أود أن أبدأ باقتباس من كتاب بيير بورديو الموسوم «منطق الممارسة»: «العنف الرمزي هو ذلك العنف الذي يفرض خضوعا، لا ينظر إليه كخضوع، وذلك لأنه يعتمد على ما تتوقعه الجماعة من خلال معتقدات مغروسة اجتماعيا. كما أن نظرية العنف الرمزي ترتكز على الإيمان أو على نحو أفضل، على نظرية إنتاج المُعتقد، وعلى عملية التنشئة الاجتماعية اللازمة لإنتاج عوامل تتمتع بأنماط الإدراك والتقدير التي ستمكن المهيمَن عليهم من إدراك الأوامر الزجرية المتداولة التي يجب أن يطيعوها.»

جزيرة كارباثوس أنموذجا

كان رجال ونساء جزيرة كارباثوس اليونانية، في بحر إيجة، قد نظموا توريث أملاكهم من جيل إلى جيل، حسب مبادئ، تبدو فريدة من نوعها في أوروبا. حتى خمسينيات القرن العشرين، اتسمت العلاقات العائلية بالهيمنة والاستغلال، مفضلين الأبناء البكر من الجنسين على إخوانهم وخصوصا على أخواتهم الأصغر سنا. فهذه العلاقات تجسد عنفا كبيرا، بحسب بورديو. إن نظام القرابة الذي ينظمهم يتميز بوجود أحقية الابن والابنة البكر في الميراث. على عكس ما كان موجودا في جزء كبير من أوروبا في ظل النظام القديم، كان في هذه الجزيرة وريثان لكل أسرة. يرث البكر من الذكور جميع ممتلكات والده (منزل، أرض، طاحونة، مصلى خاص، إلخ) وترث البكر من الإناث من جميع ممتلكات والدتها. كان هذا النظام يسمح لخطين جنسانيين، الذكر والأنثى، منفصلين بوضوح، بالتكاثر من جيل إلى جيل اثناء إعادة إنتاج وضعهما الاجتماعي؛ حيث يتم نقل الميراث الجنساني (من الجنس نفسه) بطريقة متكاملة إلى الطفل من الجنس المقابل. أما الأبناء الآخرون، فيحرمون من الميراث. وتضطر أغلبية الإخوان الأصغر سنا إلى الهجرة. أما أغلبية الأخوات الأصغر سنا فيبقين عازبات مدى الحياة. يعملن كخادمات أو عاملات في الحقول بدون أجر للثنائي البكر (الأخ أو الأخت).

يمكننا وصف علاقات البكر (ذكرا أو أنثى) بالأصغر سنا بالأدوات المفاهيمية الماركسية: يستغل البكر من كلا الجنسين، وهم أصحاب وسائل الإنتاج (الأرض، إلخ) أخواتهم الأصغر سنا، ولأنهن مضطرات من أجل العيش، فإنهن يقدمن مقابل ذلك جهدهن في العمل (كأيدي عاملة). كان هذا الاستغلال شرسا بشكل خاص مقارنة بالاستغلال الذي وصفه ماركس في المجتمعات الرأسمالية. ففي هذه المجتمعات كان الراتب الذي يتقاضاه البروليتاري مقابل قوة عمله يسمح له على الأقل بتأسيس أسرة وإعالتها. كان للبروليتاريا أسلوبها المستقل في التكاثر البيولوجي. أما في مجتمع كارباثوس، فهذه العلاقات الاستغلالية لم تسمح للفتيات الصغيرات ببناء أسرة. وهذا يعني مدى تهميشهن الاقتصادي وكذلك العاطفي. هنا كانت المجموعة المهيمِنة من الأبناء البكر الذين، من خلال استنساخ أنفسهم، وازدياد أعدادهم بيولوجيا، ساهموا، في الوقت نفسه، في إعادة إنتاج المهيمَن عليهن، اللواتي هم في حاجة لخدماتهن.

في كلا النوعين من المجتمع، يتم إعادة إنتاج هيمنة المسيطَر عليهم، قبل كل شيء في المجال الاقتصادي. ولكن إذا كانت التبعية القانونية الاقتصادية للفتيات الأصغر سنا كافية لإجبارهن على العمل من أجل إخوانهن وأخواتهن البكر (بنفس الطريقة التي حكمت بها التبعية القانونية الاقتصادية للبروليتاريين، المُستَبعدين من الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، لتوظيف قوتهم العاملة)، فهذا لا يفسر سبب موافقة الأخوات الصغيرات على البقاء في القرية في ظل ظروف استغلال قاسية جدا. والسؤال:» لماذا لم يحذون حذو إخوانهن الذين فروا من الهيمنة العائلية وهاجروا القرية؟

لفهم هذا اللغز، يجب أن نترك موقف العالم الذي يحلل الأشياء بشكل موضوعي وعن بعد، كما يسميها بورديو «موضوعية»، وعلينا أن نهتم بالأخوات الأصغر أنفسهن، ونعتبرهن أشخاصا، لديهن مشاعر وإرادة، ونتوجه إلى تجربتهن الحية.  ونتساءل كيف ينظرن إلى أنفسهن وكيف يعشن أوضاعهن. يبدو أنهن لم يرين استغلالهن بهذه الطريقة (فهن، إذن ضحايا ما يسميه الماركسيون ظاهرة الوعيِ الزائف)، يعشن حياتهن ويعتقدن بأن مصيرهن أمر مسلم به.

إخفاء علاقات الهيمنة والاستغلال

يمكننا الآن إعطاء محتوى دقيق للمفهوم الذي انطلقنا منه. يشير العنف الرمزي إلى كل ما جعل في هذا المجتمع إخفاء علاقات الهيمنة والاستغلال ممكنا على هذا النحو؛ وبشكل أعم، كل ما جعل الفتيات الأصغر سنا (بصرف النظر عن التبعية القانونية والاقتصادية الصارمة) خاضعات، يعشن مصيرهن كأمر طبيعي، أي شرعي.

هناك، أولا، الوزن الهائل للتقاليد. فهي مصدر قوي لإضفاء الشرعية على التعسف في جميع مجتمعات ما قبل الرأسمالية، (وما زالت قوية في مجتمعاتنا التقليدية وتتجلى في زواج أبناء العم مثلا). يكفي أن يكون هذا السلوك موجودا في الذاكرة الحية ليبدو شرعيا. فالفتيات الأصغر سنا يدركن بالكاد تعسف مصيرهن. لأنه، في جميع الأوقات، هو نفس السلوك المتداول والمتعارف عليه. وبتعبير أدق، كن يجدن صعوبة في إدراك استغلالهن على هذا النحو، ولكي يتمكن من أن يقلن لأنفسهن «أنا مستغلَّة»، يجب عليهن أولا التفكير في مقارنة الأجر الذي يتلقينه مع العمل المقدَّم. من الضروري أن يكن قادرات على الحساب بمنطق اقتصادي صارم. كان الأمر مستحيلا هنا، لأن الفتيات لم يتلقين أي أجر على عملهن. وغياب دفع الأجور مقابل أعمالهن منعهن من التفكير من منظور اقتصادي بحت، وبالتالي منعهن من إدراك استغلالهن. وهذا يرجع أيضا إلى نظام القرابة الذي نقش في ذهنهن وبعمق فكرة دونيتهن. بحيث يرون أن مصطلح «دولا» ويعني عبدة، كان يُستخدم وبسهولة للإشارة إلى الأخوات الأصغر سنا؛» i doula tis Ernia” « أي عبدة إرنيا. كما كان يُعتقد ان الأخوات والإخوان الأصغر سنا هم (apospori)؛ منتج السائل المنوي الجنسي ذي النوعية الرديئة.

لقد أدركت النسويات أن العمل الذي تنفذه هؤلاء الفتيات لا يُدرك أبدا وفقا لمنطق اقتصادي بحت. فهذه الخدمات التي هي اقتصادية بشكل موضوعي وتتم داخل هذه القرية (هنا عمل الفتيات)، تخضع تلقائيا لعملية تحويل حقيقية؛ فإنها تتحول إلى إشارات وإثباتات على الإخلاص أو المودة أو الحب. فإذا كانت مؤسسة الأسرة قد لعبت دورا أساسيا في هذا العنف الرمزي تجاه الفتيات الأصغر سنا، فإن عدم تقدير عملهن اقتصاديا هو إنكار اقتصادي بحد ذاته وهو الذي ساهم في عدم وعيهن بالاستغلال الاقتصادي الذي كن ضحاياه.

في حالة العنف الرمزي، بحسب بورديو، كانت المشكلة الاجتماعية ( ولكن السياسية أيضا) التي يتعين حلها هي: لماذا يوجد تمرد قليل في عالم ما زال يتسم  بالكثير من عدم المساواة والظلم، كما يتضح من علاقات الهيمنة و/أو الاستغلال بين الطبقات الاجتماعية، بين الرجال والنساء، بين الأبناء البكر والأبناء الأصغر منهم سنا (في المجتمعات ذات الحقوق المكتسبة للأبناء البكر)، بين سكان الحضر والفلاحين، بين الملك والشعب ... إلخ.

الجواب الأول على هذا السؤال: يمكن لِمن هم في موقع مهيمِن استخدام القوة الجسدية البسيطة أو المسلحة لمنع أي تمرد. فإن الدولة في مجتمعاتنا (Weber) تحتكر الممارسة المشروعة للعنف الجسدي. نحن نعلم أنه ليس من غير المألوف أن تستخدمه  لإخماد التمردات الاجتماعية وبالدم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر

de Bernard Vernier, «Violence Symbolique », Pierre Bourdieu, les champs  la critique, BPI en actes, Bibliothèque Centre Pompidou, Paris, 2004. pp. 21-42.

عرض مقالات: