قصة مماثلة ستجري أحداثها في بقية أنحاء أوروبا. ألهم النموذج الفرنسي العديد من الثورات؛ من روما إلى فيينا إلى برلين إلى بودابست، في سلسلة من الثورات والانتفاضات التي أصبحت تُعرف باسم ربيع الشعوب. لكن الرأسمالية لم تكن متطورة في هذه البلدان كما كانت في فرنسا. كانت الطبقة العاملة أصغر، وكان القتال في المدن يدور في الغالب من قبل الطلاب والطبقات الوسطى. عندما ظهروا بالفعل على مسرح التاريخ، كان العمال أو شرائح الطبقة العاملة الجنينية هم القسم الأكثر راديكالية وحزما في الثورات، إذ كان بإمكانهم استنتاج حاجتهم إلى النضال من أجل تحريرهم.

لكن الطبقة الرأسمالية وحلفاءها في الطبقتين الوسطى والمهنية تعلموا درسًا مختلفا. بالنسبة للرأسماليين، أثبت مثال الثورة الفرنسية -في عام 1792 وهنا في عام 1848- أن هناك تهديدا أكبر من استبداد الأنظمة القديمة. أراد بعض الليبراليين البرجوازيين إصلاحًا دستوريا، واستقلالا وطنيا، وأحيانا ديمقراطية محدودة، لكن ليس بالقدر الذي أرادوا به الحفاظ على مكانتهم في المجتمع ومنع الاضطرابات القادمة من أسفلهم.

كان بإمكان الليبراليين البرجوازيين أن يروا أن تحولا ديمقراطًا حقيقيا للمجتمع، حيث يستطيع الكادحون تحديد طبيعة عملهم والغايات التي توضع من أجلها، سيعني نهاية لوجود الرأسماليين، بمعنى أنهم لن يعودوا قادرين على استغلال العمال بحرية. كان على الليبراليين الديمقراطيين من الطبقة الوسطى الذين دعموا الرأسمالية أن يدافعوا عنها من تهديد العمال الذين ينظمون أنفسهم من أجل المساواة الاقتصادية والديمقراطية الراديكالية. وهكذا، عندما تلاشى الغبار عن الانتفاضات الأولى، سعوا في المقام الأول إلى إرساء النظام وصنع السلام مع القوى الموجودة.

ربما كان هذا هو الأكثر وضوحا في الولايات الألمانية، حيث كان الليبراليون يتوقون بشدة لمواصلة مفاوضاتهم مع النبلاء القدامى، إلى درجة أنهم عارضوا مواصلة النضال. تُركت القوى الأكثر راديكالية والطبقة العاملة للقتال بمفردها، وهزمها الملوك والأمراء الألمان بسهولة.

بحلول نيسان من العام 1849، كانت المجر هي المعقل الوحيد المتبقي لنضالات الاستقلال الوطني. قاتلت المقاومة المجرية الشرسة القوات النمساوية الهابسبورجية عدة مرات، لكن في نيسان طلب إمبراطور هابسبورج مساعدة القيصر الروسي، الذي غزا البلاد بعشرات الآلاف من الجنود الروس، ليقضي على الفصل الأخير من ربيع الشعوب.

وبدلا من توحيدهما وتحويلهما إلى جمهورياتٍ رأسمالية من خلال النضال الديمقراطي من الأسفل، تم تشكيل دول إيطاليا وألمانيا في النهاية بالقوة العسكرية بواسطة الطبقات الحاكمة القديمة. احتل البروسيون واستوعبوا ما تبقى من الولايات الألمانية، وفي النهاية وضع ملوك بيدمونت-سردينيا بقية إيطاليا تحت كعوبهم.

 

هُزمت ثورات 1848 هزيمة قاسية ودموية. العديد من الأشياء التي حاربوا من أجلها لم تعد ذات صلة بالنسبة لنا: لم تعد الرأسمالية قوة تطورية تفجر ثورة في تقنيات الإنتاج الإقطاعية القديمة، وعلى أي حال، فهي موجودة بالفعل في جميع أنحاء العالم اليوم. وسيكون الأمر متروكا للثورات اللاحقة للإجابة على الأسئلة الرئيسية حول ما يلزم لتدمير وإزاحة الدول القومية الرأسمالية التي شُيّدت في القرن التاسع عشر، وما هو نوع التنظيم الذي يحتاجه الاشتراكيون والثوريون للقيام بذلك.

هذا لا يعني أنه لم يكن هناك شيء نتعلمه من الإخفاقات. كان ماركس وإنجلز قد شاركا في الأحداث الألمانية لعام 1848، وشهدا بذلك الارتفاعات السماوية والانخفاضات الجهنمية للنضال الثوري. من هذه التجربة، استخلصوا دروسا قيّمة وجديرة بأن يضعها الثوريون والاشتراكيون في اعتبارهم. ربما يكون خطاب ماركس الذي ألقاه أمام اللجنة المركزية للعصبة الشيوعية، والذي يشار إليه عادة ببساطة باسم “عريضة مارس”، هو البيان الأكثر إيجازا ووضوحا لهذه الدروس.

في هذا الخطاب، وضع ماركس وإنجلز الحقيقة التاريخية المركزية التي تتلخص في أن مصالح الطبقة العاملة والجماهير الشعبية قد خانها الجناح الليبرالي للطبقة الرأسمالية. قالا لرفاقهما: “لقد قلنا لكم بالفعل في عام 1848، أيها الأخوة، إن البرجوازية الليبرالية الألمانية ستصل قريبا إلى السلطة وستوجه على الفور قوتها المكتسبة حديثا ضد العمال. لقد رأيتم كيف تحققت هذه التوقعات”.

لم يكن هذا مجرد حدث منفرد، بل مثّل سياسة الطبقة الرأسمالية وأنصارها من الطبقة الوسطى في كل مكان. وكما جاء في عريضة مارس، فـ”إن البرجوازية الديمقراطية الصغيرة، الأبعد ما يكون عن الرغبة في تغيير المجتمع بأسره لصالح البروليتاريين الثوريين، تطمح فقط إلى تغييرٍ في الظروف الاجتماعية يجعل المجتمع القائم مقبولا ومريحا لهم قدر الإمكان”.

كل هذا يعني أنه في جميع النضالات المستقبلية، لم يعد من الممكن الوثوق بالبرجوازية والطبقات الوسطى على أنها ثورية -حتى لو حققت الثورة أهدافهم المعلنة. في المقابل، سوف يلجأون إلى قوى النظام القديم لسحق التهديد الأكبر لوضعهم الاجتماعي، ألا وهو الفعل الثوري للطبقة العاملة. في ضوء هذا التقييم التاريخي، فإن بعض الإجراءات السياسية والتنظيمية تفرض نفسها كضرورة.

أولًا وقبل كل شيء، احتاجت أحزاب الاشتراكية الثورية إلى الاستقلال الطبقي. سعى الليبراليون والديمقراطيون من الطبقة الوسطى إلى الوحدة مع الطبقة العاملة فقط من أجل حصرهم في أجندة الليبراليين المحدودة. وكما كتب ماركس: “بدلا من أن ينزلوا بأنفسهم إلى مستوى جوقة تصفيق، يجب على العمال، والعصبة في المقام الأول، العمل من أجل إنشاء منظمة مستقلة لحزب العمال، سرية ومفتوحة، جنبا إلى جنب مع الديمقراطيين الرسميين، يجب أن تهدف الرابطة إلى جعل كل واحدة من كوميوناتها مركزا ونواة للجمعيات العمالية حيث يمكن مناقشة وضع ومصالح البروليتاريا بعيدا عن التأثير البرجوازي”.

كان هذا هو الحال حتى فيما يتعلق بالانتخابات، التي لم يرفض ماركس وإنجلز الانخراط فيها. كان هناك مبدأ إرشادي في مثل هذه الحملات، على الرغم من أن “مرشحي العمال يتم ترشيحهم في كل مكان في مواجهة المرشحين الديمقراطيين البرجوازيين … وحتى في الأماكن التي ليس هناك احتمال لتحقيق انتخابهم، يجب على العمال تقديم مرشحيهم الخاصين للحفاظ على استقلاليتهم، وقياس قوتهم، ولفت انتباه الرأي العام إلى موقفهم الثوري ووجهة نظرهم الحزبية”.

ثانيا، في زمن الاضطرابات الثورية المستقبلية، يجب على الطبقة العاملة أن تكسب وتحافظ على أسلحتها. “لكي نتمكن من معارضة هذا الحزب بقوة وتهديد، ستبدأ خيانته للعمال منذ الساعة الأولى من النصر، يجب أن يكون العمال مسلحين ومنظمين”. ستعارض القوى البرجوازية ميليشيات العمال هذه، لكن لا يمكن للثوريين بأي حال من الأحوال دعم نزع سلاحهم أو استيعابهم في صفوف حرس وطني أو مدني غير طبقية -وبالتالي في الواقع تحت هيمنة البرجوازية.

ثالثا، في وقت الإطاحة بالنظام القديم وإنشاء حكومة برجوازية ديمقراطية أو ليبرالية جديدة، يجب على الثوريين أن يبدأوا على الفور النضال ضد هذا النظام الجديد. “بمجرد أن تثبت الحكومات الجديدة نفسها، سيبدأ صراعها ضد العمال. إذا كان للعمال أن يحوزوا القدرة على معارضة البرجوازية الصغيرة الديمقراطية بالقوة، فمن الضروري قبل كل شيء أن يكونوا منظمين بشكل مستقل …”.

لخص ماركس هذه المبادئ في نهاية العريضة: “إلا أنه عليهم المشاركة بأنفسهم بانتصارهم النهائي, بوعيهم لمصالحهم الطبقية وتنظيمهم بأسرع ما يمكن كحزب مستقل، وبعدم إغفالهم ولو للحظة واحدة، بالرغم من الخطابات الخبيثة التي يرددها البرجوازيون الصغار الديمقراطيون، عن تنظيم حزب البروليتاريا بشكل

مستقل. إن صيحة حربهم يجب أن تكون: الثورة الدائمة!”.كان العديد من الماركسيين المزعومين عبر التاريخ إما جاهلين وإما متعمدين تجنب دروس عام 1848 وعريضة مارس. كانت هذه، بالطبع، قوى “الاشتراكية” التي سعت إلى التسوية مع الليبراليين والديمقراطيين والقوميين -من “الاشتراكية الديمقراطية” الإصلاحية إلى الستالينية اليمينية في فترة الجبهة الشعبية في الثلاثينيات. لكن الديناميات الرئيسية لثورات 1848 -تذبذب الليبراليين والإصلاحيين، وخوفهم من راديكالية الطبقة العاملة الثورية، والانبثاق الحتمي للعداءات الطبقية أثناء الثورة- ستظل مركزية في جميع الثورات طالما استمرت الرأسمالية في الوجود. إن أولئك الذين يريدون إحراز النصر في النضال الثوري القادم سيحسنون صنعا إذا استمعوا للدروس المستفادة، والتي أدت إلى بعض أهم التطورات في الفكر الماركسي الثوري.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ترجمة: محمد محروس عن: موقع “ريد فلاغ” (الراية الحمراء) الأسترالي – 24 تشرين الثاني 2021

عرض مقالات: