قدمت حديقة حيوان “برونكس” في نيويورك اعتذارا رسميا، بعد مرور ما يزيد عن مئة عام على عرض إنسان، من ذوي البشرة السوداء، في قفص مع القرود، وهو طفل يسمى “أوتا بنغا”، تم اختطافه ممّا يعرف اليوم بجمهورية الكونغو الديمقراطية، واستخدم أداة للتسلية في الولايات المتحدة.(1)

 توالى أيضا عدد من الاعتذارات، من قِبل ملوك ورؤساء، سارعوا إلى غسل أيديهم من الأفعال المشينة، التي خلّفتها حقبة استعمارية سابقة، مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي تحدث عن ذاكرة الاستعمار في الجزائر، داعيا لتحقيق مصالحة تاريخية (2)؛ وملك هولندا فيليم ألكسندر، الذي طالب بالصفح عن التورّط التاريخي لبلاده في العبودية والاتجار بالبشر (3)؛ وزيارة ملك بلجيكا فيليب إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية، بعد عامين من تعبيره عن أسفه العميق، على الآلام التي سببها الحكم الاستعماري هناك؛ بجانب اعتراف ألمانيا رسميا بمسئوليتها عن الإبادة الجماعية في ناميبيا.(4)

ربما تفقد هذه الاعتذارات مصداقيتها، بالنظر إلى ما يحدث في عالمنا المعاصر، فإذا كان المقصود بالاعتذار هو الطموحات الاستعمارية في السيطرة على الموارد والثروات الطبيعية والبشرية واستغلالها، فيبدو أنه قد بدر عن الطريقة التي تمت بها هذه السيطرة فقط، لا عن السيطرة نفسها، في ظل استمرار سياسات الاستغلال والافقار؛ ومن جهة أخرى فإن تلك الاعتذارات، والمحتفين بها، أو حتى نقّادها المتشككين، لا تقول شيئا عن آليات ما يسمى “نزع الاستعمار”، التي اتبعتها الدول والحركات القومية الناشئة في العالم الثالث، بجيوشها وميليشياتها، وما ارتكبته من مجازر وجرائم، لا تقل عن جرائم الاستعمار في كثير من الأحيان، وغالبا بدعم واحدة أو أكثر من الدول، التي تعتذر اليوم عن ماضيها، فما بالك بالارتباط بدول لم تفكر يوما بالاعتذار، كما في حالة حلفاء السياسات الروسية.

كل هذا الخليط، من ممارسات “ماضٍ استعماري” و”نزعه”، لا يبدو إلا إعادة تهيئة الظروف لأشكال مما قد يسميه البعض “استعمارا جديدا”، من خلال شركات ومؤسسات متعددة الجنسيات، وما يختلط بها من تنظيمات “عالم سفلي”، مثل ميليشيات وعصابات وجماعات ضغط مرتبطة بدول “مارقة”.

في السياق نفسه، نجد مقطع فيديو (5) تم تداوله في نيسان2021، يظهر شابة فلسطينية، تسكن في حي الشيخ جراح بالقدس، وهي منى الكرد، توجه حديثها إلى مستوطن إسرائيلي يُدعى يعقوب فوتشي: “أنت تسرق منزلي!”، يرد يعقوب: “نعم. لكن إذا لم أسرقه أنا، فسوف يسرقه شخص آخر”. يقر يعقوب في إجابته بوجود السرقة، ولا يساوره أدنى شك في وقوعها، سواء كان هو السارق أم غيره، لكن ما يرفضه هو الصراخ في وجهه، وتحميله وحده المسؤولية. متحديا بذلك المنطق “العالمي” الذي يبرر “السيطرة”، رغم رفضه اللفظي للسرقة، أو بالأصح، يكشف تناقضاته.

هل يعقوب مجرد ظاهرة إسرائيلية، أم نراه في كل مكان، وكل شارع من شوارعنا؟ ربما لا يفصح ذلك الحوار عن استمرارية الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي فحسب، باعتباره الشكل الأخير المتبقي من حقبة استعمارية ذات طابع استيطاني، بل يكشف لنا عن أخلاقيات “عالم الما بعديات”: بعد الاستعمار، وبعد الحداثة، الذي ما زال يحافظ على صيغ ما، لتمرير المجازر والإبادات والديكتاتوريات والقمع الداخلي، بدعاوى دينية وقومية، وأحيانا “تحررية”. كما يبدو مدخلا مناسبا لتناول التناقض الفج بين صيغ سائدة، مثل “مصالح مشتركة” و”تعاون دولي” من جهة، وبين أشكال مستحدثة من التبعية من جهة أخرى.

يأتي هذا في عصر ساد فيه شبه إجماع على الانتصار النهائي للرأسمالية، خصوصا بعد القضاء على النازية والفاشية وسقوط الاتحاد السوفييتي، الأمر الذي مهّد لإعلان “انتهاء عصر النزاعات المسلحة. إلى أن تم نقض هذا الإجماع باندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية في 2022، وتجدد الحرب على غزة في تشرين الأول 2023، الأمر الذي يدفع للتشكيك في إجماع عالم ما بعد الحرب الباردة، وطرح عديد من التساؤلات عن الأساطير المؤسسة لهذا الإجماع: مم تستمد قوتها؟ وما  السياسات والقيم التي أنتجها هذا الإجماع؟ وكيف تحولت صيغة “التعاون الدولي”، ومؤسسات ودول وتنظيمات “نزع الاستعمار”، إلى استعمار جديد؟ وكيف نتعامل مع ما نعتبره “قضايانا العادلة” وسط كل هذا؟

إلغاء العبودية: هل ضحّى الرأسماليون لأجل المستضعفين؟

ترجع أغلب الأدبيات، التي تناولت تأسيس “الولايات المتحدة”، أسباب الحرب الأهلية الأميركية، إلى صراع بين الشمال الأمريكي، الطامح بإلغاء العبودية؛ والجنوب، الذي يرغب في الإبقاء على استحقاق العبودية وامتيازاتها، بالتالي أصبح الشمال يعرف “بالولايات المتحدة”، التي ترمز لقيم الحرية والديمقراطية؛ أما الجنوب، الذي توحّد في “الولايات الكونفيدرالية”، فكان رمزا لماضٍ، يرتجى نبذه، والعمل على التحرر منه.

في مؤلفه الضخم “التاريخ الشعبي للولايات المتحدة”، يتحدى المؤرخ الأميركي هوارد زن هذه الافتراضات، متحدثا عن أن الصراع بين الشمال والجنوب لم يكن حول نظام العبودية، بوصفها مؤسسة أخلاقية، فالشماليون لم يشغلهم إلغاء العبودية، للدرجة التي تجعلهم يقدمون تضحيات في سبيله، كما لا يمكن اعتباره سببا لصراع حقيقي بين أهل الشمال والجنوب، إذ أن معظم الفقراء البيض من الفلاحين، لم يتمتعوا بنفوذ اقتصادي وسياسي، يسمح لهم بأن يكونوا في دائرة صنع القرار، لقد كانت الحرب في الواقع صراعا بين نخبتي الشمال والجنوب.

كانت النخبة الشمالية ترغب في التوسع الاقتصادي، الذي يتمثل في توفير الأراضي والعمل الحر والسوق الحرة، وتعريفات عالية لحماية أصحاب المصانع، وإنشاء بنك للولايات المتحدة، لكن الأرباح التي تحققها منظومة الرق في الجنوب كانت تعارض ذلك؛ فيما رأت النخبة الجنوبية أن أبرهام لينكولن والجمهوريين لا يشغلهم سوى استمرار نمط حياتهم، من متع ورفاهية، الأمر الذي استدعى انفصال الولايات الجنوبية عن الاتحاد، بمجرد انتخاب لينكولن رئيسا للبلاد، والعمل على تأسيس الكونفيدرالية. ومن ثم اندلعت الحرب الأهلية عام 1861، والتي خلّفت أكثر من 600 ألف قتيل، من إجمالي السكان الأميركيين، الذين كان عددهم ثلاثين مليونا آنذاك.(6)

دار الصراع إذن حول الطريقة التي تمكن النخب من سيطرة أكثر جدية وفعالية، ولخص هوارد زن منطقها بالقول: “ليس المبدأ في ألا يكون لإنسان الحق في امتلاك انسان آخر، لكن المبدأ هو أنه لا يستطيع أن يفعل ذلك، إلا إذا كان مواليا للولايات المتحدة”.

تم حسم الحرب الأهلية لصالح النخب الشمالية عام 1864، ليصبح انتصار الولايات المتحدة انتصارا للرأسمالية الصاعدة عالميا، وظهورا للأسماء اللامعة، حتى اليوم، التي حملت التوجّهات التوسّعية الجديدة، مثل جي بي مورجان وروكفيلر. وبمجرد انتهاء الحرب الأهلية، قامت تسع عشرة ولاية من الولايات الأربع والعشرين في الشمال بحرمان السود من حقوقهم الانتخابية، وبحلول عام 1900 كانت الولايات الجنوبية قد ضمت في دساتيرها ما يحرم السود من حق التصويت، بل وعزلهم عن البيض.(7)

ربما تفيدنا هذه القصة في فهم أنه من الممكن أن تطرح “قضية عادلة”، مثل القضاء على العبودية، أو حتى “نزع الاستعمار”، لكن بالإمعان فيما وراءها، مثل مخطط الفاعلين، والمصالح الحقيقية التي يراد تحقيقها، نرى أنها تمهد لعودة العبودية والاستعمار، بلباس جديد، ومن الباب الخلفي.

«شركاء التنمية»: الاقتصاد السياسي لـ«نزع الاستعمار» المعاصر

عقب الحرب العالمية الثانية، والتي خرجت منها القوى العظمى منهكة اقتصاديا وسياسيا، بالتزامن مع حراك داخلي داخل المستعمرات، التي رغبت في التخلص من الاستعمار الكلاسيكي، اجتمعت 44 دولة، على رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا، في مؤتمر “بريتون وودز”، لدراسة الوضع الاقتصادي بعد الحرب، وقد خرجت من هذا المؤتمر ثلاث منظمات أساسية، لتنظيم الوضع الجديد، وهي: البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية.

في كتابه “الإمبريالية الجديدة”، يرى ديفيد هارفي أن الولايات المتحدة الأميركية قامت باستغلال الوضع الاقتصادي والسياسي العالمي، من أجل تكوين “إمبراطورية”، تعمل في عصر جديد، وتنبذ نظريا صور الدم والدمار، فهو يرى أن أساس تكوين الإمبراطورية الأميركية لنفسها هو “الرأسمالية الإمبريالية”، وهي مشروع سياسي، يقوم فيه عدد من الفاعلين باستخدام سلطتهم على الموارد الطبيعية والبشرية، من أجل تحقيق أهداف سياسية واقتصادية بالأساس. يعمل هذا المشروع وفقا لمنطقين متضادين: منطق رأس المال غير المقيد بإقليم بعينه، الطامح بالتوسع المستمر وكسر الحدود؛ ومن جهة أخرى منطق الجغرافية – السياسية، الساعي نحو الإمساك بإقليم محدد، وفرض السيطرة عليه.

ولإيجاد مجال، يمكن للمنطقين أن يتضافرا فيه، فقد سعى ذلك المشروع لإيجاد منظمات، تتخطى سلطة الدول السيادية، بحيث تسمح لرأس المال بالتمدد الدائم، بينما تكون هذه المنظمات بدورها تحت سلطة دول بعينها، بحيث يسمح لمنطق الجغرافية – السياسة بالعمل وإحكام السيطرة أيضا. كما يرى هارفي أن هذا المشروع يحمل صورة داخلية لعالم مُقسَّـم بين مُسيطِر ومسيطَر عليه، لكن صورة السيطرة تغيرت، من كونها المحتل المباشر العنيف، إلى كونها “النظام العالمي”.(8)

وفق هذا السياق، نكون إزاء إجماع، تمكن من إرساء دعائم للسيطرة الجديدة، عن طريق خلق مؤسسات ومنظمات، تسبغ عليها صفات الحيادية والمصلحة العامة، وتقدم يد العون للمستعمرات وسلطاتها الجديدة، من خلال دمج اقتصاداتها وتنميتها، وفق صيغ تحقق ما يهدف له “التعاون الدولي”. ولكن بنظرة خاطفة على ما كان يقصَد بهذا الدمج، نجد أن “التعاون الدولي” لم يبتعد عما ذكره ديفيد هارفي، حول “تقسيم العالم بين مُسيطِر ومسيطَر عليه”.

لقد أصبح لدينا أخيرا “شركاء التنمية”، وأيضا “المانحون الدوليون”، وهي الأسماء التي تم إطلاقها على المؤسسات، التي من المفترض أن تعمل على نزع الاستعمار، وإدارة العالم وفق المسار الرأسمالي المعولم، من خلال سياسات، تمت الإشارة لها دوما بكونها “روشتة اقتصادية”، مثل “الديون مقابل التنمية”، وبرامج “التكييف الهيكلي”، وكثير من “برامج تناسب الدول منخفضة الدخل”، بشروط ميّسرة، وأحياناً كثيرة غير ميسّرة، ما يهم هو أن تكون ضمن عملاء البنك.(9)

بصدد هذا يخبرنا المفكر البلجيكي إريك توسان (10) أنه في دفة قيادة كل من البنك الدولي وصندوق النقد، لا يوجد سوى كاشفين اثنين: ذلك الذي يشير إلى معدل النمو ( مقاسا بمعدل نمو الناتج المحلي الإجمالي)، والآخر الذي يشير إلى تسديد الديون.

ويبدو أن كل أشكال “نزع الاستعمار”، حتى العنيفة والعقائدية و”الثورية” منها، استفادت من هذا “النظام العالمي”، سواء بشكل مباشر، أو عبر العمل شبه المافيوي على هوامشه. وبالتأكيد يصعب أن نجد دولة اليوم، مهما كانت كارهة لـ”سياسة القطب الواحد”، أو “الشيطان الأكبر”، تخرج فعليا عن هذا النظام الشامل.

عصر «المقاومة»: مَنْ يجب أن نقاطع بالضبط؟

وفق هذا التحوّل تبقى هناك تساؤلات عن مدى ما تحقق من وعود حقبة التحرر الوطني، مع فشل السلطات القومية الناشئة في أن تحرر شعوبها من إملاءات وشروط القوى الاستعمارية الجديدة. فضلا عن التعقيدات، التي تحكم المواقف والانحيازات، تجاه ما نسميها “قضايا عادلة”، خاصة في ظل واقع العمل السياسي الحالي، الذي احتكرته الأنظمة الحاكمة والميليشيات، وتحالفاتها الإقليمية والعالمية؛ وتحديد الصراعات حصرا بكونها مع النظام الفلاني أو ضد النظام العلّاني، وفق منطق يعمل على إنكار الشعوب والطبقات، وواقع المعيشة واحتياجاتها. وبالتالي تغييب الأشكال التمثيلية الاعتيادية للأفراد، في حركات وأحزاب ومنظمات جماهيرية، عماّلية أو فلاحية أو طلابية، والتي أصبحت “موضة قديمة”، لصالح أشكال مستحدثة من مؤسسات ومنظمات “المجتمع المدني” والحركات الحقوقية، التي تمثل “إطارا فوقيا”، لتكوين نخبة سياسية، من خبراء في “السياسات العامة”، وقضايا الأقليات والجندر وغيرها.

يتجلى هذا التعقيد مع كل حدث كبير، وآخره في الحرب على غزة، والصعوبة التي يجدها الأفراد للتعبير عن تضامن أو موقف ما، في وقت تم غلق كل القنوات، التي يمرر فيها الأفراد آراءهم ومواقفهم.

اندلع جدل كبير حول مقاطعة “الفرنشايز” الشهيرة في عدد من الدول العربية: هل نقاطع لأنها تتعاون مع شركات تدعم إسرائيل؟ أم لا، لكي نحافظ على العمالة المحلية، التي ستتضرّر بفعل هذه المقاطعة؟ يفصح هذا الجدل عن معضلة “ماذا يمكن أن نفعله لكي ندافع عن قضايانا العادلة؟” في ظل سلاسل القيمة، التي جعلت سلعا كثيرة بلا بلد منشأ واحد محدد (11)؛ مثلما جعلت ملاذات الضرائب، في الجزر الكاريبية، الشركات وصناديق الاستثمار بلا موطن؛ وكما أضفت شبكات “اقتصاد الظل” على ميلشياتنا المحلية طابعا “عالميا”، مكنها من مد نشاطها بين عدة قارات.

تطوّر أدوات رأس المال التمويلي، جعل رأس المال متشابكا، بشكل قلل بشدة من وجود مصالح رأسمالية منفصلة أو متضاربة، أو متموضعة في مواجهة بعضها البعض. ربما يفصح هذا بالنهاية عن ضرورة تكوين المواقف بشكل مركب، بقدر ما تفرضه تعقيدات الواقع، وأيضا ضرورة إعادة تعريف “القضايا العادلة”، بإعادة النظر في الفاعلين والداعمين لها هنا وهناك، والجوهر الحقيقي للصراعات، الذي أصبح يشوبه الغموض أكثر وأكثر، بفعل تعقد شبكة المصالح، التي تضعنا في اختيار بين مُسيطِر جديد، أو سارق يدافع عن “مبدأ”، مثل يعقوب، الذي ربما عبر عن كل ذلك التعقيد بـ”براءة” قاتلة.

ـــــــــــــــــــــــــ

المصادر

 (1)  قصة أوتا بنغا الطفل الكونغولي الذي تم خطفه

(2)  حوار الرئيس إيمانويل ماكرون

 (3) حديث ملك هولندا

(4)   تقرير BBC

(5)  فيديو منى الكرد ويعقوب

(6)  التاريخ الشعبي للولايات المتحدة الجزء الأول، هوارد زن

(7)  نفس المصدر السابق

(8)  الإمبريالية الجديدة، ديفيد هارفي

(9)  ما هي برامج الإقراض المتاحة لدى صندوق النقد الدولي؟

(10) المال ضد الشعوب: البورصة أو الحياة، إريك توسان

(11) هل المقاطعة سلاح فعال لتحرير فلسطين

عن موقع (حيز) – 28 تشرين الثاني 2023

عرض مقالات: