لم ينفك الناشطون في ألمانيا يحذرون من عواقب قمع حكومة بلادهم للأصوات المناهضة للاحتلال الإسرائيلي؛ ومن ذلك إمكانية استغلال الأحزاب السياسية المتطرفة للإجراءات والقوانين التعسفية لخلق حالة عنصرية ومناهضة للديمقراطية في حال وصولها إلى الحكم.

ويبدو أنّ ذلك بدأ بالفعل، حتى قبل أن تتمكن تلك الأحزاب من الحصول على أغلبية في البرلمان الألماني؛ فها هو “حزب البديل من أجل ألمانيا” اليميني المتطرف يقدم طلباً للبرلمان لتجريم دراسات وأبحاث ما بعد الاستعمار، ووقف الدعم الذي تخصصه وزارة الثقافة من موازنتها السنوية لكل الأنشطة البحثية والفنية والثقافية التي تناقش موضوعات تتعلق بتاريخ الاستعمار، أو تضيء على البون الشاسع في الفرص بين جنوب العالم وشماله. حجة الحزب في ذلك هي أن الحركات المناهضة للاستعمار، والتي تنشغل بتفكيك البنى التي خلّفها في بلدان الجنوب العالمي، تناهض بشكل مبدئي “إسرائيل” التي تعرّفها نظريات تلك الحركات بكونها مستعمرة إحلالية نشأت في منتصف القرن الماضي.

وتحت عنوان “محاربة معاداة السامية من الجذور: وقف الدعم عن ‘برنامج الجنوب العالمي’ واستخدام الميزانية لمحاربة الأيديولوجية بعد الكولونيالية”، أشار طلب الحزب، الذي تأسس عام 2013، إلى بند في موازنة وزارة الثقافة بعنوان “الجنوب العالمي: التعامل مع الاستعمار”، تخصَّص أمواله سنوياً لدعم مشروعات تبحث في التاريخ الاستعماري لألمانيا، وأخرى تخدم التبادل الثقافي بينها وبين فاعلين من بلدان الجنوب العالمي. وتضم تلك المشاريع تجميع وتطوير أرشيفات تاريخية تتضمّن وثائق مصوّرة أو مكتوبة، وتطوير عروض آنية أو دائمة في متاحف مختلفة داخل ألمانيا أو مستعمراتها القديمة، إلى جانب تنظيم مهرجانات مسرحية وسينمائية تعرض أعمالاً ذات طابع أنثروبولوجي أو استقصائي، بالإضافة إلى تنظيم لقاءات فنّية وورشات عمل بشكل دوري.

والهدف من هذه البرامج، كما تصفها وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك، من “حزب الخضر” - المسؤول غالباً عن طرح وتطوير هذه المبادرات - هو “التعامل المنفتح مع التاريخ الألماني القائم على النقد الذاتي”. هذه السياسة الثقافية تعتبرها الوزيرة جزءاً من سياسة ألمانيا الأمنية، لأنها “شرط أساسي لعقد شراكات أمنية مع دول الجنوب العالمي”، وترى فيها نقيضاً لما سمّته “السياسة الشوفينية القائمة على الفوقية والمعصومية المفترضة”، كما جاء في كلمة لها الشهر الماضي خلال حفل تقديم موسوعة بحثية بعنوان “وزارة الخارجية والمستعمرات: تاريخ، تذكّر، ميراث”.

ولكن، مع تخبط “الخضْر” وشركائه في الحكومة الألمانية الحالية في التعامل مع التطورات الأخيرة على الساحة الفلسطينية، يبدو أن المجال قد فتح أمام أحزاب رجعية ومتطرفة مثل “البديل من أجل ألمانيا” لوضع عراقيل أمام تلك المشاريع الثقافية التي تحتوي نقداً ذاتياً. يحدث ذلك وسط ارتداد شامل في المشهد الألماني برمته؛ فهذه وزيرة الثقافة كلاوديا روت، التي لطالما ربطت توجهات ألمانيا في التعامل مع ماضيها الاستعماري بمحاربة العنصرية، إضافةً إلى الاستدامة البيئية، تضع نفسها في موقف شديد الغرابة حين بررت تصفيقها في ختام “مهرجان برلين السينمائي” قبل أشهر، لمخرجَي فيلم “لا أرض أخرى” الذي يتناول معاناة الفلسطينيّين في الضفة الغربية، بأنها صفقت للمخرج الإسرائيلي اليهودي دوناً عن المخرج الفلسطيني!

هنا يحاول المتطرفون تفكيك برامج بحث ثقافات “الجنوب العالمي” ومنع المنح عن الأكاديميين والفنانين الذين تركز أعمالهم على تاريخ ألمانيا الاستعماري والبنى المؤسسية التي أبقتها ألمانيا، وغيرها من البلدان الاستعمارية، داخل مجتمعات وأنظمة بلدان الجنوب. فـ”حزب البديل” يرى أنّ “الجنوب العالمي” و”الشمال العالمي” مصطلحَان إشكاليان، وقد سبق أن طالب في بيان، في تشرين الثاني الماضي، بنبذ هذين المصطلحين واستخدام “دول نامية” و”دول صناعية” بدلاً عنهما، وذلك لأن مصطلح “الجنوب العالمي” يحيل، وفقه، إلى “مظلومية مبتدعة لدول معينة في أفريقيا تعتقد أن على ألمانيا رد الجميل إليها”، ودعا إلى “تحرير التعاون الألماني مع هذه الدول من سياسة المذنب والضحية”.

أما طلب الحزب تجريم دراسات وأبحاث ما بعد الاستعمار، والذي عبر عنه في بيان نشره في مطلع الشهر الجاري، فيفصّل أكثر في ضرورة نبذ كل ما يتعلق بما تفرزه دراسات ما بعد الاستعمار، وتوجيه الأموال المخصصة لـ”برنامج الجنوب العالمي” إلى برنامج جديد يقترحه باسم “تفكيك الأيديولوجيا البوست - كولونيالية”. ويتذرع الحزب، في إصداره هذا الطلب، بـ”صمت بعض الفاعلين في المشهد الثقافي المحلي إزاء ضحايا إرهاب حماس”؛ وهو “صمت” يفسّره بـ”سيطرة السردية البوست - كولونيالية في النظر إلى إسرائيل عند أطراف عديدة في المشهد الثقافي في ألمانيا”.

يَعتبر “البديل من أجل ألمانيا” ذلك أمراً غير مقبول. وهكذا لم يكتف بالدعوة إلى منع اعتبار دولة الاحتلال الإسرائيلي مشروعاً استعمارياً، بل ذهب إلى أبعد من ذلك بمطالبته بتجريم دراسات ما بعد الاستعمار بشكل عام، لأنها – مثلما يقتبس من باحثة ألمانيا تدعى إزولدي فوجل - “تقسم العالم إلى خير وشر، بحيث يكون الشر هو القوى الإمبريالية والرأسمالية، وتصبح الدول ذات التاريخ الاستعماري والتي خلفت بُنى استعمارية تعمل لصالحها وتنقل مقدرات مستعمراتها السابقة إليها شراً مطلقاً”.

ويزعم الحزب أن هذه التوصيفات يمكن أن تستعمل من قبل جماعات إسلامية للقيام بعمليات إرهابية داخل هذه الدول أو ضد مصالحها في العالم، وهذه ذريعة أخرى في مطالبته البرلمان الألماني بالقطع مع كل ما يتعلق بدراسات ما بعد الاستعمار، وألا تكون أداة استرشادية عند اتخاذ قرارات التمويل في السياسة الثقافية للبرلمان.

وبينما يرى كثير من الأكاديميين والباحثين أن ألمانيا لا تفعل ما فيه الكفاية للتعامُل مع تاريخها الاستعماري والإبادة الجماعية التي ارتكبتها في ناميبيا في بداية القرن العشرين، يحاول “حزب البديل من أجل ألمانيا” الدفع في الاتجاه المعاكس تماماً، من خلال دعوته إلى تجريم البحث في التاريخ الاستعماري لألمانيا، والذي يرى فيه نظريات عدائية تشيطن الدولة وتجعلها عرضة للإرهاب، لا واجباً حضارياً يمنعها من تكرار خطاياها السابقة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

“العربي الجديد” – 13 تموز 2024

عرض مقالات: