار اليها احد الباحثين وهي ان إدارة بوش (الأب) لم تكشف في إطار التّنظير، عن نموذج استراتيجي مفصل يوضح على وجه التحديد ما الذي تريد تحقيقه في حقل السياسة الخارجية. والشيء الذي أصبح أكيدا هو أن تركيز جورج بوش (الأب) على الاتجاهات التقليدية للسياسة الخارجية والمسائل العسكرية والأمنية إلى حد أهمل معه الأساس الاقتصادي الذي تعتمد عليه قوة الولايات المتحدة في الداخل والخارج - خاصة بعد أن تقدم هذا العنصر ليحتل مع العنصر العسكري صدارة تركيبة بنية القوة في التحولات التي ميزت فترة ما بعد الحرب الباردة-، جعل أغلبية الناخبين يصوتون لصالح منافسه بيل كلينتون مرشّح الديمقراطيين في رئاسيات 1992. فقد عرض كلينون على الأمريكيين برنامجا متوازنا جعل فيه الأولوية الأولى لمعالجة المشاكل الداخلية -الاقتصادية أساسا- دون إغفال متطّلبات الدور الأمريكي الأول في السياسة العالمية، والذي سيتم رسمه مع الإدارة الجديدة وفقا لمذهب جديد يتلاءم مع البيئة الجديدة (الداخلية والخارجية)، يخلِف مذهب الاحتواء الذي انَتفت مبررات وجوده بنهاية "الحرب الباردة".
وتعتبر عملية "عاصفة الصحراء" أهم محطة في فترة حكم الجمهوريين تحت رئاسة بوش الأب، والتي شارك فيها 500 ألف عسكري ينتمون الى عدة دول بقيادة الولايات المتحدة. وتمثلت أهداف الحرب الواضحة في منع سيطرة أيا كان على نفط المنطقة، لأن ذلك يمس مباشرة المصالح الأمريكية الحيوية، ما يسمح بتعزيز التواجد الأمريكي في هذه المنطقة الحيوية. وقد شكلت أيضا عملية عاصفة الصحراء لدى الكثيرين الفرصة الثمينة لاستعادة العلاقات المدنية - العسكرية الأمريكية (أي استعادة دور المجمع الصناعي – العسكري) التي تضررت كثيرا بسبب انتهاء حرب الفيتنام، وهو ما عبر عنه الجنرال (كولن باول) وزير الدفاع الأمريكي حينذاك وهو منتشيا بـ "النصر المؤزر" بقوله "الطريقة التي تجاوب بها الأمريكيون بشكل عام مع الأزمة تمكنت من طرد الأرواح الشريرة لفيتنام... وبفضل عاصفة الصحراء وقع الشعب الأمريكي ثانية في حب قواته المسلحة".
ولعل من أبرز الأحداث إبان فترة حكم الرئيس بوش الأب هو انسحاب قوات الاتحاد السوفياتي السابق من أفغانستان في شباط 1989 وانتصار "المقاومة الأفغانية" المدعومة من قبل الولايات المتحدة، سقوط جدار برلين في تشرين الثاني/نوفمبر 1989 وتوحيد ألمانيا في تشرين الأول/أكتوبر 1990، وأخيرا حل الحزب الشيوعي السوفيتي في آب 1991 وتفكك الاتحاد السوفياتي. كل هذه الاحداث والتطورات هي التي دفعت بوش الأب ليتحدث عن "النظام العالمي الجديد" الذي تكون فيه الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة بدون منافس بعد انتهاء "الحرب الباردة".
ومن المفيد الاشارة هنا الى انه وبعد انتهاء حقبة "الحرب الباردة" أخذ منظِّرو الإستفراد الأميركي يصوغون المقدِّمات العملية لفلسفة السيادة المطلقة، انطلاقاً من نواة آيديولوجية ذات محورين:
- الأول، الإعتقاد بأن أميركا مكلَّفة بتنفيذ رسالة سماوية أو مهمة آلهية مقدسة. فهذه "الرسالة" ليس جديدة في الواقع بل تحدث عنها رؤساء الولايات المتحدة الواحد تلو الآخر.
فمثلا الرئيس جورج واشنطن (1789-1797 ): أكد على" ان الله أراد لأمريكا أن تكون الموطن الذي يبلغ فيه الإنسان كمال إنسانيته، وأن تصبح أرضا تيسّر العلوم والفضيلة والحرية والسعادة والمجد...إن قضيتنا قضية البشرية قاطبة ".
في حين رأى الرئيس توماس جيفرسون (1801-1809): "أن الأمة الأمريكية أمة عالمية تسعى لتحقيق مبادئ تصلح للعالم كله".
أما الرئيس ودرو ويلسون (1913-1921): فأشار الى "إن الولايات المتحدة الأمريكية في قبضة آله مسخر لتحقيق إرادته".
من جهته اعتبر الرئيس جون كينيدي (1961-1963):" أن شؤون العالم هي قضايا سياسية واقتصادية داخلية للولايات المتحدة الأمريكية ".
اما الرئيس جورج دبليو بوش (بوش الابن) (2001 – 2009): فكتب وهو يبرر حروبه "أن الحرب الأمريكية هي حرب صليبية وحرب عادلة، تهدف إلى نشر القيم الإنسانية الأمريكية في العالم".
- والثاني، اليقين بأن أداء هذه الرسالة يستلزم استخدام كل الوسائل الممكنة والمتاحة.