أهمية أي فيلسوف أو مفكر أو عالم تقاس بالدرجة الأولى بالإضافة التي يقدمها للمنجز الإنساني في الحقل الذي يشتغل فيه، بإيجاد أو اكتشاف ما لم يكن قائماً أو معروفاً قبله، أو تطوير هذا القائم والمعروف وتعميقه، بحيث يصح القول إن ما بعد الشخص المعني، فيلسوفاً كان أو مفكراً أو عالماً، ليس هو نفسه ما قبله، وإن من يأتون بعده سينطلقون مما أضافه ويبنون عليه جديداً، أو هكذا يفترض.

وحتى بافتراض أن من أتوا بعد هذا العالم أو الفيلسوف أو المفكر، أو حتى مجايليه، لم يتفقوا معه في ما قاله، لن يكون بوسعهم تجاهل ما أتى به، فالسجال معه حول إضافاته المفترضة يتحول إلى رافعة جديدة للمعرفة، وما كان المختلفون معه سينخرطون في مثل هذا السجال لولا ما طرحه من آراء واستنتاجات لا يجدون أنفسهم متفقين معها، وحين يشرحون لماذا هم عير متفقين معها، يتعين عليهم أن يقدموا رؤى بديلة يرونها هي الأصح، وبهذا تغتني المعرفة وتتطور.

لو أخذنا شخصية بوزن عبد الرحمن ابن خلدون، الذي لم تعد أهميته تقتصر على فضاء المعرفة والثقافة العربيين وحدهما، فأهميته، كرائد من رواد عالم الاجتماع، إن لم يكن رائده الأول، تجاوزت بكثير نطاق ثقافتنا لتلج ثقافات العالم من أوسع الأبواب، فإنه يمكن أن يعد نموذجاً للعالم أو المفكر الذي أتى بما لم يأت به سابقوه، أو منحه مضموناً فكرياً لم يكن له فيما مضى.

وأعطى الباحث اللبناني القدير فردريك معتوق مثالاً على ذلك بمفهوم العصبية الذي صاغه ابن خلدون، فالعصبية كمفردة في اللغة ليست من اختراع ابن خلدون، لكن المفردة هي غير المفهوم حين يصبح معرفياً أو فلسفياً، وينقل معتوق عن ابن منظور تعريفه لهذه العصبية بالتالي: «عصبة الرجل بنوه وقرابته لأبيه وقومه الذين يعصبونه ويتعصب بهم ويتعصبون له ومعه».

لكن الشقة واسعة جداً بين هذا التعريف «اللغوي» المحدود، حتى لو كان صحيحاً، وبين العصبية وقد غدت عند ابن خلدون مفهوماً أو مقولة معرفية، وهذا ما كان سيحدث لولا أن العرب كانوا قد بلغوا يومها مراتب علمية متقدمة، وهذا درس بليغ لناكري ثقافتهم وحضارتهم من بني قومنا وجلدتنا، الذين يروق لهم حصر المعرفة في الغرب وحده، كأن الشرق، وشرقنا العربي في القلب منه، قفر من أي معرفة.

وكي نفهم هذا جيداً يتعين الوقوف عند قول ابن خلدون نفسه: «إن العلوم تكثر حين يكثر العمران وتعظم الحضارة»، ويسعفنا ذلك ليس فقط في فهم الصفحات المشرقة في تاريخنا، وإنما أيضاً في قراءة حاضرنا العربي البائس.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

صحيفة “الخليج” – 8 شباط 2022

عرض مقالات: