دي هنتر كاتب ومقدم برامج، منذ عقدين ينشط في التنظيمات المناهضة للرأسمالية. عاش سابقا متشردا وخارج على القانون. وبعد سنوات عديدة يعيش حاليا في مانشستر ويقوم بكتابة أطروحة دكتوراه حول تأثير البيض والذكورية على مقاومة الطبقة العاملة.
ينتمي هنتر الى „الأيرلنديون الرحل”، وهي مجموعة ثقافية عرقية. في السابق، كان “الرحل” يعيشون في مشاعات، ملكيتها مشتركة ويديرها مجتمع القرية، كما كانت تعيش المشاعات سابقا. وتعد ثقافتهم، وهي الثقافة التي ينتمي اليها هنتر، استمرارا لهذا النمط في نواحٍ عديدة. الدولة البرجوازية تجعل بفعل قوانينها، نمط الحياة هذا أكثر صعوبة، وتقيده بشكل متزايد بطريقة رأسمالية. نشرت جريدة “نويز دويجلاند” الالمانية اليسارية في 11 آب 2023، حوارا مع “دي هنتر” تحدث فيه عن دور تجارب التهميش والقمع في العمل السياسي. وما الذي يعنيه مفهوم “اشباه البروليتاريا” وعلاقته بالحراك الاجتماعي والماركسيين المزعجين. فيما يلي عرض لاهم الموضوعات الفكرية التي تضمنها الحوار.
الموقع الطبقي
غالبا ما يرتبط الرحل بـ “البروليتاريا الرثة”. ومع وجود استثناءات عرفوا طريقهم إلى الطبقة العاملة المحترمة. بل إن بعضهم دخل مجالات إنتاج المعرفة، سواء في الأوساط الأكاديمية أو غيرها. الاغلبية الساحقة من الرحل تنتمي الى الفئات الدنيا من الطبقة العاملة ويتم استبعادهم أكثر بسبب العنصرية. هناك تناول خاطئ لمفهوم ماركس عن البروليتاريا الرثة، مفاده ان المجموعات السكانية التي تضمن بقاءها على الحياة كفئات دنيا من الطبقة العاملة، تعد قوى غير محسوبة في الصراع الطبقي ومخربة له. وجهة النظر الاجتماعية هذه، تمثل إشكالية شوفينية إزاء الفقر الذي تنتجه الرأسمالية، لهذا يعتبر هنتر الماركسيين الأرثوذكس مزعجين، لرفضهم الاعتراف بالطبيعة الإشكالية لمفهوم “البروليتاريا الرثة”، التي لا يرون فيها أي إمكانية ثورية في الصراع الاجتماعي. ويرى أن هذا الموقف الإشكالي متجذر في هشاشة موقف سياسي قائم على التشبث بتفسير مبتذل ومبسط لعمل ماركس.
مفاهيم
في منهجية كتابه الاخير يستخدم هنتر الى جانب المفاهيم الماركسية مفاهيم أخرى: auto-ethnography (الإثنوغرافيا الذاتية، منهج وصفي لبحث التجربة الذاتية)، Queer narrative (السرد الكويري- الغريب غير المألوف)، Critical Whiteness (البياض الناقد، مفهوم مناهض للعنصرية)، abolitionism (الاستبعاد، حركة مناهضة للعبودية).
يرى هنتر أن فكرة استخلاص استنتاجات سياسية مبنية على النظرية فقط ليست فكرة غبية تماما، ولكنها متهورة، وغير مدروسة إلى حد ما، وربما غير مناسبة. ومن المهم الجمع بين النظرية والممارسة، والجمع بين الأمرين في مناقشات مشتركة أكثر أهمية. لقد غير هنتر تفسير تجاربه وفقا للسياقات الحياتية والسياسية المختلفة التي مر بها، وبمرور الوقت طور فهما أكثر دقة لها.
ان الممارسة السياسية هنا تعني العمل داخل البرلمان وخارجه، من ناحية، ويمكن للتجربة المعاشة، أن تكون رؤية مهمة، وتحديا قيما للطريقة التقليدية في ممارسة السياسة، سواء في الحركات الاجتماعية أو في المجتمع السائد. ومن ناحية أخرى، يمكن أيضا احتواء التجربة المعاشة وتصبح ذريعة. وربما يكون من المفيد أكثر أن يقوم أصحاب تجارب حياتية مهمشة بتفكيكها والتفاعل معها بشكل نقدي وتطوير إطار سياسي على أساسها.
إشكالية التضامن
يواجه مجتمع المهمشين مثل “الأيرلنديون الرحل” صعوبة في بناء شبكات التضامن، مقارنة بالتضامن بين الفئات الوسطى. والمقصود هنا الفجوة بين الفئات الوسطى اليسارية البيضاء و”الجماعات الرثة”. وهنتر يكتب عن هذه الفجوة، في محاولة لممارسة التضامن التفاعلي، وبناء علاقات الرعاية، وتطوير ممارسات المساعدة المتبادلة، واستيعاب أن الأمر يستغرق وقتا، وأنك سوف تفشل مرات عديدة، وعليك المحاولة مجددا. وهذه الرؤية مفقودة إلى حد كبير عند اليسار في المملكة المتحدة. في كثير من الأحيان تجري المحاولات، وتنتهي بالفشل، وتختفي مرة أخرى وربما لعدم وجود تفاهم. تقرر الجماعات اليسارية بعدها، أنه ليس من الملائم سياسيا وليس هناك ضرورة ملحة، التعامل مع أناس من فئات أخرى.
ان الوضع العالمي الراهن مريع حقًا ولا تحسن يلوح في الأفق، ولهذا فمن المنطقي أن تركز الجهود بشكل أكبر على بناء الألفة والرعاية والتضامن وعلى الأمل في سد الفجوات الطبقية، بما في ذلك الفجوات الثقافية، بطريقة لا تعزز منطق العقاب المتأصل في الرأسمالية، والذي يحدد الطريقة التي نعيش بها، وبالتالي يصعب تجنبه.
كيف يصبح اليسار فاعلا؟
من المؤكد أن الهدف هو جعل وسائل الإنتاج ملكية مجتمعية. ولكن في الطريق إلى هناك، لا بد أولا، من اتخاذ خطوات أخرى. ربما تكون النقابات في بريطانيا الآن أقوى مما كانت عليه قبل عشرين عاما، ولكنها لا تزال على بعد أميال مما كانت عليه قبل أن تقوم تاتشر وشركاؤها بتفكيكها. ويتعين على اليسار أن يبني قاعدة، ليس فقط في قطاع واحد، بل في قطاعات متعددة، وهذا يشمل الذين يعيشون على هامش رأس المال والصناعة. وهذا هو المقصود بممارسات التضامن والرعاية: بناء العلاقات والشبكات، بطريقة لا تتجاهل الفعل السياسي للأكثر تهميشا. وبمجرد أن يصبح هذا الأمر أكثر تقدما، فإن المنظمات التي ترغب في إلغاء الرأسمالية ستكون قدراتها أكبر للقيام بذلك. لكنها إذا لم تقم ببناء أساس وتطور قدراتها الذاتية، فأنها تحاول القيام بشيء غير مستعدة له إطلاقا.
خلال ذروة الليبرالية الجديدة من السبعينيات وحتى التسعينيات، جرى تمزيق النقابات العمالية في بريطانيا، وكان هذا حال عموم الطبقة العاملة. ومنذ ذلك الحين، لم يتم التفكير في كيفية إعادة البناء. وبدلا من ذلك، افترض اليسار الاستمرار على نفس المنوال، وكأن السياق ظل على حاله وأن الأساليب ليست بحاجة إلى تغيير. ناهيك عن كيفية النظر الى الانتصارات السابقة، التي قيمت على انها مرضية. لقد أصبح قوام اليسار أقل، وأصبح الانقسام أكثر قسوة. وعندما يخسر اليسار، يقول “لقد خسرنا مرة أخرى”، ويشكو الجميع من عدم حضور الآخرين وعدم وجود ما يكفي من اليساريين. وكأن الامر لم يكن واضحا تماما! ان هناك تصورا لدى عدد من المنظمات اليسارية مفاده أن “الطبقة العاملة” يجب أن تكون حاضرة لأن اليسار يأمرها بذلك، وإذا لم تفعل، فهي تفتقر إلى الوعي الطبقي وليس بسبب ضعف اليسار.
تحولات
لقد حدثت تغيرات في التركيبة الطبقية، نتيجة تغيرات في بنية السلطة الرأسمالية، وطنيا وأمميا. قبل 150 عاما، كانت الطبقة العاملة الصناعية، في المملكة المتحدة، كتلة ضخمة متراصة، ولكن كان هناك قسم صغير من السكان يجري استبعاده، لأسباب مختلفة، من العاملين بأجر. ثم تطور نوع من طبقة متوسطة، سواء أردنا أن نسميها طبقة متوسطة أم لا. ومع مرور الوقت، نمت الفئات الوسطى بشكل أكبر. وانفصل البعض من الطبقة العاملة وأصبحوا جزءا من البرجوازية الصغيرة. تم عزل البعض من الفئات الدنيا من الطبقة العاملة وأجبروا على الانضمام إلى “أوساط السكان الرثة”. وفي الثمانينيات والسنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين، نمت الفئات الوسطى بشكل أكبر، لكنها تقلصت في السنوات العشر أو العشرين الأخيرة. وبعضها الآن جزء من الطبقة العاملة، والعديد منهم انضموا إلى البرجوازية الصغيرة، سواء كان ذلك في الشكل التقليدي للشركات الصغيرة أو في الشكل الجديد للصناعات الإبداعية وإنتاج المعرفة. ربما تكون هذه هي الطبقات الأكبر في الوقت الحالي. ان بريطانيا تكافح اقتصاديا، والفئة الوسطى تتفتت، ولا تستطيع الحفاظ على أعدادها الحالية، لذلك يتم طرد الناس ووضعهم حرج وغير مستقر. لقد ذهبت كل الوعود المتعلقة بالملكية والوظائف الرائعة بالنسبة لأغلبية العاملين بأجر. وهذا يخلق ضغطا من الأسفل ويدفع المزيد والمزيد من أوساط الطبقة العاملة إلى “الوضع الرث”. ان الذين يعملون بعقود مؤقتة في قطاع الأجور المنخفضة يضطرون إلى المغادرة. ثم هناك الذين يتعرضون للاضطهاد، لأنهم مهاجرون او معوقون.
من الخطأ النظر إلى الطبقة على أنها أبدية. والسبب وراء قبول أسطورة الأفضلية هو بعض الحراك الطبقي، حيث يصعد بعض الأفراد إلى أعلى ويهبط آخرون إلى أسفل، والتركيبة الطبقية تتغير تبعاً لذلك. وهذا يجعل الأمور مربكة للغاية. هناك من يعمل في سياق الفئة الوسطى، ويمارس زملاؤه أدوار البرجوازية الصغيرة الجديدة، ويأتي معظمهم من الفئة الوسطى. فهل هم في نفس القارب؟ هل مصالحهم واحدة؟ هل هناك ما يكفي من القواسم المشتركة لتنظيمهم، وماذا يحدث عندما يقومون بضم الذين تربطهم بهم صلة قرابة طبقية؟ كيف تبدو هذه المنظمة؟ يتحدث الماركسيون الدوغمائيون عن “طبقة عاملة عظيمة”، وهذا أمر رائع ولكنه عديم الفائدة عندما يتعلق الأمر بالتنظيم الأساسي لخوض المواجهات المباشرة .
ان هناك قواسم مشتركة لا ينبغي التركيز عليها فورا، ولا ينبغي تجاهل الاختلافات القائمة، بل يجب التعامل معها. ان مشكلة التمييز على أساس الجنس والعنصرية في النقابات في المملكة المتحدة قائمة: لقد كان هناك دائما تقليل من شأن هذه القضايا، وكان دائما يقال “دعونا نجد أرضية مشتركة للجميع”، ولكن في كل مرة لا يتم اهمال بعض التجارب المحددة فقط، بل أيضا الظروف التي أنتجت هذه الحقائق العنصرية أو الجندرية.
لذا يتعين التعامل مع الاختلافات والتوترات قبل التمكن من بناء قوة يمكن من خلالها إيجاد أرضية مشتركة.
سياسة الهوية، التي من المعروف انها غير متجانسة والسياسة الطبقية لا يعملان بشكل منفرد.
ويجب الجمع بينهما في إطار عملية تكاملية، تجعل الحركة (اليسار) اقوى، عندما يتم التعامل مع كلا المفهومين في نفس الوقت، وفهمهما كأشياء متشابكة وليس كخطابات متنافسة. ولكن الأقلية داخل اليسار تتبنى هذه الرؤية.