لابد للمهتم بالفكر اليساري ان يلاحظ ان مفهوم الاشتراكية والصراع الطبقي قد ضلا الطريق خلال ما يقارب نصف قرن، حيث يقتصر تداوله على قلة من الأوساط الثقافية في البلدان العربية ومنها العراق، بينما ينغمر العدد الأكبر في جدليات إشاعة التنوير في مواجهة تنمر الأحزاب الإسلامية (وهو توصيف وليس نقدا) وتقديم قراءات حول المقدس والمدنس وبلورة مشروع ثقافي علماني بديل.
مقابل ذلك شهد الصعيد الشعبي هبات من الحركات الاجتماعية ولكن لم تحقق اهدافها المرتبطة بالصراع حول الهوية الوطنية وضد تسييس المكونات الطائفية والقومية والمطالبة بالحقوق والخدمات ومواجهة الإشكالات التي جلبها المشروع الغربي النيو ليبرالي الحديث الذي يعتمد الهيمنة الاقتصادية والثقافية عبر منظومة هجينة من الجهد العسكري والإعلامي والعقوبات الاقتصادية والحرب النفسية والتي تصل في حالات معينة الى الاحتلال كما حدث في العراق عام 2003.
ولابد من التأكيد أيضا على أن فشل تجربة الاشتراكية القائمة وانهيار الاتحاد السوفيتي في نهاية ثمانينيات القرن الماضي قد اسهم كثيرا في تراجع شعبية وفهم الاشتراكية كقيم إنسانية وأخلاقية وفلسفية. وحاليا اقتصر في اغلب الأحيان على فهم مبتسر من انها تعني تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي والممارسات المعرقلة للتنمية الاقتصادية ونمو الطبقات الوسطى ولدور القطاع الخاص بشكل خاص على خلفية الإجراءات الفاشلة التي قامت بها عدد من الأنظمة العربية في مصر وسوريا وليبيا والعراق في ستينيات القرن الماضي، وفي ظل هيمنة سياسية قادتها أنظمة البرجوازية الصغيرة العسكرية التي الحقت ضررا بنمو اقتصاديات هذه البلدان وسياسيا بسبب غياب الديمقراطية وسيادة التسلط والقمع ضد أوسع الجماهير الكادحة ذات المصلحة في التطور صوب مجتمع اكثر إنسانية وعدالة.
وما يزيد الامر تعقيدا على الصعيد الفكري هو الخلط بين مفهومي الاشتراكية والشيوعية المختلفين كليا في توصيف مستقبل العملية التاريخية الارتقائية للمجتمعات على انقاض النظام الرأسمالي وصولا الى نظام يحقق المساواة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، بل واختلاف الاثنين عن مفهوم “الاشتراكية العلمية” الذي تبلور مع تطور عملية البناء الاقتصادي والثقافي والروحي في فترة وجود الاتحاد السوفيتي ( 1917-1990) كتعبير ملموس عن سلطة الطبقة العاملة وقوانين استبدال العلاقات الرأسمالية بالبديل الاشتراكي والتي اثبتت تجربة الحياة فشلها في تحقيق البناء الاشتراكي المنشود.
ومن الجدير بالذكر ان التطلع نحو الحرية والمساواة والعدالة ومستقبل انساني في خدمة البشرية كبديل عن الفوضى والاغتراب التي ترافق النظام الرأسمالي قد سبق ظهور الماركسية بقرون ورافقها نضال سياسي وثقافي لتغيير المجتمع ثوريا باتجاه الاشتراكية وشكلت أحد روافدها الفكرية عبر التعامل النقدي مع تراث الاشتراكيين الطوباويين.
وفي كتابه “الاشتراكية” الذي نشر عام 1987 يشير برنارد كريك (1929-2008)، وهو أكاديمي بريطاني وأحد منظري حزب العمال البريطاني، الى ان مسألة كيف ومتى ظهر مفهوم الاشتراكية غير واضحة، ولكنه سبق الفكر الماركسي مشيرا الى ان النضال من اجل الحرية والمساواة الذي كان هدف ثورات العبيد الذي شهدته الحضارة اليونانية القائمة ( 1200-223 ق م ) والرومانية ( 510 ق م – 476 م ) اللتان اعتمدتا النظام العبودي كشكل لعلاقات الإنتاج هو احد تجليات النزوع المبكر نحو العدالة الاشتراكية وضد الاغتراب الإنساني الذي يريد إقامة جنته في الأرض وليس السماء.
وتجلى أيضا في الثورة الفرنسية ( 1789) ووصل ذروته قبل ماركس مع اطروحات ومشاريع سان سيمون ( 1760- 1820) و تشارل فورييه ( 1772-1837) والبريطاني روبرت أوين ( 1771-1858) حول شرور الملكية الخاصة وبناء مجتمع مثالي جديد والذين صنفوا كونهم ممثلي الاشتراكيين الخياليين.
هذه الرغبة الواعية لتحقيق مجتمع المساواة والعدالة شهدتها أيضا المجتمعات الشرقية الإسلامية التي اعتمدت العلاقات الإنتاجية ذات النمط الاقطاعي تجلت في حياة صحابة وشخصيات إسلامية عرفت بالورع و الزهد مثل أبو ذر بن جنادة الغفاري (توفي في 38 هجري) أو حركات سياسية اجتماعية مثل ثورة القرامطة
( 908 م ) والزنج في العراق (896-883 م ) ضد تسلط العهد العباسي الثاني.
ولكن على يد ماركس وانجلز ارتقى مفهوم الاشتراكية الى مستوى جديد كليا حيث تحول من تعبير ذاتي وأخلاقي لرفض شرور الرأسمالية كما جاء في مخطوطات 1844الى منظومة فكرية وسياسية ذات رؤية وغايات و اهداف ملموسة رسم حدودها بوضوح (البيان الشيوعي) - 1848.
فالاشتراكية كتشكيلة اقتصادية – اجتماعية تنشأ على انقاض النظام الرأسمالي عندما تنضج المقدمات المادية وتصل وسائل الإنتاج من مصانع وتقنيات لإنتاج السلع المادية الى مستوى عال يجعلها في تناقض مع علاقات الإنتاج وطابع الملكية. وتتطور معها الفئات الاجتماعية ذات المصلحة في الثورة الاشتراكية بحيث لا يمكن حل الوضع الا بإقامة نظام اقتصادي – اجتماعي اكثر رقيا.
وتستند الاشتراكية على ملكية عامة جماعية او مشتركة لوسائل الإنتاج وبهدف تحقيق مجتمع الرفاه الحقيقي الذي يضمن سد احتياجات الإنسانية المادية والروحية والتوزيع العادل للسلع والخدمات وبناء فوقي من بنية الدولة التي تقودها الطبقات الاجتماعية التي كانت ضحية الاستغلال الرأسمالي، وتضمن الديمقراطية والسلام والحرية ومنظومات فكرية وفلسفية وقانونية وروحية تنسجم معها. وفي الوقت الذي اعطى ماركس اهتماما خاصا بالتحليل الاقتصادي والاجتماعي المعمق للنظام الرأسمالي اقتصر تناول الاشتراكية كمفهوم فلسفي وأخلاقي وحتميتها بسبب تطور القوى المنتجة والتي ستجعل من الثورة الاشتراكية ممكنة عبر إضفاء الطابع الاجتماعي على رأس المال وإن كان تصوره انها ستبدأ في ألمانيا. بينما واجهت لينين ( 1870-1924) بعد انتصار ثورة أكتوبر ( 1917) وإزاحة أحزاب الكاديت المحافظة من السلطة في المرحلة الانتقالية التي أعقبت استقالة القيصر الروسي مهمة حمايتها من التدخل الامبريالي الشرس الذي شاركت فيه 14 دولة و شعلت حربا أهلية دموية ( 1917-1923 ) ذهب ضحيتها الملايين من المواطنين الروس مهمة إقامة نظام اقتصادي اجتماعي نقيض للنظام الرأسمالي في روسيا التي كانت تسودها العلاقات الاقطاعية وتطور صناعي رأسمالي محدود. وقد وصف لينين الوضع بالبربرية والتخلف وعدم نضوج قوى الإنتاج الذي يدعم التحول الاشتراكي. وقد اكد على ضرورة وجود برنامج واقعي لبناء المقدمات الاقتصادية والاجتماعية والوصول الى تراكم اولي للثروة على صعيد المدينة والريف خاصة و ان قضية القيادة السياسية قد حسمت في ثورة أكتوبر (1917).
وبكل تأكيد تشكل محاولة تقييم هذه التجربة التاريخية عملية نضالية فكرية مستمرة للاستفادة من دروسها الهامة ففي الفشل نجد معظم الأجوبة و ليس من النجاحات فقط، خاصة اذا كان السؤال صحيحا والمقاربات موضوعية ومن ضمنها دراسة تجربة التحولات التي يقودها الحزب الشيوعي الصيني الذي جعل من الصين ثاني اكبر قوة اقتصادية في العالم وحليفا للجهود من اجل إقامة عالم متعدد الأقطاب.
التحدي الكبير اليوم يرتبط بتأثير التطور المتسارع للثورة العلمية والتكنولوجية سواء في منظومة الاتصالات او الثورة الرقمية او الذكاء الاصطناعي ودور الروبوتات القادرة على أداء العديد من الاعمال الي يقوم بها البشر على عملية الإنتاج والتبادل وخلق علاقات انتاج جديدة والذي هو بحاجة الى تحليل وتصورات نظرية تنسجم مع واقع القرن الحادي والعشرين.