المعطيات العلمية المتوفرة اليوم عن حضارات وادي الرافدين القديمة غزيرة وواسعة  وان كانت منقوصة بسبب محدودية اعمال التنقيب نتيجة الحروب المتعاقبة وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي وقلة التخصيصات المالية على الرغم من كثرة المواقع الأثرية التي تعد بالآلاف والتي تم جردها وتحديدها قبل نصف قرن من  قبل العلماء الآثاريين العراقيين، ولكن تركتها الحكومات المتعاقبة قبل وبعد 2003  عرضة للسرقات والنهب (عدا إقليم كردستان الذي نفذ اعمالا مهمة من التنقيب واغنى المتاحف المحلية بلقى واثار جديدة في ما كان يسمى ميزوبوتوميا الشمالية في العصور القديمة) وأيضا لتأثير التغيرات المناخية ودرجات الحرارة المرتفعة.

 وبسبب تنوع وتداخل التخصصات الاكاديمية الحالية حيث شملت المعطيات الحديثة بيانات مصدرها العلوم المرتبطة بدراسة العصور الجيولوجية واللقى التي عثر عليها علماء الحفريات والاثار عند دراسة مخلفات الانسان في الطبقات الأرضية وتقدير عمرها باستخدام تقنيات عده منها نظائر الكاربون 14 المشعة.  وغطت هذه البيانات الفترة الممتدة ما بين العصر الحجري القديم الى ما بعد اكتشاف الكتابة، يضاف لها الدراسات الأنثروبولوجية حول التجمعات البشرية الاجتماعية التي استقرت على ضفاف تهري الفرات ودجلة بعد تشكل دويلات المدن حوالي الالف الثالث ق م مثل أور. ومن اهم الاستنتاجات هي تلك المتعلقة بديناميكية التغير في قوى وأساليب الإنتاج والتحول من مرحلة جمع والتقاط القوت ونبش الجذور والصيد الى اكتشاف الزراعة وتدجين الحيوانات وانتاج الطعام. وشكلت هذه البيانات بما تحويه من حقائق ذات قيمة علمية لبنات ساعدت على بناء فهم موضوعي واكثر دقة لهذه المراحل التاريخية في حضارات وادي الرافدين بعيدا عن قناعات وأوهام وشغف الباحث وقد تكون لها ابعاد سياسية أيضا. فعلى سبيل المثال تم في الغرب التضييق على البحوث التي استخدمت المنهج الماركسي في القرن الماضي لدراسة حضارات الشرق الأدنى القديم يقابلها ترويج للمقاربات الدينية في البحث عن مشتركات بين سرديات العهد القديم والجديد حول وادي الرافدين بشكل خاص. ومن المصادر المهمة هي تلك التي قامت بها مراكز الأبحاث السوفيتية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي والتي تم ترجمة القليل منها الى اللغة العربية وان غلب عليها الجدل بين من هو مؤيد او معارض لمقاربة النمط الاسيوي في الإنتاج. ولعبت السياسة دورا حيث ان سياقات الحرب الباردة نظرت الى المفهوم المادي للتاريخ كجزء من ترسانة الصراع الفكري الذي بمقدوره ان صح استخدامه سلاحا فكريا يدعم نضال الشعوب من اجل الانعتاق من النير الكولونيالي تحقيق التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية.

 فحيث نظرت الفلسفات المثالية الى التاريخ ككمجرد احداث متتالية تسودها الفوضى يسيرها افراد او قادة او غوغاء وجد فيها ماركس الدليل على ان نظم التاريخ تخضع شان العلوم الطبيعية لقوانين موضوعية تتحكم في مسارها وتطورها الارتقائي. وواصل من جاء بعده من المفكرين الجهد من اجل تشخيص وتدقيق  ونمذجة الجوانب النظرية وبما يضمن ان تكون فلسفة التاريخ جزءا عضويا من مفهوم الممارسة “البراكسيس” ويدعم الصراع على الجبهة الفكرية في النضال من اجل مجتمع انساني اكثر عدلا.

ولكن استمرت  الإشكالات المرتبطة بالمقاربة المعتمدة لدراسة التاريخ الإنساني ومنها التحليل المادي الذي ينطلق من ان الفكر الماركسي ليس عقيدة او مذهبا بل نظرية تتطور وتغتني كمنهج لتحليل التاريخ والمجتمع وتوفر للباحث افقا فكريا تفتقر اليه المقاربات المثالية لسببين الأول هو انفتاحها على اخر النتاجات العلمية  حول حضارات وادي الرافدين بشكل نقدي والثاني توفر فرصة للاستفادة من التجربة التاريخية في فهم النضال الثوري المعاصر وتقديم رؤى جديدة في رسم سياقات عملية التغيير نحو عراق ديمقراطي مزدهر تتحقق فيه العدالة الاجتماعية ودور فاعل في دعم السلام على صعيد المنطقة والعالم. 

فالمقاربات التي تعتمد الجغرافيا او النوازع النفسية والشخصية وطموحات القادة او النظر الى التاريخ على أساس دائري تنمو فيه الحضارات ويتصلب عودها ثم تشيخ وتنتهي جميعها ما هي الا قراءات تختزل العمليات التاريخية المعقدة الى توصيف أحادي الجانب. اما المنهج الماركسي فينظر الى تاريخ حضارات وادي الرافدين القديمة في حركة دائمة عبر تطبيق القوانين الديالكتيكية العامة المتحكمة في التطور الارتقائي للحضارات والمجتمعات البشرية وبخصوصياتها الوطنية عبر تشخيص نمط التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية السائد في الزمان المحدد.

وكانت احد الاستنتاجات من طريقة التعامل النقدي مع المقاربة المادية هو الخلط بين القوانين العامة كونها تجريد نظري للحالة المثلى مع تجلياتها المتحققة والواقعية في بلد معين وفترة محددة حيث لا يمكن الاستعاضة بالملموس عن المجرد بل يكمل احدهما الاخر أي ان نقطة الانطلاق هي من الدراسة المتأنية للمرحلة التاريخية مثلا المرحلة (و تسمى في بعض المصادر حضارة العبيد ) التي ظهرت في الفترة ما بين 6500 الى 3700 نسبة الى تل العبيد قرب أور الذي تم تنقيبه منذ عام 1919 و تميزت بظهور المستوطنات القروية والمعابد واستخدام الأواني الخزفية المنزلية ذات الشكال الهندسية الملونة والمناجل المصنوعة من الطين المفخور في الجنوب او الحجارة والمعادن في الشمال. واهمية هذه المرحلة تكمن في طبيعتها الانتقالية بين المجتمعات البدائية الهائمة التي ساد فيها تنظيم المشاعية البدائية وظهور الدويلات المدن التي تميزت بتنظيم طبقي مميز، والتي ستغنى النماذج النظرية حول الانتقال الاقتصادي الاجتماعي من مرحلة الى اخرى. ونجد مثلا هذا الخلل في الدراسات التي قدمها  بعض الماركسيين العرب مثل المفكر المصري الماركسي احمد صادق سعد ( 1919-1988)عن تكوين المجتمع المصري القديم حيث تم اسقاط الجوانب النظرية بشكل قسري لبرهنة موضوعة النمط الاسيوي للإنتاج على الحضارات الفرعونية القديمة.

فعبر توظيف البيانات والمعطيات العلمية المختلفة المتوفرة يتم تحديد شكل البنية الاقتصادية من قوى و أساليب وطابع العلاقات الاجتماعية والعناصر المختلفة للبنية الفوقية ومنها طبيعة الحكم القوانين والضوابط القانونية واشكال التعبير  الروحي والديني من طقوس واساطير وعبادات وعلى أساسها رسم كيفية تمظهرها في العملية الارتقائية للمجتمعات.

فالقوانين العامة حول وسائل وعلاقات الإنتاج هو تجريد للعملية التاريخية لكشف أسس العملية التاريخية بجوانبها العامة كما تتمظهر وتتجسد مثلا في حضارات وادي الرافدين في مرحلة ما قبل التاريخ وبعد اكتشاف الكتابة او في العصور المتعاقبة والاستفادة من المعطيات عن دراسة  حياة الانسان في بلاد وادي الرافدين منذ ان سكن انسان النياندرتال شمال وادي الرافدين ولاحقا مع  انتشار  الانسان الحديث في عموم وادي الرافدين.

ومن الجدير بالذكر أيضا ان الظواهر المناخية للحقب الجيولوجية في وادي الرافدين ما قبل التاريخ  اختلقت عن تلك التي سادت  في أوروبا. فمثلا خلال العصر البليستوسيني الذي بدا قبل 2588 مليون سن  ولغاية 12000 حيث بدأت اخر حقبة تسمى بالهولوسين تميزت ببزوغ  الحضارات والهيمنة المطلقة للإنسان في صراعه الابدي مع الطبيعة غطت الصفائح الجليدية والأنهار  مساحات شاسعة في الأرض والمناخ الجاف البارد وانخفاض مستويات البحر   وهو أيضا العصر الذي وجدت فيه بقايا اسلاف البشر في مراحل تطوره المختلفة  في كافة ارجاء العالم و متغيرات جذرية في التنوع الاحيائي نتيجة انقراض اجناس حيوانية ونباتية وسيادة أنواع أخر عزيت الى التغير المناخي والصيد الجائر وانتشار الأوبئة اونتيجة انفجار ضخم، بينما اختلف الامر في افريقيا ومنطقة الشرق الأدنى القديم الذي تمير بالجفاف والرطوبة.

وطبقا للأدلة من بقايا  ظهر اقدم جنس بشري “هومو هابيليس” الذي سبقه اشباه البشر او الانسان الماهر قبل 2.3 مليون سنة الذي كان قادرا على استخدام أدوات حجرية بسيطة يتم تشذيبها لجعلها اكثر حدة  كأدوات قطع او البحث عن الجذور. وكانت هناك دلالات على ظهور مهارات في التفكير وإيجاد حلول ولكن مازالوا اقرب الى القردة ( كانت الحفرية العظمية “لوسي” التي عثر عليها في اثيوبيا وتنتسب لأسلاف البشر قبل 3.18 مليون عام قوية البنية و ماهرة في تسلق الاشجار وتمشي منتصبة القامة وتوفت نتيجة سقوطها من علو 12 متر )  بينما جاء لاحقا  الانسان العاقل الذي عاش نمطا حياتيا مختلفا حيث يهيم في النهار وينام على الأشجار وقوته كان نبش الجذور او التقاط الثمار من الأرض وصيد الحيوانات او العيش في الكهوف التي ترك فيها  صورا منحوتة حظيت باهتمام فني وانثروبولوجي.

وكان لعلماء الاثار تقسيمهم الخاص لتلك الحقب التاريخية حيث يفصل اكتشاف الكتابة في 2900 ق م في حضارة سومر  بين عصور ما قبل التاريخ التي تميزت باستخدام الحجارة والعصر الحديدي حيث تم اكتشاف واستخدام  الحديد، وتفصل بينهما مرحلة انتقالية سميت بالعصر البرونزي حيث ساد فيها استخدام النخاس كمعدن أساسي كما نشاهده في حضارة وادي الرافدين لصناعة الفؤوس والمجوهرات والأسلحة. وتميز العصر الحجري القديم (الباليوثي) الذي شهد متغيرات مناخية وجغرافية كان لها تأثير مباشر على حياة التجمعات البشرية في وادي الرافدين والتي نزحت من الجزء الشرقي من القارة الافريقية حسب ما توصلت اليه دراسات الجينوم البشري  المحاكاة الحاسوبية وحيث تميز الانسان بمبادراته وقدراته على البقاء والذكاء على الرغم من التحديات والمخاطر الجمة. وحسب المعطيات الحالية فان اول من سكن منطقة شمال وادي الرافدين (كردستان العراق حاليا) هو انسان النياندرتال الذي عثر على بقاياه في كهف شانيدار والتي يعود تاريخها 65000-35000 ق م  والذي تواجد في اسيا وافريقيا حتى انقراضه وتميز بمهاراته في الصيد وحياة روحية تجلت في استخدام الرموز وطقوس دفن الموتى بالزهور وبعده استوطنت الهجرات البشرية من الهومو سابين بلاد وادي الرافدين الجنوبية  قادمة من شرق افريقيا.

عرض مقالات: