في 22 فبراير 1848، بلغت حملة المعارضة الليبرالية ضد ملكية يوليو ذروتها في مواجهة حادة في باريس. لسنوات من الزمن، حُرم هؤلاء البرجوازيون، الذين صاروا فيما بعد إصلاحيين، من الحق في التنظيم السياسي من قبل الاستبداد المتزايد للدولة الفرنسية. خلال الأشهر القليلة السابقة، سعوا إلى الالتفاف على هذا الحظر من التنظيم السياسي من خلال تنظيم حملة من المآدب الخاصة. لم تكن هذه المآدب السياسية بؤرا للراديكالية اليسارية. كان معظم المشاركين يكرهون الاشتراكيين والفوضويين، ويشعرون بالاشمئزاز من الطبقة العاملة، ويخافون من فكرة الثورة تماما مثل الملك لويس فيليب. كل ما أرادوه هو الإصلاح الانتخابي، ليشمل شريحةً أكبر من الرأسماليين والطبقات المهنية في صنع القرار في الدولة. فقد اعتقدوا أن ذلك كان معقولا للغاية.

كانت الحكومة الفرنسية ترفض ذلك. وفي عشية 22 شباط، عندما كان من المقرر إقامة المأدبة الأخيرة لحملة الإصلاحيين في باريس، حظر الملك ووزير الداخلية فرانسوا جيزو التجمع وأي مآدب مستقبلية. نظمت المعارضة الليبرالية مسيرة رمزية للتعبير عن استيائهم، مرددين هتاف “يعيش الإصلاح” و”يسقط جيزو”، قبل أن يستقروا على العمل على الطعون والالتماسات القانونية.

لكن لم يكن الإصلاحيون البرجوازيون وحدهم هم من واجهوا مشكلة مع ملكية تموز. أطلق على عقد الأربعينيات من القرن التاسع عشر لقب “الأربعينيات الجائعة”، وذلك بسبب الأزمات الزراعية التي عصفت بأوروبا. كانت مجاعة البطاطس الأيرلندية سيئة السمعة جزءا من هذه العملية، لكن تداعيات الفشل الزراعي لم تقتصر على محصول واحد. دفعت الصدمات في صناعة المواد الغذائية القطاع المالي إلى حافة الهاوية أيضا، وتدهور الاقتصاد الفرنسي تدهورا غير مسبوق.

كالعادة، أُجبر الفقراء والطبقة العاملة على دفع ثمن الأزمة. في فرنسا، اتخذ هذا الاتجاه شكل عمليات تسريح جماعي للعمال في المدن، وزيادة الضرائب على الفلاحين الجائعين في الريف. حتى قطاعات من الطبقات الوسطى عانت مع انهيار الطلب على السلع الحرفية والخدمات المهنية، مما دفع بهذه العائلات الثرية إلى العوز أو ما يقاربه.

لذلك عندما تخلت المعارضة الليبرالية عن الشوارع في شباط مقابل التوجه للمحاكم، ظل العمال وجماهير المدن في الشوارع. في نوادي العمال الراديكالية، كان الكثيرون ينظمون صفوفهم منذ شهور، في انتظار هذه اللحظة بالذات. كان بعض الجيل الأكبر سنا من المشاركين في ثورة تموز عام 1830، وكانت ذكرى قتال المتاريس ما زالت حية وبارزة في ذاكرة الطبقة العاملة الباريسية. استُعيدت تلك الذاكرة على نحو جيد، وهيمنت المظاهرات وقطع الطرق على شوارع المدينة.

استقال جيزو في اليوم التالي، وكان الملك قد قرر أنه سيضحي بالوزير من أجل إنقاذ النظام. لكن ذلك كان قليلا جًا ومتأخرا جدا. وبدلا من تهدئة المحتجين، حفزتهم استقالة جيزو على مواصلة النضال. لكن التمرد الحقيقي اشتعل عندما أُطلِقَت النار على مظاهرة بمحيط وزارة الخارجية، مما أسفر عن مقتل 52 متظاهرا. ومنذ تلك اللحظة، لم تعد جماهير باريس تتظاهر، بل كانت تقاتل في شارعٍ تلو الآخر ضد قوى ملكية يوليو. والأهم من ذلك، رفض الحرس الوطني -وهو مؤسسة تابعة للدولة الفرنسية تشكلت في الغالب من الطبقات الوسطى- إطلاق النار على العمال. عندها، صار مصير الملك لويس فيليب محسوما وهرب من البلاد.

ذهب نظام تموز الملكي، لكن لم يكن من الواضح ما الذي سيحل محله. عندما كان الملك ونظامه في السلطة، كان للمعارضة الليبرالية والعمال الراديكاليين عدو مشترك: شيء يناضلون ضده جنبا إلى جنب. أما مع رحيل الملك، لم تبق هناك مثل هذه الأرضية المشتركة. كما كتب ماركس في مقال في “الجريدة الرينانية الجديدة”، فإن “الأخوة الفرنسيون، أخوة الطبقات المتناحرة، التي تستغل إحداها الأخرى، هذه الأخوة التي أُعلِنت في فبراير ونُقِشت بأحرف كبيرة على واجهات باريس، في كل سجن وكل ثكنة وجدت تعبيرها الخالص، الحقيقي والمرتجل في الحرب الأهلية. والحرب الأهلية في أكثر جوانبها فظاعة: هي حرب العمال ضد رأس المال”.

بعد الانتفاضة الأولى مباشرة، كانت التساؤلات تحوم حول الكثير من الأمور المتعلقة بما ستبدو عليه الدولة في المستقبل. هل ستكون جمهورية حقيقية أم ملكية دستورية؟ هل سيمتد الامتياز السياسي إلى الطبقة العاملة والفلاحين؟ وماذا ستفعل الدولة حيال البطالة الجماعية؟

ذهب نظام تموز الملكي، وأُعلِنت الجمهورية الثانية بعد أيام فقط من هروب الملك لويس فيليب. مُنِح حق التصويت لكل ذكر بالغ، وكان ذلك نصرا هائلا للديمقراطية. لكن عندما ناوشت مطالب العمال حدود النظام الرأسمالي، هُزمت أو قُوِّضت. حتى حق التصويت الذي حارب من أجله اليسار، استُخدم ضدهم. فمع معرفة العقلية السياسية للفلاحين في معظم أنحاء فرنسا، شن المحافظون حملات قوية في المقاطعات للفوز بأغلبية الجمعية التأسيسية الوطنية. ومن موقع القوة هذا، صار يمكنهم مهاجمة جميع مكاسب الراديكاليين.

انتهى خط المعركة الرئيسي بورش العمل الوطنية، والتي كانت عبارة عن برامج توظيف للعاطلين. صُوِّرت برامج التوظيف هذه على أنها مخططات طوباوية لتغيير طبيعة العمل، وإزالة دافع الربح على أن يحل محله العمل من أجل الصالح العام. تحت الضغط الفوري للثورة، سمحت الجمهورية الثانية بإنشاء هذه الورش، لكنهم تأكدوا من أنها تعمل بشكل أشبه بالرعاية الاجتماعية، حيث تضمن أجرا للعاطلين عن العمل مقابل عملهم في الأشغال العامة. ومع ذلك كره الليبراليون والمعتدلون تلك الإجراءات، لأنها تنتهك حقوق الرأسماليين في استغلال العمال متى شاءوا بالتوظيف والطرد في سوق العمل غير المنظم، فسعوا في النهاية إلى تدمير ورش العمل الوطنية.

لم ينل العمال تلك المكاسب وهم مستلقون في الفراش. لذلك، في الأشهر التالية، اندلعت معارك بين الأندية السياسية الراديكالية للطبقة العاملة والجمعية الوطنية التأسيسية التي يهيمن عليها المحافظون. كانت المواجهة الكبرى الأولى في 15 أيار، عندما سار 20 ألف عامل إلى مجلس النواب، واستولوا على المبنى وقضوا ساعات في إلقاء الخطب للمطالبة باستقالة السلطة التنفيذية للحكومة، وإنشاء وزارة العمل التي تدافع عن حقوق العمال، والمساعدة العسكرية للأقليات القومية في جميع أنحاء أوروبا التي كانت تقاتل من أجل حرياتها كجزء من موجة الانتفاضات الديمقراطية التي اجتاحت أوروبا عام 1848.

وللأسف، تم فض المظاهرة والاعتصام على يد القوة ذاتها التي دافعت عن الثوار في مواجهة القوات الحكومية في فبراير، ألا وهي الحرس الوطني. وقف جنود الطبقة الوسطى من الحرس الوطني إلى جانب العمال ضد الملك، لكنهم أظهروا أنهم سيقفون إلى جانب البرجوازية ضد العمال. وكان هذا نذيرا لأحداث قادمة.

جاء النضال الكبير في حزيران، عندما أغلقت الحكومة ورش العمل الوطنية، وأعطت العمال الاختيار: بين التجنيد في الجيش النظامي والقتال في حروب فرنسا الاستعمارية، أو مواجهة الفقر والمجاعة.

اختار العمال التمرد. لثلاثة أيام، كافحت الطبقة العاملة في باريس ببطولة ضد قوات الجيش الفرنسي. قاتل العمال بالأسنان والنواجز مقابل كل بوصة من الأرض ضد عدو كان يفوقهم عددا وعتادا. تخلصت العاملات من قيود اضطهادهن واستبسلن في قيادة القتال: ظهرت أبطال مثل إليزابيث جيبال، التي أُلقي القبض عليها لركضها في الشوارع مسلحة بسيف وتحطيم النوافذ لتسهل على رفاقها الاستيلاء على الأسلحة، وفيف هنري، 76 عاما من قدامى المناضلات في ثورة 1830، فيما قادت نساء أخريات المواجهة في حواجز شارع دي تروا كورون في بيلفيل.

على الجانب الآخر، استعدت الحكومة باستدعاء أفضل قائد لها من الحروب الاستعمارية في الجزائر، الجنرال كافينياك. وعلى الطريقة الاستعمارية، اجتاح جيش كافينياك شارعا تلو الآخر، وسدا تلو الآخر، وقصف العمال وأطلق النار عليهم وقتلهم لاستعادة باريس. وعلى الرغم من أقصى محاولاتهم، لم يكن بوسع عمال باريس وحدهم أن يأملوا في هزيمة الجيش الفرنسي. وغرقت انتفاضة أيام حزيران في الدماء.

مُنح كافينياك سلطات خاصة من قبل الجمهورية الثانية بمجرد أن أصبحت المدينة تحت سيطرته، حتى يتمكن من الحفاظ على “النظام”. أشرف الجنرال بشكل أساسي على ديكتاتورية عسكرية بزخارف ليبرالية، وكان نظامه يمهد الطريق لديكتاتورية لويس نابليون. وبهذه الطريقة، انتهت الثورة الفرنسية لعام 1848 بنفس الطريقة التي انتهت بها الثورة الكبرى في 1789-1792، إذ سار ابن أخي نابليون بونابرت على خطى عمه، أو كما كتب ماركس لاحقًا: “في المرة الأولى كمأساة، وفي الثانية كمهزلة”.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ترجمة: محمد محروس عن موقع “ريد فلاغ” (الراية الحمراء) الأسترالي – 24 تشرين الثاني 2021

عرض مقالات: