كيفية استخدام التكنولوجيا هي ما يهم

-دعنا ننتقل للحديث عن التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي. يتحدث ماركس في الغروندريسة عن الأتمتة والتشغيل الآلي ودور الآلات والدور السائد لرأس المال الثابت، وبالفعل نرى اليوم أن الممتلكات الشخصية للناس يتم تحويلها إلى رأسمال. مثلا يتم تحويل سيارات الناس إلى رأس مال مع شركات مثل «أوبر» و«ليفت»، ويتم تحويل منازل الناس إلى رأسمال مع شركات مثل  Airbnb، وأيضاً مع التحول إلى العمل عن بعد والعمل من المنزل. ما الذي يعنيه ذلك فيما يتعلق بآليات تراكم رأس المال والرأسمالية اليوم؟

*هذا مثير للاهتمام. لنأخذ شركة Airbnb على سبيل المثال. قد يبدو الأمر مفيدا للأفراد ومساعدا لهم في البداية، قبل أن تتحول إلى شركة كبيرة. وعندما تصبح شركة كبيرة، فإن الأشخاص الذين يؤجّرون ملكياتهم يفقدون فعلياً جزءا كبيرا من أصولهم. والأمر نفسه ينطبق على حالة أوبر. قد يكون الأمر مفيداً لمشغّل صغير وقد يساعده ذلك، لكن الأمر يتحول تدريجياً لصالح رأس المال الكبير، وإلى رسملة العملية. هذه إحدى الأمور المدهشة التي تحصل في لحظتنا الحالية. من المستحيل تقريبا لأي شخص أن يفعل أي شيء من دون أن يتم الاستحواذ عليه وتجريده منه في مرحلة ما. ولهذا السبب أعود مرة أخرى إلى «التراكم بالتجريد من الملكية»، لأن ما تفعله في الواقع هو جلب كل تلك الملكيات وتنظيمها. قد يبدو الأمر أن هناك شخصا ما يستأجر الغرفة الخلفية لبضعة أسابيع، لكنه في الحقيقة ليس بهذه البساطة. الآن لدينا مدن مضيفة مثل برشلونة وهناك صراع للسيطرة عليها. وهذا ما تدور حوله الأمور.

-في الغروندريسة يقول ماركس إن «تحويل عملية الإنتاج من مجرد عملية بسيطة للعمل إلى عملية علمية تتسم بسمة رأس المال الثابت وعلى النقيض من العمل الحي». من هنا، نرى المزيد من الاستبدال، إن صح التعبير، بين العمل ورأس المال الثابت أي الآلات وغيرها، خصوصا الآن مع الذكاء الاصطناعي والآفاق التي يفتحها. ما هو تأثير هذه التكنولوجيات على الطبقة العاملة - والناس عموما - لناحية إفقادها المهارات وغير ذلك؟

*السؤال المهم المفترض طرحه ليس حول التكنولوجيا نفسها وإنما حول كيفية استخدامها؛ كيف سوف يستخدم رأس المال الذكاء الاصطناعي؟ وفي المقابل، كيف يمكن للاشتراكي استخدام هذا الذكاء الاصطناعي؟ بهذه الطريقة، يمكن إدراك درجة تحكم رأس المال في استخدام هذه التكنولوجيّات وكيفية استخدامها لتحقيق المنفعة الرأسمالية. في حين أن الاشتراكي لن يستخدم هذه التكنولوجيا إلا من أجل المنفعة الاجتماعية ولغايات اشتراكية. يمكن تقديم الإجابة من التجربة التاريخية؛ بالنظر إلى نموذج الأتمتة وما تبقى منها في الصناعة، يُرجّح استخدام التكنولوجيا لتدمير القوى الطبقية إذ تركت متاحة لرأس المال، وبالتالي جعل العمال أكثر تهميشاً وهم أكثر قابلية للاستبدال والتخلص منهم، في مقابل تمكين الطبقة الرأسمالية أكثر ومراكمة المزيد من الثروة على حساب أكثرية السكان. لكن في مقابل ذلك، يأتي الاستخدام الاجتماعي لهذه التكنولوجيات. ولا شك أن بعضاً من الطبقة الوسطى سوف يعارضون استخدامها لسحق العمال أكثر مما سحقتهم الممارسات النيوليبرالية، لكن السؤال الأهّ هو في كيفية استخدامها كإشتراكيين. وأعتقد أن الإجابة تفترض استخدامها على النحو الذي يزيد من وقت الفراغ. هناك تعليق لماركس حول ذلك، يقول: «عندما تنظر إلى هذه الأشياء فإنها توفر الكثير من وقت الفراغ. المسألة هي أن رأس المال يحول الوقت المتاح للعمال إلى فائض قيمة». هذا ما يرغب في القيام به وهذا ما سوف يفعله. في حين أنك في مجتمع اشتراكي، ترغب في أن يمتلك الناس المزيد من وقت الفراغ ليفعلوا ما يسعدهم.

ما يفترض أن تفسره نظرية قيمة العمل

-مع تراجع دور العمل وازدياد الأتمتة والتشغيل الآلي، يمكن لأحد ما القول إن «نظرية قيمة العمل» نفسها مهددة، في حين ستكون فيه قوّة الطبقة الرأسمالية بمنأى عن الخطر مع التحوّل بالقيمة أكثر فأكثر من العمل إلى رأس المال؟

*إذا كانت نظرية قيمة العمل تتعلق ببساطة بقيمة شيء أو خدمة ما، فحينها يمكنك القول أن كل هذا سوف يختفي لأن مدخلات العمل ستكون صفرية. ولكنني أعتقد أن نظرية قيمة العمل هي أبعد من ذلك. إنها تتعلق بحياة العمال ونوعية حياتهم. ففي نهاية المطاف، ما يفترض أن تفسره نظرية قيمة العمل هو الأسباب التي تجعل من الأشخاص المنخرطين في صناعة هذه السلع يحصلون على فائدة قليلة منه. سوف يبدو حينها أن لديك فكرة مختلفة عن نظرية قيمة العمل، وأعتقد أن هذا ما كان ماركس يعمل من أجله.

تعقيباً على إحدى النقاط التي أثرتها، يقول ماركس: «مثلما يخلق رأس المال من جهة فائض العمل، فإن فائض العمل في الوقت نفسه هو الشرط الضروري لوجود رأس المال»، ويقول إن «عملية تنمية الثروة بأسرها تتعلق فعلاً بخلق الوقت المتاح». فيما تُعلّق على ذلك بالقول إن «ماركس يشيد بوقت الفراغ للجميع باعتباره المقياس الحقيقي لمدى تقدّمنا نحو الاشتراكية». وهذا ينقل النقاش إلى البعد الأساسي و«جوهر» القضية بعيدا من النقاش حول المسائل النقدية والآلات وما إلى ذلك. لدى ماركس تعليق رائع يقول فيه إن عالم الحرية يبدأ عندما يتم تجاوز عالم الضرورة. لذلك إذا تمكننا من أتمتة عالم الضرورة بحيث نقضي فقط ساعتين أو ثلاث ساعات في الأسبوع للقيام بالأمور التي يتعين علينا القيام بها من أجل الحصول على كل شيء، سوف يكون باقي وقتنا ملكا لنا. لكن كما ترى هذا أمر أخلاقي وغريب للغاية. في الأنثروبولوجيا، نجد أن هناك مجموعات اجتماعية تعمل لمدة ثلاث ساعات تقريباً في اليوم، وبعد الانتهاء يجلسون ويتحدثون ويتواصلون اجتماعيا. لكن جاء الرأسمالي الصناعي الغربي وقال إن هذا مستحيل، هؤلاء الأشخاص كسولون جدا ومريعون للغاية ومن غير الأخلاقي أن يفعلوا ذلك، لذلك نجد أشخاصا يعملون الآن لمدة ثمانين ساعة في الأسبوع، ولديهم وظيفتان أو عليهم الحصول على وظيفتين، من أجل تأمين دخل كافٍ للبقاء على قيد الحياة.

من أجل حرية بديلة

-تقول إن الاشتراكية يجب أن تُبنى من بقايا ما لدينا الآن. إذا أردنا أن يمتلك الجميع هواتف محمولة في مجتمع اشتراكي، كيف ننظم تقسيم العمل بطريقة تجعل العمل المطلوب لإنتاجها مرضياً وليس استغلالياً؟ وماذا تقصد بالعمل غير الاستغلالي؟

*ما أعنيه ببساطة أن لا يكون هناك رأسمالي يصادر القيمة الفائضة. أتخيل أنه يمكننا أن نفكر بنمط من التجمعات والتعاونيات الجماعية، حيث يتم التحكم بأجور جميع العمال، وأن لا تزيد الفروقات بين الأعلى أجرا والأقل أجرا عن نسبة 3 إلى 1، بدلاً من النسبة التي نراها حالياً في الشركات الكبيرة والتي تصل إلى 350 أو 400. من الواضح أنه سيكون لدينا عالم معقد إذا أردنا امتلاك أجهزة كمبيوتر وهواتف محمولة وأشياء من هذا القبيل، وربما نحتاج إلى الحفاظ على هياكل الإنتاج سليمة، لكن معدلات ونسب الأجور والتعويض يجب أن تبدو مختلفة للغاية، وكذلك التقديمات الجانبية، ويجب أن تكون خدمات الرعاية الصحية والوصول إلى السكن وجميع هذه الخدمات مضمونة للجميع بالتساوي.

-سؤالي الأخير، ماذا يعني أن تكون اشتراكياً في العام 2023؟

*أن نكون اشتراكيين يعني أن نكون مدركين تماماً لجميع تلك الطرق التي يهيمن بها رأس المال على جميع جوانب الحياة اليومية والثقافة، وأن نضغط من أجل حرية بديلة، حيث يمكننا المناقشة والتفكير بأمور مختلفة جذريا عما يطرحه رأس المال على الطاولة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

موقع “صفر” – العدد 4 – أيار 2023

عرض مقالات: