يتزامن تراجع العولمة مع انهيار اقتصاد الدول المثقلة بالعجز المالي، مما يؤدي بدوره إلى انخفاض القيمة الحقيقية للديون الضخمة لمراكز الليبرالية الجديدة. ويبدو ان الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية الشديدة، التي دمرت في عصر الليبرالية الجديدة، أجزاء كبيرة من دول الأطراف، في شكل أزمات ديون وانهيارات اقتصادية، باتت تقترب من بلدان المركز. ولهذا، فإن عملية الأزمة التي كانت تزحف، منذ الثمانينيات، على دفعات من الأطراف إلى المراكز، ستصل إلى نقطة نهايتها المنطقية، إذا لم تتوفر للنخبة الرأسمالية نماذج أخرى لتأجيلها.

لم تعد الولايات المتحدة وحدها، تئن تحت وطأة عبء عبثي للدين الخاص والعام، وتواجه الهاوية الاقتصادية، نتيجة للمتغيرات الضرورية في أسعار الفائدة، بل إن اقتصادا معتمدا بشكل أساسي على التصدير، كما هو الحال في ألمانيا، يتأثر بإقتصاد بالعجز العالمي (فوائض تصدير سلع بالديون)، أي تصدير للديون في الواقع، ويتضرر الآن بشدة من جراء تراجع العولمة.

وهكذا، بسبب النوعية الجديدة للأزمة، يبدو للوهلة الأولى، أن الاتجاه الذي ظهر بالفعل في المرحلة الأخيرة من عصر الليبرالية الجديدة، يسير نحو لحظة مركزية في فترة الأزمة الجديدة، فالدولة التي تدخلت كفاعل اقتصادي، وعملت على تحقيق إستقرار ما في السنوات الأخيرة، عبر حزم التحفيز الاقتصادي والطباعة المفرطة للنقود كجزء من آخر فقاعة للسيولة الكبرى، يمكن أن ترتقي لتصبح الكيان الاقتصادي المهيمن. 

كانت الدولة الرأسمالية، في شكلها المبكر بمثابة المبادر الأهم لانطلاق عملية الاستغلال غبر توظيف راس المال، حيث عملت في أوقات الحروب والأزمات، كفاعل اقتصادي مركزي. غير أن الدولة لم تكن بديلاً عن السوق، كما يصورها غالبا النقد المحدود للرأسمالية، بل هي مصحح ضروري لديناميكيات السوق العمياء، التي تميل إلى التدمير الذاتي. فبمجرد أن تهز التناقضات المتأصلة في رأس المال، أسس النظام في أيام الأزمة أو الحرب، تتدخل الدولة، التي هي دائما رأسمالية، لتحقيق استقرار النظام. وكانت المرة الأخيرة لذلك خلال فترة الأزمة والحرب في الثلاثينيات. وكذلك إبان ازمة 2007 / 2008 المالية. ولهذا، تتصاعد، في ظل أزمة المناخ والحرب، أصوات الرأي العام المطالبة، بتعزيز رأسمالية الدولة، واقتصاد الحرب، اي المطالبة بدور أكبر للدولة.

لا ينبغي ان ينحصر دعم الدولة “للاقتصاد” فقط، في برامج التحفيز الاقتصادي، وبناء البنية التحتية الجديدة “الايكولوجية “ وطباعة النقود، كما هو في المرحلة الأخيرة من الليبرالية الجديدة؛ بل يجب أن تكون سيطرة الدولة ممكنة،  في أوقات الازمات، على البحوث الأساسية باهظة التكاليف، ودعم الاستهلاك والإنتاج، وتنظيم توزيع السلع. إن قرارات الدولة الإستراتيجية في التنمية الصناعية هي بالفعل جزء من السياسة البرجوازية. يجري هذا، على سبيل المثال، في جمهورية ألمانيا الاتحادية في شكل تشجيع “أبطال الصناعة” الذين من المفترض أن يتمكنوا من غزو الأسواق العالمية بدعم من الدولة، (هنا، أيضا، يتبع الغرب خطوات الصين وروسيا). كما يمكن توقع تأميمات متكررة كرد فعل على الأزمات المقبلة، لا سيما في قطاع البنية التحتية المتعثر والمعرض للأزمات في الرأسمالية المتأخرة.

إن هذا الدور الضروري للدولة بصفتها “مدير أزمة” يتقوض بسبب العولمة المنهكة، التي تحركها السوق المالية لاقتصاد العجز في عصر الليبرالية الجديدة، والتي نتيجة الديون المذهلة والأسواق المالية المحمومة والسرعة القصوى لتصاعد التضخم  ، تقود  السياسة إلى فخ الأزمة والى طريق مسدود.

للتقليل من عواقب الحرب في أوكرانيا، ينبغي لسياسة مواجهة الأزمة الرأسمالية خفض أسعار الفائدة وطبع النقود ودعم الاقتصاد ببرامج التحفيز الاقتصادي. الا أن السيطرة على التضخم، تتطلب رفع أسعار الفائدة! وفي الوقت نفسه سيكون من الضروري رفع أسعار الفائدة ومتابعة دورة تقشف متسقة. وهو ما سيقضي على سياسة الليبرالية الجديدة المتمثلة بتأجيل الأزمة في المركز عبر التمويل بالقروض، وستنتج عنه اضطرابات اقتصادية – اجتماعية شديدة، خصوصا في المراكز، وفي صفوف فئاتها الوسطى. ومع موجة الإفقار، ستتحول الوحشية التدريجية للمجتمعات الحضرية البرجوازية، المستمرة منذ عقود، إلى همجية مفتوحة، مدفوعة بمنافسة أزمة متصاعدة استثنائية على جميع المستويات.

إن التراجع الاجتماعي والسياسي للدولة المرتبط بالأزمة، سيختزل الدولة في دورها الأصلي كأداة للقمع. وهكذا فإن الموجة الجديدة من الأزمة ستؤدي الى رد فعل حكومي مماثل. وستظهر مساعي الدولة الاستبدادية في الليبرالية الجديدة، على شكل تفكيك للديمقراطية وتوسيع لدولة الرقابة. وكان الرئيس الأمريكي اليميني الشعبوي ترامب، مجرد مقدمة في هذا الصدد. وفي المانيا أيضا، من المرجح أن تتجلى الإمكانات الفاشية الكامنة في الظهور بشكل كامل، عندما يتوقف التأثير الحضاري لفوائض التجارة الخارجية المرتفعة، التي تجبر نخب الإدارات العليا في ألمانيا على أخذ الرأي الأجنبي (البلدان المستوردة) بنظر الاعتبار، والذي يختفي في سياق الأزمة.

تجعل الحرب في أوكرانيا حاليا، التأثير المتبادل للازمة، الوحشية وردود فعل الدولة الاستبدادية، واضحاً جدا. لوكاشينكو، الذي تمت إهانته مرة باعتباره “ديكتاتور أوروبا الأخير”، يبدو أنه رائد لكل المساعي الاستبدادية التي تجري الآن في الاتحاد الأوروبي، في المجر، بولندا، وفي الناتو، وخصوصا في شكل سلطة الفاشية الإسلامية في تركيا، وفي أوكرانيا نفسها، التي تسير على خطى روسيا باعتقال المعارضين وحظر الأحزاب.

من الخطأ الجوهري تفسير الحرب في أوكرانيا على أنها صراع بين الديمقراطية والديكتاتورية، وهذا واضح من خلال النظر إلى الوضع في وارسو أو بودابست أو أنقرة. لذلك من المرجح أن تتميز مرحلة الأزمة الجديدة بالصراع على الموارد من قبل الأنظمة الاستبدادية أو الفاشية بما هو أكثر من اعتبارها نسخة جديدة من “الحرب الباردة”. ومع ذلك، فإن هذا الاتجاه نحو إدارة الأزمات بطريقة استبدادية، الذي هو في نهاية المطاف فاشية مكشوفة، هو ظاهرة سطحية لا ترتبط إلا بشكلها الخارجي بفاشية القرن العشرين.

لقد أتاحت التعبئة الشاملة والاستبدادية خلال الحرب العالمية الثانية، إمكانية حدوث طفرة الفوردية في سنوات ما بعد الحرب، اذ لم يكن هناك تقريبا أي تسريح للشغيلة بعد نهاية الحرب، وأفسحت مكننة الإنتاج الضخم للدبابات، المجال لتطوير تقنية تصنيع السيارات في المجتمعات الرأسمالية. غير أن نظام تراكم مماثل، يتم فيه استخدام جماهير من العمالة المأجورة في إنتاج السلع، لا يلوح في الأفق هذه المرة. ان لحظة الفاشية الحالية، باعتبارها سلطة المضاربين، أي جماعات الغنيمة المتنافسة، كما مبين بادراك في النظرية النقدية، أصبحت مهيمنة في ازمة النظام الراهنة، فليس هناك سوى هاوية الإفراط الكلي في المديونية مع بداية كارثة المناخ، مما يعطي للوظيفة الموضوعية للفاشية، شكل أزمة إرهابية ذات مسار مختلف من أشكال الحكم الرأسمالي.

يسير التشكل الاستبدادي للدولة، الذي أصبح غنيمة للمضاربين بشكل متزايد، جنبًا إلى جنب مع تآكلها الداخلي، وهو ما بدأ بالظهور الفعلي في المانيا، خصوصا فيما يتعلق بالنشاط اليميني المتطرف المتزايد في أجهزة الدولة.

وفي أوكرانيا، تقدمت هذه العملية بشكل أكبر، فبعد الإطاحة بالحكومة (2014) واندلاع الحرب الأهلية، أفسحت سلطة الأوليغارشية المجال أمام تشكيل ميليشيا يمينية متطرفة، كانت قادرة، في الفترة التي سبقت الحرب، على تحدي الدولة الأوكرانية علنا.

لقد كشف المسار الكارثي للغزو الروسي أيضا إلى أي مدى تقدمت ميول تآكل الدولة داخل أوليغارشية الدولة الروسية، حد تأثر الجيش، الذي يمثل دعامة أساسية لسلطة الكرملين. ويشير الانقسام داخل اليمين الألماني، على أساس اصطفافه مع طرفي حرب أوكرانيا، على وجه التحديد، إلى الوجود المطلق لهذه الاتجاهات الاستبدادية في هذا الصراع.

وقدم الربيع العربي مثالًا ساطعا على هشاشة الحكم الاستبدادي في الرأسمالية وتحول الديكتاتورية إلى حالة شاذة، حيث انهارت خلاله الديكتاتوريات التي كانت تبدو صلدة، مثل تلك الموجودة في سوريا وليبيا، وأطلقت العنان للقوى الكامنة فيها. إن الهياكل الاستبدادية ليست علامة على القوة الداخلية للنظام الرأسمالي، الذي يفضل الاستغلال الأمثل للأجور في إطار الديمقراطية الرأسمالية، بل تمثل شكلاً لأزماته، حين لا يستطيع تنظيم عملية توظيف رأس المال بكفاءة، كما هو معتاد في خطاب مراكز النظام العالمي، والمتعلق بطرق تحسين النمو وزيادته، والذي يتطلب، درجة معينة من الاستقرار الاجتماعي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

* اعدت هذه المادة عن محور من بحث للكاتب بعنوان: لماذا لن يكون هناك نظام مستقر بعد انتهاء الحرب في أوكرانيا؟ نشر في 31 ايار 2022 في موقع (شيوعيون) الألماني