في وجه الاقتصادوية، بلور لينين مفهوم الاقتصاد الاجتماعي، الذي يضع الاقتصاد داخل التشكيلة الاجتماعية.

وفي بلورته المستقلة للنظرية الماركسية لتأمين تطبيقها على واقع بلد متخلف اقتصاديا، وسّع لينين تعريف الطبقات ذاته بحيث يتجاوز ثنائية البرجوازية/البروليتاريا.

»الطبقات مجموعات كبيرة من البشر يتمايز بعضها عن بعض بالموقع الذي تحتله في نظام محدد تاريخيا من الإنتاج الاجتماعي، وبعلاقتها بوسائل الإنتاج، وبدورها في تنظيم العمل الاجتماعي، وبالتالي بأحجام الحصة من الثورة الاجتماعية التي تتصرّف بها وبوسيلة الاستحواذ على عمل مجموعات أخرى نظرًا للمواقت المختلفة التي تحتلها في نظام محدد من الاقتصاد الاجتماعي».

(طرابلسي، الطبقات الاجتماعية، ٢٠١٦، ٣١–٣٢)

هكذا توصل لينين إلى ضرورة مبادرة البلاشفة إلى تسلّم السلطة بناء على تشخيصه لفعل القوى الطبقية في المجتمع الروسي في وضع روسيا العيني. ويتبدى التعيين الطبقي المتضافر (الاقتصادي، السياسي، الاجتماعي، الأيديولوجي) ليس فقط بما يطلقه من ديناميات وإنما أيضا بما هو راسم حدود في ما تستطيعه هذه الطبقة أو تلك من حيث الوعي والفعل.

في تحليل ذلك «الوضع»، تكشفت للينين أربع قوى طبقية أساسية - الملكية القيصرية، البرجوازية الملكية، البروليتاريا، الفلاحون - أخذ يعاين سلوكها من حيث مداه وحدوده، من منظار وضع جديد كل الجدّة هو النزاع العسكري على الصعيد العالمي.

عيّن التناقض الرئيسي على أنه بين القيصرية والرأسمالية من جهة والشعب المتجسد في العمال والجنود والفلاحين وفئات واسعة من البرجوازية الصغيرة، من جهة أخرى. ويقوم هذا التعيين على الجدل إياه بين الممكنات والمستحيلات:

أولا - تحالف القيصرية والرأسمالية محكوم باستحالة انفكاك الثانية فيه عن الأولى، بسبب حاجتها للجهاز البيروقراطي القيصري لتسيير أعمالها؛

ثانيا - حكومة تحالف «الأوكتوبريين» (الملكيون المحافظون)، و«الكاديت» التي تسلمت الحكم بعد ثورة شباط/ فبراير محكومة بعدة استحالات بناء على قواها الطبقية:

لن تستطيع تحقيق السلام لارتباطها بمعسكر الحلفاء - بريطانيا وفرنسا - الذي يقود الحرب

لن تستطيع توفير الخبز لعدم استعدادها لوقف الحرب

لن تستطيع توفير الحرية لارتباط تحالف مالكي الأرض والرأسماليين بالنظام القيصري الاستبدادي الرجعي

لن تستطيع تلبية المطلب الرئيس للفلاحين في توزيع الأراضي لتحالفها مع كبار ملاكي الأرض والقيصر.

الوضع الجديد

على أن هذا التشخيص البنيوي تطرأ عليه مستجدات تستدعي إعادة اكتشاف سمات الوضع الجديد:

مترتبات الحرب العالمية الأولى. الحكومة تريد مواصلة الحرب ضد ألمانيا، والبلاشفة واليسار ضد مواصلتها لأنهم في الأصل يمثلون التيار المعارض للحرب داخل «الأممية الاشتراكية» على اعتبارها حربا بين القوى الاستعمارية المتسابقة على الغنائم، ويدعون إلى تحويلها إلى حروب أهلية بين الشعوب والطبقات الحاكمة.

ازدواجية السلطة. مع ثورة شباط/ فبراير، تولدت سلطتان: سلطة الحكومة الانتقالية ومجلس الدوما من جهة، والسلطة المجالسية من جهة ثانية. تولد عن تلك الازدواجية تناقض وصراع بين المؤسستين على الإمرة والشرعية. لم يعد يكفي التنسيق بينهما ولا مجرد فرض رقابة السلطة المجالسية على سلطة الحكومة المؤقتة المتمركزة في الدوما. يجب حسم النزاع لصالح واحدة من السلطتين، بتعبير آخر استيلاء مجالس السوفييت على السلطة.

قوة البلاشفة.. إنهم الحزب الأوسع نفوذا في المجالس بسبب صحة شعارهم المركزي الذي يلخص ويكثف مطالب الأكثرية الشعبية: «خبز. سلم. حرية»، وقد كسبوا الأكثرية في سوفييت بتروغراد وسوفييت موسكو، ويملكون فوق ذلك تنظيما مسلحا هو «الحرس الأحمر».

الردة المضادة للثورة. كل ثورة تستدعي ردة ضدها تسعى إلى توظيف قوى أكبر من قوى الثورة بهدف الدفاع عن الوضع القائم أو الارتداد إلى ما سبقه. مع انهيار الحاميات العسكرية الأساسية في المدن، تجمعت قوات الردة الرجعية، المدعومة من قوات «الحلفاء» (بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة) بقيادة الجنرال لافار كورنيلوف الذي تحرك ضد الجمهورية والحكومة المؤقتة في آب/ أغسطس ١٩١٧ وأخذ يهدد بتروغراد. أعلن سوفييت بتروغراد التعبئة العامة واضطرت «الحكومة المؤقتة» برئاسة ألكسندر كرنسكي إلى توزيع السلاح على العمال والاستنجاد بـ«الحرس الأحمر» للمساهمة في المعركة. وقد لعب البلاشفة دورا مركزيا في صد الهجوم الرجعي، مؤكدين أنهم الطرف الأكثر جذرية واستعدادا للدفاع عن الجمهورية الوليدة.

مع إعلان الردة الملكية الحرب على الثورة، بات الخيار الوحيد حاسما: إما تجديد النظام القيصري وإما إطلاق الثورة العمالية. ولا حلّ وسط بينهما. هنا برزت مسألة التوقيت: إنها الآن. هكذا تضاف إلى مسألة الثورة عند لينين مسألة الوقت. متى الانتقال من الدفاع إلى الهجوم؟

«الحلقة المركزية» أو «الحلقة الأضعف»

 يعرّف لينين روسيا على أنها الحلقة الأضعف في السلسلة الإمبريالية لأنها الحلقة الأقل تطورا لم يبلغ تطور نمط الإنتاج الرأسمالي فيها كامل مداه لكي يصبح نمط إنتاج استعماريا - احتكاريا. وهذه «هرطقة» ثانية عند لينين. بناء على ما يقوله ماركس، وما ينقله عنه كثير من الاشتراكيين والماركسيين الروس، يجري تصوير البلد الذي بلغ ذروة تطور نمط الإنتاج الرأسمالي، أي بريطانيا، على أنه البلد الأكثر تأهيلاً لقيام الثورة الاشتراكية فيه. عند لينين، العكس هو ما ينطبق على روسيا: إنها البلد الأضعف في سلسلة البلدان الاستعمارية المتحاربة على إعادة توزيع مغانم الاستعمار. لذا كانت فرصة قيام الثورة فيها سابقة على الدول الاستعمارية المتطورة، بسبب ثورتها الأولى والأزمة التي تستدعي مسألة السلطة فيها.

ليس ينتهي الأمر عند هذا الحد، ذلك أن «روسيا المتخلفة اقتصاديا هي روسيا المتقدمة سياسيا». وتقدمها السياسي هو نتاج عناصر «الوضع» المخصوص الذي يسمح بانقلاب في علاقات القوى الطبقية والسياسية لصالح تسلّم الطبقة العاملة وحلفائها للسلطة السياسية. وأولوية السياسة تستكمل «هرطقة» لينين ضد الماركسية الكلاسيكية التي ترهن انتصار الثورة الاشتراكية باستكمال نضج الرأسمالية في البلدان الصناعية الأكثر تقدما. وهي نفسها «الهرطقة» التي لحظها عنده وأيّدها أنطونيو غرامشي في مقالته «الثورة ضد كتاب رأس المال» وروزا لوكسمبورغ في كرّاسها «الثورة الروسية».

التعلّم من الممارسة

لنتوقف برهة أمام جديد آخر في الوضع: عفوية أو عبقرية الجماهير وما أنتجته من مؤسسات وممارسات وما يستتبعه ذلك بالنسبة لفكر الثورة ومساراتها.

بعد عودته إلى بتروغراد، خاض لينين السجال خلال أيام نيسان/ أبريل ١٩١٧، داخل الحزب بل ضد أكثرية القيادة. من أبرز المعترضين على طرح مسألة استيلاء البلاشفة على السلطة ليف كامنييف، أقرب مساعدي لينين. في ردّ لينين عليه، نبّه إلى ما أنتجته «العفوية» الجماهيرية: مجالس السوفييت. هذه المجالس، التي تنازل عنها القيصر بُعيد ثورة ١٩٠٥ بما هي مؤسسات تمثيلية، وسرعان ما تحولت إلى أجهزة للتمثيل الشعبي المباشر وإلى مؤسسات سلطة بديلة، نشأ عنها ازدواج في السلطة. وصار بإمكان العملية الثورية أن تقوم بتغليب شرعية على شرعية وسلطة على سلطة خصوصًا أنّ للشرعية الجديدة أجهزتها العسكرية وأبرزها اللجنة العسكرية لسوفييت بتروغراد و«الحرس الأحمر» التابع للبلاشفة.

مأخذ لينين على كامنييف أنه يرفض التعلّم من الممارسة. لذا فهو يتجاهل الوضع الجديد: مجالس السوفييت، أجهزة السلطة النقيضة والبديلة التي نشأت بالمبادرات الجماهيرية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مجلة “بدايات” – العدد 34 – 2022

عرض مقالات: