ان مقولة الضرورة والحتمية عند ماركس ليست احادية الجانب، وليست لاهوتية، او ميكانيكية او اقتصادية، بل إنها تتضمن القول بالعوامل المتعددة المتفاعلة والتي يلعب الوعي الانساني والممارسة الانسانية دورا اساسيا بينها، وان كان للعملية الانتاجية الدور الحاسم في نهاية المطاف. أما من يصفون نظرية ماركس بتلك الحتمية الميكانيكية أو اللاهوتية، فهم من خصوم الماركسية (وبعضهم من اشياعها كذلك!)

ليس معنى هذا انتقاء القوانين العامة، ولكن القوانين العامة هي ثمرة الدراسة العينية للوقائع العينية، التي يمكن ان نرتفع بها بالبحث والدراسة الى التعميم الى قوانين عامة التي بدورها قد تختلف في دلالتها باختلاف الملابسات والاوضاع الاجتماعية والتاريخية، أي بتعبير آخر انها لا تُفرض مسبقا ولا تكون لها صفة الاطلاقية والابدية، وانما تكون موضوع دراسة وبحث باختلاف الملابسات والاوضاع.

والواقع ان هذا الفهم الاطلاقي للمادية الجدلية يكمن وراء فهم اطلاقي لمفهوم آخر هو مفهوم الضرورة والحتمية عند ماركس. يقول ماركس في النص المعروف في مقدمة كتابه “مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي” ان الناس في انتاجهم الاجتماعي لوجودهم يدخلون في علاقات محددة ضرورية مستقلة عن ارادتهم، علاقات انتاج تتفق مع درجة التطور المحدد لقواهم المادية الانتاجية. ان مجموع علاقات الانتاج هذه تكون البنية الاقتصادية للمجتمع والاساس المادي الملموس الذي يقوم عليه الاساس الفوقي القانوني والسياسي والذي ترتبط به اشكال الوعي الاجتماعي المحددة، ان نمط الانتاج المادي هو الذي يحدد ويشرط سيرورة الحياة الاجتماعية والعقلية عامة. ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم وانما العكس، ان وجودهم هو الذي يحدد وعيهم”.

ان بعض القراءات الجامدة الاطلاقية الشكلية لهذا النص تسارع الى القول بان الوجود الانساني محكوم ومشروط بشكل حتمي بالواقع المادي. وهذا الواقع المادي هو الذي يحدد المسار التاريخي الانساني كله.

على ان القراءة الموضوعية لهذا النص، تكشف منذ بدايته ان انتاج الناس لوجودهم الاجتماعي هو الذي يفضي الى تحقيق علاقات مستقلة عن ارادتهم الفردية. وهذا لا ينفي اولا مشاركتهم في شكل هذه العلاقات وانما يكون بشكل غير ارادي، أي بشكل موضوعي. وهنا تلتقي الممارسة الذاتية بالتشكل الموضوعي، الذي سوف يعود بدوره الى التأثير في الوعي الذاتي، والممارسة الذاتية، بما يفضي بدوره الى اشكال اخرى متطورة من العلاقات.

أي هناك تفاعل بين الذاتي والموضوعي، هناك ضرورة موضوعية تتحقق بالممارسة الاجتماعية، على ان هذه الضرورة الموضوعية يمكن ان تتغير بالوعي الذاتي بها. ولهذا يقول ماركس بوضوح ساطع “ان الناس هم الذين يصنعون التاريخ” ولقد فسر ذلك قائلا “حتى الآن فعلوا ذلك بغير وعي خاضعين لقوى اقتصادية واجتماعية لا يفهمونها ولكنهم قادرون الآن على الوعي”، بها هذه – في تقديري – القيمة الثورية التاريخية الاساسية للماركسية.

ان مقولة الضرورة والحتمية عند ماركس ليست احادية الجانب، وليست لاهوتية، او ميكانيكية او اقتصادية. ان المثل الذي يضربه ماركس للتعبير عن تغير نمط الانتاج بين مرحلة واخرى، بالطاحونة اليدوية، وبطاحونة الهواء، لا تدل على ان العامل الميكانيكي او الاقتصادي هو العامل الوحيد المحرك للتاريخ. ولم يقل ماركس – كما اوضح انجلز – في دراسة خاصة، ان الاقتصاد هو العامل المحدد الوحيد للسيرورة التاريخية.

ان مقولة الضرورة والحتمية تتضمن القول بالعوامل المتعددة المتفاعلة والتي يلعب الوعي الانساني والممارسة الانسانية دورا اساسيا بينها، وان كان للعملية الانتاجية – لا الاقتصاد بالمعنى الميكانيكي الآلي – الدور الحاسم في نهاية المطاف، وهذا ما يجعل مفهوم الضرورة والحتمية في الفكر الماركسي تكاد تكون، ان لم تكن، هي بالفعل مرادفة لمفهوم الامكانية. فالعالم في الماركسية لا يحكمه قانون من التطور الكلي الذي يتوجه نحو غاية معينة، فليس هناك شيء كامن في الطبيعة والتاريخ، أي نوع من العقلانية المحايدة التي تحكم الموجودات والاحداث الفردية وتوجهها توجيها احادي الاتجاه. ان ماركس يرفض بشكل قطعي هذه الرؤية القدرية للتاريخ. يرفض القول بتاريخ يتبع غاية خاصة مستقلة عن غايات يريدها الناس، فهذه الغاية لن تتحقق الا بمشاركة واعية وارادية للناس الذين يستطيعون في الوقت نفسه تحقيق غاياتهم الفردية في ضوء ادراكهم للظروف الموضوعية القائمة. ان سيرورة التاريخ عند ماركس يتحرر فيها الناس بانفسهم من الضغوط والقيود الطبيعية والاجتماعية، انه تحقيق للذات وتفتح متطور لا نهاية له، وليس مغلقا على غاية محددة.

حقا، ان كل شيء يتحقق وفق قوانين محددة، وفق علل محددة، وهذا ما يمكن تسميته بالحتمية العلمية، التي تستبعد كل ضرورة مفارقة من خارج التجربة الانسانية، وكل علية غائية نهائية. ان ما يميز هذه الحتمية هي انها لا تستدعي الا الاسباب والعلل الفاعلة والشروط المحددة في التجربة، والعلل والشروط المحددة لها، وهي علل وشروط انسانية واجتماعية وتاريخية وموضوعية اساسا.

وليست القوانين العامة الا تعميمات لهذه القوانين المحددة المؤسسة على هذه العلل والشروط. ولهذا فهي تختلف وتتنوع باختلاف الاوضاع والملابسات. وهذا ما ينفي عنها جمودها ونمطيتها المطلقة، ويعطي لها دلالات خاصة. على ان هذه القوانين العامة نتكشفها خلال دراسة تجلياتها العينية المختلفة. ولعل من ابرز هذه القوانين العامة المعبرة عن العلل والاسباب الفاعلة، هو الصراع الطبقي، والعلاقة بين قوى الانتاج وعلاقات الانتاج، الدور المحرر للطبقة العاملة والمنتجة عامة.

ان الوعي بهذه القوانين وهذه العوامل والعلل الموضوعية في التاريخ وتأسيس الفاعلية الانسانية عليها هو الذي ينتج تحقيق الحرية الحقيقية.

لهذا لا سبيل الى القول بحتمية قدرية في الماركسية.

والواقع ان الذين يصفون نظرية ماركس بهذه الحتمية هم من خصوم الماركسية ومن اشياعها كذلك. فالخصوم يتخذون من هذا الفهم ذريعة لاتهام الماركسية بالمادية الجامدة الميكانيكية غير الانسانية.

اما الاشياع فيتخذون هذا الفهم لتبرير ممارساتهم الارادية السياسية التي يفرضونها فرضا على المجتمع والناس والواقع، في تعارض مع ضرورات الواقع وارادات الناس.

ان جوهر نظرية ماركس هو أبعادها العلمية والفلسفية والسياسية العملية التي تتضافر لتحقيق ثورة جذرية في التاريخ بفضل ظهور الطبقة الاجتماعية المؤهلة لتحقيقها وهي الطبقة العاملة. وهي ثورة ضرورية وممكنة في وقت واحد، بل لعل امكانها مرتبط بأساسها الضروري، وهي ثورة تسعى لالغاء استغلال الانسان للانسان والقضاء على كل قهر سياسي، وذلك بالغاء الملكية الفردية لوسائل الانتاج والانتقال بالتاريخ من ملكوت الضرورة الى ملكوت الحرية.

ولا يتم هذا بشكل ميكانيكي قدري، وانما بالممارسة النضالية الثورية التي تعي وتسيطر على الشروط الموضوعية للواقع الموضوعي.

ومع الثورة السوفييتية عام 1917 انتقلت هذه النظرية الماركسية من افقها النظري الى الممارسة الواقعية التأسيسية. وتحولت من ممارسة ثورية لانتصار ثورة الى سلطة ثورية منتصرة في سياق اوضاع سياسية واجتماعية اقتصادية وعسكرية وعالمية مختلفة، واصبحت الماركسية هي مصدر المشروعية لهذه الثورة ومرجعيتها الفكرية والعملية الاساسية.

لا اريد ان ادخل في تفاصيل هذه الاوضاع التي قامت السلطة الجديدة في سياقها. على ان هذه السلطة الجديدة كان من الطبيعي ان تسعى الى تكييف النظرية بحسب هذه الاوضاع تحقيقا لاهدافها العامة.

فماركس لم يقدم برنامجا عمليا للتحول الاشتراكي وانما قدم خطوطا عامة. ولقد استطاع لينين بان يقود عملية الثورة وان يحققها باقتدار عبقري في مواجهة الضرورات العملية والفكرية والتنظيمية التي فرضتها الاوضاع الخاصة والدولية، وكانت هناك ابداعات فكرية وعملية عديدة مثل نظرية قيام الاشتراكية في بلد واحد، ومثل نظرية اضعف الحلقات، ومثل الربط بين السلطة والكهرباء، أي التصنيع، ومثل الثورة الثقافية، ومثل نظرية حق تقرير المصير ومثل الدعوة للسلام العالمي، ومواجهة الحرب الاهلية والتدخل الامبريالي، ولكن لعل من ابرز الابداعات العملية في تقديري هو مشروع الـ Nep الذي سعى به لينين ان يردم الهوة بين الطبيعة الثورية للسلطة الجديدة وبين الواقع الاجتماعي البالغ التخلف، ربما اقترابا من رؤية ماركس الخاصة بقيام الاشتراكية في البلاد الرأسمالية المتقدمة، باعتبار ان الاشتراكية هي تتويج لاكتمال المرحلة الرأسمالية.

وبرغم الطابع المحلي لهذه المنجزات تدعيما للثورة، فان الثورة السوفييتية كانت ثورة ذات دلالة تاريخية انسانية شاملة، غيرت موازين القوى في العالم، لمصلحة الطبقات العاملة في العالم ولحركات التحرر الوطني في البلاد النامية.

ولكن مع تقديرنا للدور العبقري المبدع لقيادة لينين لهذه الثورة منذ مراحلها الاولى حتى قيام سلطتها، سواء في كتاباته النظرية او سياساته وممارساته العملية، فما اجدرنا ان نتساءل عن مدى الاضافة النظرية التي اضافها لينين الى الماركسية، بحيث يصح القول بالماركسية – اللينينية. لعلنا نذكر مقولة ماركس الشهيرة “لست ماركسيا” في مواجهة محاولات تحويل افكاره الى اكليشيهات جامدة، ونظرية نهائية. وما اذكر ان لينين جعل في حياته من منجزاته النظرية والعلمية رغم اهميتها اضافة نظرية كاملة الى الماركسية. وأتساءل:

هل حاول ستالين وهو الذي صاغ مفهوم اللينينية كاضافة نظرية الى الماركسية، ان يعطي لهذا المفهوم مشروعية وطنية للسلطة السوفييتية، وبالتالي لسلطته هو نفسه، فضلا عن اعطاء هذه السلطة السوفييتية مشروعية اممية؟!

اننا نستطيع ان نحدد المعالم النظرية التي صاغها ستالين لتأكيد هذه الاضافة النظرية للينينية الى الماركسية في الامور التالية: مسألة انتصار الثورة في بلد واحد، مسألة اضعف الحلقات، والنمو غير المتكافئ، وبناء الاقتصاد الاشتراكي، ودكتاتورية البروليتاريا، وحزب الطبقة العاملة، والمسألة الوطنية، ومسألة المستعمرات، ودراسته للامبريالية كأعلى مراحل الرأسمالية، الى غير ذلك، وهي بغير شك اضافات غنية فكرية وعملية الى رصيد النضال الثوري، وهي بغير شك عناصر نظرية واجرائية تعبر عن نظرية التجربة السوفييتية الثورية، وخاصة في بدايتها. وعندما اضافها ستالين الى الماركسية كمرجعية للثورة الاشتراكية عامة كاد يجعلها في الحقيقة المرجعية الاساسية لهذه الثورة، بل كاد يخفت الى جانبها الصوت الحقيقي للماركسية، لقد تحولت الماركسية في ثوبها اللينيني بمفهوم ستالين الى مذهب رسمي للحزب الشيوعي السوفييتي وللسلطة السوفييتية.

وهكذا تحولت (الماركسية) الى مؤسسة حاكمة هي المرجعية الاساسية والوحيدة في الشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والثقافية في الاتحاد السوفييتي، وتحولت المادية الجدلية، كما سبق ان اشرنا الى Dia Mat/E+ أي الى قواعد قانونية سلوكية فكرية للدولة والحزب، ابتداء من 1934 باعتبارها الفلسفة العامة التي تعبر عن القوانين الشاملة للمادية الجدلية ولسيرورة الطبيعة والتاريخ والفكر والحكم والمعيار الوحيد على صحة وصدق كل فكر فلسفي او علمي او اقتصادي او عملي عامة.

واصبحت مهمة العلماء استخلاص قواعد هذه الفلسفة القبْلية من الطبيعة والتاريخ باعتبارها المبادئ النهائية لحركة الواقع، ولمنهج المعرفة، واصبحت الـ Dia Mat بمثابة بوليس سياسي للحقيقة، بل تحولت المادية التاريخية الى رؤية تطورية اقتصادية نهائية للحركة التاريخية الاجتماعية ذات الاتجاه الواحد.

واصبحت هذه الـ Dia Mat وسيلة لتمرير وتبرير كل سياسات السلطة البيروقراطية التي اصبحت دكتاتورية على الحزب وعلى الطبقة العاملة نفسها. والاخطر من هذا ان اصبحت هذه السلطة السوفييتية بسلاحها النظري هذا هي المرجعية الوحيدة للحركة الشيوعية في العالم اجمع. وهكذا جُمدت الماركسية وانتهت كعلم وكممارسة وكفلسفة، واصبحت ادبياتها تلقينية تبسيطية مطلقة الصحة واليقين، بل تفرض نفسها فرضا اجباريا.

ولهذا نرى ستالين يقول في كتابه حول مسائل اللينينية: “اليست اللينينية تعميما لتجربة الحركة الثورية في كل مكان. اليست اسس نظرية وتكتيك اللينينية صالحة واجبارية لجميع الاحزاب البروليتارية في كل البلاد؟”

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*المفكر الماركسي المصري الذي مرت ذكرى رحيله الـ 13 يوم االعاشر من الشهر الحالي

عن “الحوار المتمدن” – 19 حزيران 2005

عرض مقالات: