من الواضح أن مسألة تركيبة الطبقة العاملة ذات أهمية كبيرة اليوم، خاصة لأنها تغيرت بشكل كبير للغاية في العقود الأخيرة. في احدى حواشي الصفحة الأولى من (البيان الشيوعي)، يصف إنجلس البروليتاريا بأنها “طبقة العمال المعاصرين الذين يعيشون طالما أنهم يستطيعون العثور على عمل فقط، والذين يجدون عملاً طالما أن عملهم يزيد رأس المال فقط”. هذا التعريف يتطلب دوما بعض التحديد والتوسيع. من ناحية لاستبعاد الذين يبدو أنهم يكسبون لقمة العيش من بيع قوة عملهم ولكنهم في الواقع مديرون موظفون ويتقاضون أجورا أعلى من قيمة عملهم حتى يتمكنوا من التحكم في عمل الآخرين. ومن ناحية أخرى، يجب شمول أفراد الأسرة الذين يعتمدون على دخل عامل بأجر، وكذلك العاطلين عن العمل الذين يشكلون جزءًا من الجيش الاحتياطي للصناعة.

وبهذه الإضافات، أعتقد أن تعريف إنجلس لا يزال راهنا، بشرط أن نضعه في النظرية الماركسية للاستغلال والصراع الطبقي. إن الاستغلال (ينتج فائض القيمة) هو الذي يغذي العداء بين البروليتاريا والبرجوازية ويصنف الأجراء في طبقة متميزة. لقد بلغ عديد الطبقة العاملة في وقت كتابة (البيان الشيوعي) عام 1848 قرابة 20 مليونا فقط يتركزون في شمال غرب أوروبا (وفي البداية في أمريكا)، بينما هناك اليوم قرابة 1.5 مليار عامل في جميع القارات، وفي كل بلد في العالم تقريبا.

وحتى في الدول الصناعية القديمة و”المتقدمة” مثل إنكلترا، فرنسا، والولايات المتحدة، لا تزال الطبقة العاملة تشكل غالبية واضحة من العاملين ومن مجموع السكان ايضا. ومع ذلك، فإن السؤال الذي أود طرحه، والذي أعتقد أنه يتطلب الدراسة من قبل الماركسيين، هو ليس الحجم العددي للبروليتاريا، ولكن طابعها وهيكلها كقوة نضالية وفاعل ثوري محتمل.

ان التمييز مهم. في إنكلترا الفيكتورية (نسبة الى الملكة فكتوريا)، كانت اكبر مجموعة بين العاملين بأجر، هم خدم المنازل، ولكن عندما تصاعد النضال، على سبيل المثال أثناء الإضراب العام لعام 1842، كان عمال المناجم والنسيج والغزل والخزف وعمال المطاحن وعمال المصانع في المقدمة وحددوا الاتجاه؛ بين عامي 1888 /1889 كانت “فتيات الكبريت” وعمال الموانئ وعمال صناعة الغاز هم الذين حددوا الاتجاه. وفي سنوات 1917 - 1921، واثناء أكبر موجة ثورية من النضال البروليتاري في التاريخ، كان عمال المعادن هم الذين شكلوا “الطليعة” سوية مع عمال المناجم وعمال الموانئ والسكك الحديدية، من بتروغراد إلى برلين ومن تورين إلى شيفيلد الانكليزية.

الماركسية والطبقة اليوم

أين نقف اليوم؟ الشيء المؤكد: في العالم الصناعي المتقدم اليوم ان اوساط أخرى من الطبقة أصبحت هي “الطليعة”. في إنكلترا، على سبيل المثال، لم يعد عمال المناجم أو عمال الشحن والتفريغ أو عمال السيارات الجزء الأكثر تقدما من الطبقة العاملة لسبب بسيط هو أن هذا الجزء من الطبقة لم يعد موجودًا الآن. دعونا نرى أي مجموعة من العاملين بأجر تتصدر المشهد في السنوات الأخيرة؟

في الولايات المتحدة، كانت أكبر الإضرابات وأكثرها عنفا في هذا العام (2019) هي إضرابات المعلمين الضخمة. ومن الإضرابات الأخرى البارزة، اضراب عاملات ماكدونالدز ضد التحرش الجنسي وإضرابات السجناء ضد العمل غير المأجور. وفي الهند، عام 2016، ساهم 160-180 مليون من عمال القطاع العام في إضراب عام لمدة 24 ساعة ضد الخصخصة والسياسات الاقتصادية للحكومة. تم الترحيب به باعتباره أكبر اضراب في التاريخ.

في إسبانيا، أضرب 6 ملايين ضد عدم المساواة بين الجنسين والتمييز في اليوم العالمي للمرأة. كل هذا لا يزال بعيدا كل البعد عما بدا عليه النضال في القطاع الصناعي في اعوام 1889، 1913، 1919، و1973. بالطبع يمكن الرد على دليلي الذي قدمته هنا، كونه ببساطة انطباعيا. هذا صحيح، وهذا بالضبط ما أريد توضيحه. نحن بحاجة إلى تحليل ماركسي لمن هم البروليتاريا الحديثة، وأين نجدها، وما هي المجالات الرئيسية لنضالها، وسلطتها المحتملة؟

يجب أن يكون هذا التحليل على المستوين الأممي والوطني في آن. نحن بحاجة إلى رؤية أممية عامة، على ان لا تغيب الخصوصية الوطنية عنها. لا يزال الجزء الأكبر من الاشتراكيين يعمل في المستوى الوطني. لم يعد عمال المناجم عاملاً مهما في الصراع الطبقي في إنكلترا أو أيرلندا، وهذا لا ينطبق تلقائيا على جنوب إفريقيا أو الصين. لقد كان هناك نقاش نظري مديد بين الماركسيين حول ما إذا كان موظفو المكاتب بروليتاريين أو ينتمون إلى البرجوازية الصغيرة أو الطبقة الوسطى. هذا يحتاج إلى حل. في الممارسة العملية، يعبر جميع الاشتراكيين والنقابيين الواعين تقريبا عن تضامنهم مع المحاضرين والأساتذة الجدد، لكن الرأي القائل بأن مثل هؤلاء الأشخاص ينتمون إلى الطبقة الوسطى يستمر ويضر بوحدة الطبقة العاملة ويحد من قوتها المحتملة. حتى بين الذين يقبلون انتماء المعلم  إلى الطبقة العاملة “نظريًا”، غالبا ما تبقى صورة الثقافة النمطية البالية راسخة، ومعها فكرة أن دورهم في النضال ثانوي.

طابع الطبقة

هناك ثلاثة جوانب مهمة تحتاج إلى تحليل دقيق من أجل “استكشاف” ورسم “خريطة” لمساحات الطبقة العاملة المعاصرة. الأول هو التطور الحديث لشخصية الطبقة العاملة العالمية. لقد ظل الاشتراكيون ينظرون الى طابع الطبقة العاملة العالمية، كما هو في (البيان الشيوعي)، لكن التغيير الذي طرأ في العقود القليلة الماضية، بهذا الخصوص كان نوعيا. في السنوات العشرين (1993 -2013)، زاد عدد العاملين بأجر بمقدار 589،814 مليون عامل (تمثل 60 في المائة من أرقام عام 1993). ومتوسط الزيادة في عديد الطبقة العاملة يبلغ 29 مليون أجير سنويا. بالإضافة إلى ذلك، يتركز النمو في العمل المأجور في العالم النامي. في البلدان الصناعية المتقدمة، ارتفع عدد العاملين بأجر تدريجيا من 345 مليون عامل (1993) إلى 410 مليون عامل (2013). في البلدان النامية، كان النمو هائلاً، من 640 مليون (1993) إلى 1165 مليون (2013). القوى العاملة بأجر في العالم النامي اليوم أكثر من القوى العاملة بأجر في العالم قبل عشرين عاما! في عام 2013، كان هناك قرابة 445 مليون شخص بأجر في شرق آسيا، أي أكثر من جميع البلدان الصناعية المتقدمة مجتمعة.

 أكبر طبقة عاملة في العالم هي بالطبع في الصين، تليها الهند، الولايات المتحدة إندونيسيا، والبرازيل. وحتى بلدان فقيرة مثل باكستان وبنغلاديش لديها عمال بأجر أكثر من إنكلترا أو فرنسا. في 8 / 9 كانون الثاني 2019، أضرب ما بين 150 و200 مليون عامل في الهند فيما عد أكبر إضراب في التاريخ. ان فكرة الرؤية العالمية التي تركز على الطبقة العاملة الحضرية هي مركزية أوروبية قديمة تماما. ان التدويل المتزايد للطبقة العاملة ليس عابرا للدولة فقط، بل يجري أيضا داخل الدول. يشير كيم مودي في كتابه “على أرض جديدة” إلى “التنوع المتزايد” للطبقة العاملة الأمريكية. شكّل السود والآسيويون واللاتينيون أكثر من ثلث سكان الولايات المتحدة في عام 2010، مقارنة بنسبة 20 في المائة في عام 1980.

تشكل هذه المجموعات الثقافية والعرقية الآن نسبة كبيرة ومتنامية من الطبقة العاملة. كان السود، واللاتينيون، والآسيويون، بما في ذلك المهاجرون، يمثلون قرابة 15 -16 في المائة من عمال التصنيع والنقل والخدمات في عام 1980. ويشكلون الآن قرابة 40 في المائة في كل من هذه المجموعات المهنية المتنوعة على نطاق واسع. لذلك تنتشر هذه المجموعات عبر مجموعات مهنية مختلفة إلى حد أكبر بكثير مما كانت عليه في الماضي.

إن زيادة التنوع الآن، صعودا ونزولا، صحيح بالنسبة لتركيب الطبقة العاملة في العديد من البلدان، حتى تايوان لديها الآن 700 ألف عامل مهاجر. يجب تحليل هذه التفاصيل وتأثيراتها. وإلى جانب هذا التنوع، هناك تأنيث متزايد للطبقة العاملة. تشكل النساء الآن قرابة 40 في المائة من العاملين بأجر في جميع أنحاء العالم. في العديد من البلدان، وليس دائما في البلدان التي قد نتوقعها، تكون النسبة أعلى من ذلك بكثير. ان من السهل الحصول على هذه الأرقام وإدراجها في قوائم، ولكن ما يهم حقا هو تضمينها في تحليل للصراع الطبقي، بأبعاده الاقتصادية والأيديولوجية والسياسية. هناك شيء واحد واضح: يجب دفن الصورة القديمة لـ “البروليتاري” كعامل صناعي ذكر، المتأصلة في وعينا الجمعي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*النص اعلاه جزء من بحث بعنوان “مستقبل الماركسية” للكاتب والناشط الماركسي البريطاني جون مولينو نشر في 9 أيلول 2019 في موقع “ماركس 21” الألماني.

عرض مقالات: