تضافرت طريقة اسقاط النظام الدكتاتوري البغيض مع تداعيات الاحتلال، وانهيار الدولة، والتغييرات العميقة في علاقات القوى السياسية والمجتمعية، والتركة الثقيلة للدكتاتورية، لتشكل بمجموعها أوضاعا استثنائية فريدة في بلادنا، ولتفجر تناقضات وصراعات متنوعة ومتداخلة، سياسية وقومية وطائفية واجتماعية، تراكمت عناصرها ومسبباتها على مدى عقود سابقة، واتسعت واشتدت بوجود القوات الأجنبية، وقوى الارهاب القادمة من الخارج، وامتداداتها وحواضنها في الداخل،وبتأثير التدخلات الخارجية، الاقليمية والدولية.

وقد وضعت هذه التطورات، وحقائق الاوضاع الجديدة التي نشأت بعد 9 نيسان 2003، شعبنا أمام مهمة أساسية مزدوجة، يتلازم فيها الوطني مع الديمقراطي، والسياسي مع الاجتماعي، أي إنهاء الاحتلال واستعادة السيادة الكاملة من جهة، وإعادة بناء الدولة العراقية على اسس دستورية ديمقراطية اتحادية وتحقيق تنمية اجتماعية – اقتصادية وضمان رفاه المواطنين، من جهة أخرى.

وليس بمعزل عن ذلك تمر بلادنا اليوم بمرحلة بالغة التعقيد والصعوبة، يتداخل فيها العديد من العوامل الداخلية والخارجية. وفي ظل الصراع المحتدم المتواصل فيها حول المستقبل وشكل الدولة والنظام السياسي- الاقتصادي- الاجتماعي، تبقى الأوضاع مفتوحة على احتمالات عدة. ونتيجة لتعنت الكتل والاحزاب والقوى السياسية المتنفذة وعجزها عن ايجاد حلول ومخارج للازمة ، يظل تطور الاوضاع مرهونا ، الى حد كبير، بمدى قدرة جماهير الشعب والمجتمع المدني، بكل مكوناته، على التحرك والضغط في اتجاه الاصلاح والتغيير، بغية اخراج البلاد من ازمتها، وفتح فضاءات تطورها الديمقراطي الحقيقي، السياسي والاجتماعي، والسير على طريق الاعمار والبناء، وإقامة دولة القانون والمؤسسات والعدالة الاجتماعية، الدولة المدنية الديمقراطية الاتحادية، كاملة السيادة.


انطلاق العملية السياسية
تم تدشين العملية السياسية في صيف 2003، وهي، في نظر الحزب، عملية تهدف الى الانتقال بالعراق من الدكتاتورية ونظام الحزب الواحد، إلى نظام دستوري يضمن الحقوق والحريات لجميع ابناء الشعب، واستكمال سيادته كبلد ديمقراطي اتحادي موحد مستقل. وقد اعتمدت العملية السياسية، والقوى المشاركة فيها، الأساليب السلمية في تداول السلطة ومبدأ التوافق السياسي، في حل المعضلات التي تعترض تصفية مخلفات الدكتاتورية وإنهاء الاحتلال، وفي إعادة بناء الدولة ومؤسساتها، وصياغة وإقرار الدستور الذي يرسي الأسس والمبادئ العامة لعملية إقامة الدولة الجديدة.
وشقت العملية السياسية طريقها عبر مسارات متعرجة، وفي خضم صراعات حادة بين القوى المشاركة فيها، ودموية في مواجهة القوى المناهضة لها - من إرهابيين وبقايا للنظام السابق وأطراف متنفذة، داخلية واقليمية ودولية، تقف خلفهم. ورغم تنوع أطراف واشكال هذه الصراعات، فإن محورها الأساس كان، في المطاف الأخير، التنافس على السلطة والثروة والقرار، وعلى تحديد شكل الدولة الجديدة ومضمونها. الى جانب كبح جماح من كانوا يريدون العودة بالوضع الى الوراء، متذرعين بوجود الاحتلال.
وعلى خلفية الصراعات بين الكتل والقوى السياسية المتنفذة، واستشراء الفساد في المؤسسات الحكومية، واستمرار تعقيدات الوضع الامني وترديه، والتدهور المريع في الخدمات العامة، وارتفاع الاسعار، وتصاعد نسب الفقر، وتفشي البطالة، واتساع التدخلات الخارجية في شؤون بلادنا الداخلية، وتحول ذلك كله، بالتدريج، إلى ازمة عامة تشمل شتى المجالات والمستويات، بات واضحا ان العملية السياسية لا تواجه صعوبات جدية واختلالات كبيرة وحسب، بل انها بدأت، فوق ذلك، تخرج عن مسارها السليم. لذلك برزت الحاجة الى اجراء مراجعة نقدية لمسيرتها وحصيلتها، ولأداء مؤسسات الحكم في سياقها، بغية اصلاحها وتصويب مسارها، وصولا بها الى الغاية المرجوة. ويتصدر هذه المهمة العملُ على تخليصها من اساس المشكلة، المتمثل في اعتماد نهج المحاصصة الطائفية – الاثنية في تشكيل مؤسسات الحكم والدولة، والذي آلت اليه التوافقات السياسية.
وارتباطا بما تتركه هذه الأوضاع والأزمات المتتالية من تأثيرات سلبية على الملايين المحرومة ومعيشتها، ومن تغذية لمشاعر الاحباط والقلق والسخط في اوساطها، تصاعدت مطالبات الفئات الشعبية الواسعة بمعالجة المعضلات المعيشية والخدمية والاجتماعية التي تطحنها، وبوضع البلاد على طريق الاعمار والاستقرار. وتحولت تلك المطالبات، بمرور الوقت، إلى حركة احتجاجية ضاغطة، تشارك فيها وتدعمها قوى شعبية وسياسية ومنظمات مجتمع مدني واتحادات جماهيرية ونقابية، وتهدف الى تجاوز الشلل الذي يلف البلد ويعطل حركته الى الامام. واخذ يتسع ادراك الناس ان تحقيق مطالبهم مرهون باصلاح النظام، وإعادة الزخم الضروري إلى العملية السياسية، وفقا لمعايير وأسس جديدة، وتوازنات واصطفافات سياسية تنبذ نظام المحاصصة، وتعتق البلاد من تركته الثقيلة.


تعمق أزمة نظام المحاصصة
ونتيجة لعجز السلطة القائمة على قاعدة المحاصصة الطائفية – الاثنية، والمعتمدة منهجها، عن معالجة مشاكل البلد، اتسعت المشاكل وتعمقت، وتداخلت الأزمات لتتحول إلى أزمة لنظام الحكم، تجلت مظاهرها، بجانب ما سبق ذكره، في غياب الرؤى والاستراتيجيات القريبة والبعيدة، وفي الخلل الكبير في تطبيق مبدأ الشخص المناسب في المكان المناسب وما يترتب على ذلك من استبعاد للعناصر الكفوءة المخلصة والوطنية، وفي تفشي الفساد والبيروقراطية والترهل في اجهزة الدولة ومؤسساتها واجهزتها الادارية. كذلك في غياب ارادة العمل المشترك، وتقلص فضاءات التعاون والعمل الجماعي، وتنامي مظاهر الفردية، وتداخل الصلاحيات، وتقاطع التشريعات والتعليمات، واستمرار نفاذ العديد من قرارات مجلس قيادة الثورة المنحل، وما يفضي اليه ذلك كله من ارباكات تعمق جوانب التأزم والعجز. حتى انتهى الحال بأجهزة الدولة الى الشلل، وادى بالكتل السياسية الى العجز عن الوفاء بوعودها للناخبين عشية انتخابات آذار 2010 .
ولم يكن مجلس النواب بعيدا عن هذه الاجواء، التي اثرت على ادائه الدور التشريعي والرقابي المناط به. وجراء ذلك لم تشرع لحد الان قوانين هامة مثل قانون النفط والغاز، قانون الموارد المالية، قانون الاحزاب، قانون الانتخابات، والعديد غيرها.


الملف الامني وتطوراته
واصل الإرهابيون قتل الابرياء، وارتكاب المزيد من الجرائم، واستمروا في استهداف ابناء شعبنا من مختلف القوميات والطوائف.
وليس هناك من يجهل منطق الإرهاب والإرهابيين، ولا من يتوقع أن يلقوا أسلحتهم اختيارا، قبل دحرهم وشل أياديهم الآثمة ومنعهم من إهدار المزيد من الدماء، ومن دون ان تتوقف الدول الساندة والمؤيدة عن تقديم الدعم المالي والمادي واللوجستي لهم، ومن دون ان تبادر الاحزاب ذات الـميليشيات الى حلها واعلان ذلك على الملأ .
ان ما يقوم به سافكو دماء العراقيين، مدنيين وعسكريين، مواطنين عاديين ومسؤولين، حتى بعد جلاء القوات الامريكية، يكذب ما ظلوا يزعمونه دون انقطاع، من ان ارهابهم موجه ضد قوات الاحتلال لا غير، وان غايته إجبارها على الجلاء عن ارض الرافدين.
ان خطط الإرهابيين على اختلاف هوياتهم جلية وواضحة. فهم يستهدفون تعطيل الحياة العامة، واجهاض العملية السياسية، والعودة بالبلاد الي عهود الظلام والتخلف. والسؤال هو: ما الذي تم اعداده لإفشال مشاريعهم الشريرة في اطار المواجهة المفتوحة معهم، وصولا إلى دحرهم؟ وهل تم استخلاص العبر والدروس من خبرة السنوات السابقة، بنجاحاتها وإخفاقاتها؟
لقد أثبتت التجربة والممارسة العملية صواب ما كنا - ومازلنا - نذهب اليه، من ان مستلزمات وأدوات المواجهة والتصدي للارهاب، يجب ان لا تكون عسكرية - امنية فقط، رغم أهمية هذه وضرورة عدم التقليل من شأنها. فالحاجة تبقى قائمة إلى مجموعة من الاجراءات ذات الصلة بتمتين الوحدة الوطنية، والوصول بالمصالحة إلى غاياتها المنشودة. كذلك الإقدام على إجراءات اقتصادية وخدمية وثقافية وإعلامية فاعلة، والسعي الى توعية الناس وتطمينهم وكسب ثقتهم، واستبعاد الممارسات التي تحد من اندفاعهم إلى مساندة الدولة ومؤسساتها في المعركة ضد الإرهاب.
والمؤسف انه فيما تتجدد حالات الاختراق الأمني، ويسقط مزيد من الضحايا، تواصل القوى والكتل السياسية المتنفذة عراكها على مناصب وزارات الدفاع والداخلية والأمن الوطني. وهي بذلك تبرهن مجدداعلى ان مصالحها ومغانمها ارقى منزلة عندها من امن الوطن واستقراره وسلامة ابنائه. وان الصراع على النفوذ والهيمنة هو ما حال حتى الآن دون استكمال قوام التشكيلة الحكومية، التي جاءت أساسا - كما اكد رئيسها نفسه - دون مستوى الطموح.
لقد آن الأوان لإجراء مراجعة تقويمية جادة للخطط والمشاريع الأمنية والعسكرية، ومواصلة بناء المؤسسات والأجهزة على وفق الكفاءة والنزاهة والوطنية والإخلاص للتجربة الديمقراطية الفتية وللدستور واحكامه، بعيدا عن المحاصصة و"التوازن" المزعوم. كذلك يتوجب تطهير تلك المؤسسات والأجهزة من العناصر التي تتقاطع معها في الأهداف والتوجهات. فمن غير الجائز بالنسبة للحكومة والدولة، ان يكون بين أدواتهما وأفراد مؤسساتهما من يشترك في إراقة دماء العراقيين.
ان معالجة الملف الامني تحتاج الى حزمة متكاملة من الإجراءات، وتوفير الإدارة الجيدة لها ضمن تصور استراتيجي، بعيدا عن المواقف الارتجالية والعبثية، وعن زج القوات المسلحة في غير مهامها المحددة وفقا للدستور، او الاستعانة بهياكل ومؤسسات يجري تشكيلها خدمة لاهداف سياسية ضيقة، او اعادة الاعتبار للمليشيات التي كانت وراء تأجيج الاحتقان الطائفي، وكادت ان تلقي بالبلاد في اتون حرب اهلية. ان مصلحة الوطن تقتضي تحريم تشكيل المليشيات في العلن والسر، وإخضاع من يقدم على ذلك للملاحقة القانونية وفقا لاحكام الدستور.


السيادة الوطنية الكاملة
سيبقى العراقيون يتذكرون يوم 31 آب 2010، كونه يوم انجاز خطوة هامة على طريق انهاء الاحتلال واستعادة الاستقلال والسيادة الكاملين، على وفق الجدول الزمني الذي تضمنته اتفاقية سحب القوات، الموقعة بين العراق وأمريكا. ففي ذلك اليوم استكمل سحب القوات القتالية الأمريكية من المدن والقصبات. والى جانب ذلك، وبدلا من العلاقات العسكرية - الأمنية بين البلدين، بدأ التركيز على العلاقات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والثقافية، وفق ما تقضي به اتفاقية الاطار الستراتيجي بين العراق و الولايات المتحدة، التي ينبغي أن يكون تنفيذها معززاً لسيادة بلادنا واستقلالها.
ولا شك أن القوات العراقية وهي تتسلم الملف الأمني بالكامل، تواجه تحديات استكمال جاهزيتها على مختلف الصعد.
وفي مجرى السير على طريق الاستقلال وتحقيق السيادة والتصفية الكاملة لآثار الاحتلال، لا بد من تشخيص النواقص والثغرات في أداء القوات المسلحة، ومواصلة العمل الحثيث لبنائها على أسس سليمة، بعيدا عن الولاءات الضيقة، أيا كانت، وعلى وفق معايير الكفاءة والمهنية والوطنية، والسعي لرفع قدراتها، بجانب تنشيط المنظومة الأمنية والاستخباراتية، وتكريس جهدها لصيانة العملية السياسية وتطورها اللاحق في اتجاه بناء الدولة المدنية الديمقراطية، دولة المؤسسات والقانون، كاملة السيادة. وفي رأينا ان من المفيد العمل بنظام خدمة عامة الزامية وتحديدها بمدة لا تزيد على سنة واحدة، وان يضمن الاستثمار الامثل للموارد المالية التي تخصص سنويا للقوات المسلحة، للارتقاء بكفاءتها وادائها.
اننا إذ ْ اعتبرنا عقد الاتفاقية العراقية - الامريكية الخاصة بانهاء الوجود العسكري الامريكي ( الذي تحقق يوم 31-12-2011) انتصارا لارادة الشعب العراقي، شددنا في حينه على ضرورة ان تسعى الحكومة والكتل السياسية، الى تهيئة مستلزمات تنفيذ تلك الاتفاقية بسلاسة، ودعونا في الوقت نفسه الى اتخاذ الاجراءات كافة، التي تضمن تمتع العراق بحقه في السيادة على ثرواته واراضيه ومياهه واجوائه، واكدنا تكرارا رفضنا اي وجود عسكري اجنبي ينتقص من سيادة البلاد واستقلالها.
وفي رأينا ان من غير الصحيح العودة الى الاساليب والممارسات الخاطئة التي كلفت الشعب والوطن الكثير، والتي يتحرر بلدنا بالكاد من نارها، نار الطائفية المقيتة التي اوشكت ان تحرق اليابس والاخضر، ووضعت البلد على حافة الهاوية. كما ليس من الصائب استمرار وجود الميليشيات، ايا كانت، وباية صيغة تجلت، بل ينبغي حصر السلاح بيد الدولة.
وان من مستلزمات تحقيق السيادة الناجزة للبلد الخروج به من الفصل السابع لميثاق الامم المتحدة، والوقوف بوجه اطماع بعض دول الجوار التي تريد ان تتمدد داخل اراضي بلادنا، مستغلة اوضاعها الصعبة والفوضى الضاربة فيها.


تقزيم الديمقراطية والتعامل الانتقائي مع الدستور
شهدت بلادنا خلال الفترة الماضية سعيا حثيثا الى التضييق على الديمقراطية، واعطائها مفهوما يناسب مقاسات السلطات المتنفذة. وتجلى ذلك في ما يأتي:
< التعامل الانتقائي للاطراف الحاكمة مع مواد الدستور، والكثير منها حمّال اوجه اصلا، وتفسيرها بصور تضمن مصالحها وسيطرتها. ولا تبدو هذه الاطراف مبالية وهي تناقض نفسها في عدم النظر الى الدستور بكليته، وفي اختيارها ما يناسبها فحسب من مواده.
< التوسع في تفسير الصلاحيات بما يتناقض مع مواد الدستور، كذلك في الموقف من الحريات العامة والاعراف، واضفاء طابع احادي عليها، وقضمها تدريجيا،والحد منها بقوانين وتعليمات تناقض روح الدستور. وينطبق هذا ايضا على العلاقة بين المركز والمحافظات.
< المخالفة الصريحة والواضحة من طرف السلطات الحكومية للمادة 38 من الدستور، ذات الصلة بحق المواطن في التعبير عن الرأي بمختلف الوسائل، وفي الاجتماع والتظاهر السلمي، اللذين هما من مظاهر ووسائل التعبير عن الموقف والرأي.
وبديهي اننا لا نؤيد ولا نتبنى خروج التظاهرات والاحتجاجات عن سياقاتها وأهدافها، بل نشدد على ضرورة اعتمادها الوسائل السلمية للتعبير، ونرفض أي مسعى لحرفها عن مسارها الشرعي والسلمي، واستغلالها لغير اهدافها المعلنة. الا ان من غير المقبول، على الاطلاق، تكميم افواه الناس ومصادرة حقوقهم.
< ممارسة السلطات على نطاق واسع اساليب الاعتقال والتعذيب وانتزاع الاعترافات والتعهدات، وملاحقة المحتجين وتهديدهم في سكنهم وعملهم، واستخدام اساليب الترغيب والترهيب في قمع الاحتجاجات وتحجيمها، وغير ذلك من الممارسات المنتهكة لحقوق الانسان.
< التدخلات الفظة من قبل السلطة وبعض الكتل المتنفذة في شؤون النقابات والاتحادات ومنظمات المجتمع المدني، من خلال تعطيل انظمتها الداخلية وانتخاباتها وتجميد اموالها، ومحاولة فرض قيادات عليها بالضد من ارادة منتسبيها، ومن ما تنص عليه انظمتها الداخلية.
< السعي لفرض الرأي الواحد، وتنميط المجتمع وتأطيره وفق طروحات " الاسلام السياسي "، وممارسة الارهاب الفكري باشكال مختلفة، ومصادرة الرأي الآخر، وتشجيع وادامة النزعات الطائفية والمناطقية والعشائرية، على حساب مبدأ المواطنة والشراكة الوطنية.
< التدخل في شؤون القضاء، والسعي للتأثير على قراراته واحكامه، وتسييسها وفقا لمصالح واهواء الجهات المتنفذة، كذلك التدخل في شؤون الهيئات المستقلة بما يفقدها استقلاليتها.
هذه وغيرها من الممارسات، تعكس منحى خطيرا يضيق بالآخر المختلف، ويسعى الى مصادرة الحريات العامة والشخصية، في انتهاك جليّ للدستور ومبادئ حقوق الإنسان والأعراف والمواثيق الدولية ذات العلاقة. وهذا لا يستقيم مع الدعوات إلى إقامة دولة المؤسسات والقانون المدنية الديمقراطية.


السمات الاقتصادية - الاجتماعية
شهدت السنوات الماضية تعمق السمة الاحادية للاقتصاد العراقي، وازدياد اعتماده على العائد النفطي الذي يمثل، في المتوسط، أكثر من 90 بالمائة من ايرادات الموازنة العامة، وحوالي 60 بالمائة من الناتج المحلي الاجمالي. ويتجلى الطابع الريعي للاقتصاد الوطني في معالمه الهيكلية، وحسب المؤشرات الاتية:
انحسار القدرات الإنتاجية، وتراجع مساهمة الصناعة الوطنية والقطاع الزراعي والقطاعات السلعية في توليد الناتج المحلي الاجمالي. حيث لا تزيد حصة الايرادات غير النفطية المتوقعة لسنة 2012 على 7 في المائة، على الرغم مما يعلن منذ سنة 2004 عن ان الدولة تتجه الى تنويع مصادر الدخل، والابتعاد عن التبعية المفرطة لقطاع النفط. فما اوردناه يؤشر الاعتماد شبه الكامل على موارد النفط في تمويل الموازنة العامة للدولة. ومن المتوقع أن يوفر قطاع النفط اكثر من 92 في المائة من ايرادات موازنة 2012، وحوالي 60 في المائة من الناتج الاجمالي. فيما انخفضت مساهمة قطاع الصناعة التحويلية إلى حوالي 1.7 في المائة من الناتج المحلي الاجمالي، وقطاع الزراعة إلى أكثر قليلاً من 5 في المائة. وعند استبعاد قطاع النفط، ترتفع مساهمة قطاع الخدمات في تكوين الناتح المحلي الاجمالي لتتجاوز نسبة 60 في المائة منه. ما يؤشر كون اقتصاد العراق لم يعد اقتصادا ريعيا فقط، بل وبات خدميا ضعيف الانتاج في الوقت نفسه.
وينعكس الضعف الاقتصادي البنيوي في تجارتنا الخارجية، حيث تكاد تنعدم الصادرات غير النفطية. فهي في عام 2009 مثلا لم تتجاوز في قيمتها 300 مليون دولار، في حين قاربت قيمة الاستيرادات الاجمالية 38.5 مليار دولار، منها اكثر من 5 مليارات لاستيراد المواد الغذائية و3.7 مليار لاستيراد الوقود والمشتقات النفطية. وتؤلف السلع الاستهلاكية، خصوصاً المعمرة كالسيارات والأثاث والاجهزة الكهربائية والالكترونية، نسبة عالية منها. وفي سنة 2010 تواصل نمو قيمة الاستيرادات الكلية ليبلغ حوالي 44 مليار دولار. ومن المرجح أن النمو تواصل عام 2011 بالنظر لعدم ظهور اي تطور اساسي في الانتاج الوطني من شأنه تغيير هذه الصورة.
ويشمل الضعف، ايضا، التجارة الداخلية التي تحتاج الى المزيد من العناية والرعاية، وتذليل العوائق التي تحول دون نمو التجارة البينية للمحافظات، وفي داخل المحافظة الواحدة، عبر تهيئة مستلزمات ذلك من بنى تحتية، والعمل على اعادة تنظيم الاسواق التجارية، وتشجيع اقامة الجمعيات التعاونية التسويقية.
وقد اتسمت السياسة الاقتصادية للحكومات المتعاقبة بغياب الرؤى والستراتيجيات والسياسات الموحدة للدولة في مجال التنمية والمجال المالي وغيرهما، وبالاضعاف القسري لدور الدولة ، خاصة في الميدان الاقتصادي. فيما استمرت المغالاة في تأكيد مزايا السوق الحرة في اقتصاد البلاد، دون معاينة للواقع الملموس واستحقاقاته، الامر الذي يعيق عملية الاعمار واعادة بناء القطاعات الانتاجية: الصناعية والزراعية، وكذلك الخدمية، ويعرقل تحقيق التنمية الاقتصادية الشاملة والمستدامة.
ومن المفارقات الصارخة التي انتجتها السياسات الاقتصادية الحكومية منذ 2003، والتي يُعلن التزامها بالانتقال إلى اقتصاد السوق، هذا التدهور المتواصل في امكانات وقدرات القطاع الخاص الانتاجي. فرغم ان القطاع الخاص يستحوذ على نسبة تشغيل للقوى العاملة في البلاد تزيد على 85 في المائة، مقابل 15 في المائة للقطاع العام، إلاّ ان حصته في توليد الناتج المحلي الإجمالي لا تزيد على 15 في المائة، وحصته في تكوين الرأسمال الثابت لا تزيد على 4.5 في المائة حسب آخر الاحصائيات المتوفرة، وهي من العام 2007 .
وما يعانيه القطاع الصناعي من تدهور واهمال يجسد بوضوح الآثار الاقتصادية والاجتماعية الوخيمة للخيارات والاتجاهات التي اعتمدتها السياسة الاقتصادية للدولة منذ التغيير. فبنية القطاع الصناعي حتى اواسط عقد الثمانينات من القرن الماضي كانت موزعة بين القطاعين العام والخاص، اضافة إلى القطاع المختلط والتعاوني. وكانت الصناعات كبيرة الحجم والثقيلة، ومنها الصناعات الهندسية والميكانيكية والانشائية ذات الصلة بالتصنيع العسكري، اضافة إلى الصناعات النفطية، ضمن القطاع العام. أما الانشطة الصناعية الخاصة، فهي في الغالب منشآت ووحدات صناعية صغيرة الحجم ذات طابع فردي وعائلي. ومنذ اواسط الثمانينيات توقف الاستثمار الصناعي في القطاع العام، ما ادى إلى تقادمه تكنولوجياً وتراجع انتاجه كما ونوعا. ولم تتخذ حكومات ما بعد التغيير اجراءات عملية وفعالة لاستنهاض القطاع، واعادة المنشآت المتوقفة والمعطلة كليا أو جزئياً إلى العمل. على العكس، فقد سادت رؤى وتوجهات غابت عنها السياسة الصناعية التي يمليها الترابط الوثيق بين التنمية والتصنيع، كما غاب ادراك اهمية التوسع الصناعي في تحقيق اهداف التنمية، المتمثلة في خلق فرص عمل ومكافحة الفقر ورفع مستويات الدخل القومي، وتحقيق عدالة اجتماعية عبر توزيع افضل للدخل. حيث تبنت الدولة سياسة الانفتاح على الاسواق الخارجية، والغت جميع القيود والضوابط على الاستيراد، ووضعت الانتاج المحلي الضعيف والمنهك امام منافسة غير متكافئة مع المنتج الاجنبي، ما ادى بالضرورة إلى انهيار معظم ما تبقى من الصناعة الوطنية. وقد تفاقمت مصاعب القطاع الصناعي والقطاعات الانتاجية عموماً، بسبب الفشل في تحقيق منجز ذي شأن للارتقاء بواقع البنى التحتية.
وما زال القطاع الزراعي يواجه تحديات كبيرة، ذات صلة بغياب التخطيط الاستراتيجي وبشح المياه وتدهور الاراضي الزراعية والزحف السكاني عليها، اضافة الى ضعف الانتاجية وارتفاع التكاليف وقلة التخصيصات، مقابل صعوبات في ميادين الكهرباء والوقود، وضعف البنى التحتية والاستثمار فيها، ومحدودية الدعم للفلاحين والمزارعين بجانب استمرار تدفق المنتجات الزراعية، غير النظامي، من دول الجوار، على حساب المنتوج الزراعي الوطني.
ومن جانب آخر، يتواصل الخلل في الجمع والتنسيق السليمين بين السياستين النقدية والمالية. وفيما يعتمد البنك المركزي توجها يستهدف تقوية العملة العراقية، وإدامة استقرار سعر صرفها، وتحديد سعر الفائدة، ومكافحة التضخم، تبدوالقيود التي يفرضها صارمة في مرحلة يسعى البلد فيها للنهوض والبناء. وعموما يتطلب الامر مرونة وتناغما افضل بين السياستين النقدية والمالية، في اطار توجه استراتيجي للدولة واضح ومحدد المعالم، يؤمن لاقتصاد البلاد ديناميكية نمو، ويشجع الاستثمار والتصدير. وجدير بالانتباه استمرار تهريب العملة الى الخارج وهوما يتوجب التصدي له.
وينعكس الخلل في السياسة الاقتصادية في استمرار ارتفاع معدلات البطالة والتضخم، وما ينجم عنه من ظروف معيشية شاقة لقطاعات واسعة من ابناء شعبنا.
فالبطالة لا تزال احد التحديات الكبيرة التي تواجه عملية التنمية في العراق، حيث تتزايد اعداد العاطلين عن العمل، لا سيما من الشباب. وتذكر آخر احصائيات وزارة التخطيط ان نسبتها تشكل 15 في المائة من القوى العاملة، في حين تشير التقديرات الى ان البطالة الناقصة ( العمل بساعات قليلة، تحت مستوى 35 ساعة اسبوعيا) قد يتجاوز الـ 30 في المائة. ويذهب البنك الدولي ابعد إذ يقدر نسبة البطالة بحوالي 39 في المائة. اما في اوساط الشباب فان نسبتها عند من تتراوح أعمارهم بين 15 و29 عاماً تجاوزت 57 بالمائة. كما تبقى النسبة مرتفعة بين النساء، وتتجاوز 33 في المائة. ووفقا لتقرير للامم المتحدة، فان نسبة البطالة في البلاد تجاوزت 28 في المائة، فيما يعاني ربع السكان من الفقر الشديد.
ولا يقدم نمط التشغيل غير الانتاجي في مؤسسات الدولة، والقائم على الاعانة، حلاً لمشكلة البطالة. بل ان ما يجري حاليا من استيعاب نسبة قليلة من العاطلين في فرص عمل غير منتجة، يؤدي عملياً إلى اغراق تلك المؤسسات ببطالة مقنعة وسافرة. بينما المطلوب هوصرف العوائد النفطية في اطلاق عملية تنمية حقيقية، تخلق فرص عمل منتجة في القطاعين العام والخاص.
كما أن مؤشر التضخم ما زال عند مستويات مرتفعة، وهوما يسهم في التأثير المباشر على المداخيل، ويتسبب في خفض القدرة الشرائية، مع بقاء الاجور والرواتب عند مستويات لا تجاري الارتفاع المتواصل في اسعار المواد الغذائية والسلع والخدمات المختلفة والايجارات والنقل. وتشير آخر الاحصائيات المتاحة التي أعلنها الجهاز المركزي للاحصاء في وزارة التخطيط الى ارتفاع معدلات التضخم السنوي بنسبة 5.7 بالمائة، في الفترة من شباط 2011 الى شباط 2012 . وذكر بيان للوزارة أن ارتفاع نسبة التضخم نجم عن ارتفاع اسعار العقارات بنسبة 8.7 بالمائة خلال عام واحد فقط. فيما اشار الجهاز الى ارتفاع مؤشر التضخم السنوي لشهر كانون الثاني سنة 2012 بنسبة 5.4 بالمائة مقارنة مع شهر كانون الثاني من عام 2011 .
ولم تحقق الاجراءات الاقتصادية والتشريعات الهادفة إلى اجتذاب الاستثمار الخارجي، نجاحات تذكر حتى الآن. فرغم اصدار قانون الاستثمار رقم 13 لسنة 2006 وتعديلاته اللاحقة، فان النشاط الاستثماري ما زال محدودا، ولا يبرر تعويل الحكومة عليه في معالجة طائفة واسعة من المستحقات. ذلك ان الاستثمار يبحث عن أجواء طبيعية مستقرة للعمل، بعيدا عن النشاطات العنفية والارهابية، والتعقيدات القانونية والادارية، ومظاهر الفساد الصارخة، مثلما يبحث عن الوضوح في السياسة الاقتصادية المتبعة في البلد المعني. وان ما تحتاجه بلادنا هواتخاذ خطوات شاملة على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والقانونية والادارية وغيرها، وعلى صعيد محاربة الفساد المستشري، لتوفير الاجواء المناسبة والجاذبة للاستثمار.
وبشأن الاستثمار الأجنبي نشدد على أن تكون القرارات بشأنه منطلقة من رؤية إستراتيجية واضحة المعالم، تضع في الاعتبار الحاجات الفعلية للاقتصاد الوطني، وتنظر الى الاستثمار الأجنبي باعتباره عاملا مساعدا لتنمية الاقتصاد، وليس عنصرا محددا لاتجاهات تطوره.
ان قضايا الاقتصاد ومشاكله لا تحل بعصى سحرية ومبادرات من نوع المبادرة الزراعية، وان ما يجري الحديث عنه من اطلاق مبادرة للصناعة وسواها، ورغم ما يمكن له ان يقدمه من دعم مؤقت، يجدر ان يشكل جزءا من سياقات عمل دائمة، ضمن توجه وتخطيط عامين للنهوض بالاقتصاد في جوانبه المختلفة المترابطة.
ونتيجة لتكريس الطابع الريعي للاقتصاد الوطني، تصبح العوائد النفطية وطريقة التصرف بها من خلال الانفاق الحكومي والموازنات العامة، بشقيها التشغيلي والاستثماري، المحرك الرئيسى للنشاطات الاقتصادية، بصورة مباشرة وغير مباشرة، ولتشكل، واعادة تشكل بنية المجتمع العراقي بطبقاته وفئاته المختلفة. ويتحقق هذا من خلال نمط توزيع واعادة توزيع الدخل والثروة، الذي يعتمده الانفاق والمشاريع والتعاقدات الحكومية وسياسة الرواتب والاجور للعاملين في الدولة، والسياسات الاقتصادية والاجتماعية. وتبين المعطيات المتوفرة. أن السياسات المعتمدة حتى الآن لم تحقق نجاحاً على طريق مكافحة الفقر وتضييق شقة التفاوت الاجتماعي.


الموازنات العامة
لكي تؤدي الموازنة العامة مهماتها وتقوم بوظيفتها، كونها المحرك الاساسى للاقتصاد الوطني والاداة الرئيسة لتنفيذ السياسة الاقتصادية، لا بد أن يجري إعدادها في سياق نهج استراتيجي وسياسة اقتصادية - اجتماعية واضحة، توظف موارد الدولة والقطاعات المختلفة كافة لتطوير البلد، وضمان الرفاه للشعب، ولتأسيس اقتصاد يتصف بالدينامية والنموالمتوازن والدائم. كما لا بد ان يجري ربط التخطيط والمشاريع في القطاعات والوزارات مع الاولويات الوطنية، مما يتطلب التنسيق بين الجهات ذات العلاقة كافة.
ومن الملاحظ ان مشروع الموازنة السنوية الذي يقدم كل عام منذ التغيير، لا ترافقه حسابات ختامية وتقويم شامل لموازنة السنة السابقة، وللمبالغ التي خصصت للإنفاق في إطارها، ومدى الإنفاق الفعلي، وللانجازات والإخفاقات، والمبالغ المدورة، ولأرصدة العراق الاحتياطية في الداخل والخارج، وغير ذلك.
وتعكس هيكلية موارد الموازنة، الطبيعة الاحادية الريعية للاقتصاد العراقي، حيث شكلت عائدات النفط ما بين 88 و95 بالمائة من اجمالي الايرادات. ونتيجة لذلك اتسمت ايرادات الموازنة بدرجة عالية من التذبذب وعدم الاستقرار، ارتباطا بالتغيرات في حركة اسعار النفط في الاسواق العالمية، من مثل الانخفاض الحاد في اسعار النفط الذي حدث بين عامي 2008 و2009، الامر الذي يحيط تخمينات الموازنة بالكثير من اللا يقين. أما المصادر الأخرى للايرادات، ومنها الضرائب، فلا تزال ضئيلة جداً، ما يعكس الضعف في نظامنا الضريبي وفي نشاط القطاعات الاقتصادية غير النفطية.
وقد حققت أرقام الموازنة نسب نموملحوظة خلال السنوات 2007-2011، بلغت معدلاتها السنوية حوالي 18.5 بالمائة بالنسبة للايرادات و17.5 بالمائة للنفقات، وذلك ارتباطاً بارتفاع اسعار النفط. حيث ارتفعت الايرادات من حوالي 42 ترليون دينار عام 2007 إلى حوالي 81 ترليون دينار عام 2011، في حين ازدادت تخصيصات النفقات العامة من 51.7 ترليون دينار إلى 96.6 ترليون دينار خلال الفترة ذاتها. وستكون موازنة عام 2012 الأكبر في تاريخ العراق، حيث تزيد تخصيصات النفقات العامة فيها على 117 ترليون دينار.
وما زالت النفقات التشغيلية تحظى بالتخصيصات الاكبر في الموازنة العامة للدولة، وقد مثلت في المتوسط ما يزيد على 73 بالمائة من اجمالي النفقات العامة خلال السنوات 2007-2010 . أما التخصيصات الاستثمارية فقد تراوحت بين 24.5 بالمائة و28 بالمائة من اجمالي النفقات العامة خلال الفترة ذاتها، وبمتوسط سنوي قدره حوالي 25 بالمائة. وهذه النسبة بعيدة عن تلبية حاجة البلاد الهائلة إلى الاستثمار العام، لاعادة بناء وتطوير البنى التحتية المدمرة والمتهالكة والغائبة، ولتوفير الخدمات الاساسية، واطلاق النشاطات الانتاجية لمختلف القطاعات الاقتصادية، وتحفيز النموالاقتصادي من أجل خلق فرص عمل وتقليص معدلات البطالة والفقر المرتفعة. ويلاحظ أن الموازنة الاستثمارية قد ارتفعت حصتها خلال السنوات 2009-2011 بصورة مطّردة، لتبلغ 31.1بالمائة عام 2011 . ويتوقع للنسبة أن ترتفع إلى 35.1 بالمائة، 36.6 بالمائة، 39.3 بالمائة في السنوات 2012، 2013 و2014 على التوالي. فيما تبلغ نسبة النموالمتوقعة في النفقات التشغيلية 4.4 بالمائة، 9.3 بالمائة، 10.2 بالمائة في السنوات ذاتها. وتبقى العبرة في التنفيذ الفعلي للمشاريع المخطط تنفيذها، وليس في حجم المبالغ المرصودة لها.
وجرى تقديم الموازنات العامة مع عجز تخطيطي، بلغ اعلى مستوى له عام 2010 ليصل إلى حوالي 23 ترليون دينار. ولم يتحقق هذا العجز فعلياً في أي من السنوات الفائتة، لأسباب اهمها تدني نسب تنفيذ الموازنة، وارتفاع اسعار النفط إلى مستويات اعلى من الاسعار المعتمدة في الموازنة. إلاّ انه استخدم مبررا للاقتراض من صندوق النقد الدولي. وحيث لا يمكن القبول بسد العجز الافتراضي عن طريق المزيد من القروض الخارجية، والخضوع لشروط المؤسسات المالية العالمية، فان من الضروري أن يجري تحديد اسباب العجز بدقة، وأن يتم ضبطه وفقاً للحاجات الفعلية للاقتصاد الوطني والأولويات الاقتصادية والاجتماعية للموازنة العامة، وبما يحول دون تسبب تمويله في ضغوط تضخمية كبيرة، وفي إضعاف غير مبرر للعملة الوطنية. وهذا يفترض إزالة الهدر وضغط المصاريف غير المبررة، وتحسين آليات اعداد الموازنة.
وتتسم اسس وآليات اعتماد الاسعار التخمينية للنفط وكمية النفط المصدرة، في الموازنة، بدرجة غير قليلة من الارتجال والاعتباطية. كما يجري التصرف بجزء من موارد الموازنة بعيداً عن رقابة مجلس النواب، ولاهداف سياسية غير معلنة بينها توسيع القاعدة الاجتماعية للفئات المتنفذة. وبشكل عام تميل تخمينات أسعار النفط إلى التحفظ والانخفاض، في حين تميل تخمينات معدلات التصدير إلى الارتفاع. ويترتب على ذلك أما ظهور عجز غير متوقع، عندما تكون الكميات المصدرة ادنى بكثير من الرقم المعتمد في الموازنة، أوعندما يحدث انخفاض شديد في الاسعار كما في عام 2009، أو على العكس عند ظهور فوائض بفعل الفارق الكبير بين السعر المعتمد والسعر الفعلي للنفط المباع، كما حدث في عام 2008، الذي زادت فيه الايرادات الفعلية، حسب مصادر رسمية، على 80 ترليون دينار، اي اكثر بحوالي 47 بالمائة من تخمينات موازنة 2008 . وفي موازنة عام 2011، اعتمد سعر افتراضي للبرميل الواحد قدره 76.5 دولارا، وحجم تصدير 2.2 مليون برميل يوميا، في حين تجاوزت اسعار البيع 104 دولارات للبرميل، فبلغ اجمالي الايرادات النفطية لعام 2011 حوالي 83 مليار دولار، اي ما يعادل حوالي 99 ترليون دينار. وهذا يزيد 18 ترليون دينار على تخمينات الموازنة لذلك العام 2011 .
والجدير بالتأشير أن المبالغ المتأتية من فروقات اسعار النفط الخام المصدر، ما زالت تفتقد آليات محددة للتعامل معها. فهي ايرادات خارج الموازنة، كما هوالحال مع الـ 18 ترليون دينار من الفوائض التي تراكمت لدى وزارة المالية سنة 2011 . وعملياً تقوم الوزارة بتخصيصها دون موافقة اورقابة برلمانيتين، وهذه ثغرة تتوجب معالجتها، خصوصاً من قبل السلطة التشريعية.
ونتيجة لغياب الرؤية الاستراتيجية الاقتصادية والتنموية التي تشمل مختلف القطاعات الاقتصادية، ولضعف الاهتمام بالانشطة الانتاجية الوطنية، لم يحظ قطاعا الزراعة والصناعة الا بحصة ضئيلة من التخصيصات في الموازنات العامة. إذ لم تتجاوز هذه الحصة 2 إلى 3 بالمائة من النفقات العامة بالنسبة للزراعة، واقل من 1.5 بالمائة للصناعة. كما انعكس ذلك في ضآلة تخصيصات الموازنة الاستثمارية.. وفي المقابل حظيت القوات المسلحة بالحصة الأكبر من التخصيصات. ففي موازنة 2011 شكلت تخصيصات وزارتي الدفاع والداخلية ومكتب القائد العام للقوات المسلحة وجهاز المخابرات الوطني ومديرية دمج الميليشيات ما يزيد على 15 بالمائة من مجموع التخصيصات، في حين بلغت تخصيصات وزارتي التربية والتعليم العالي 9.5 بالمائة ووزارة الصحة 6.5 بالمائة. اي ان المخصص لاغراض الدفاع والامن يكاد يعادل تخصيصات وزارات التربية والتعليم العالي والصحة مجتمعة، ويساوي 75 ضعف تخصيصات وزارة الثقافة التي لم تزد على 0.2 بالمائة. ومن المتوقع أن يتواصل النموالملحوظ للانفاق على الأمن والدفاع في عام 2012، إذ تشير تقديرات الموازنة إلى أن المبالغ المخصصة لهما تشكل 21.5 بالمائة من اجمالي النفقات التشغيلية و14.7 بالمائة من اجمالي النفقات. ويترافق ذلك مع التضخم المستمر في اعداد منتسبي الاجهزة الأمنية والعسكرية، حيث بلغت حصة وزارة الداخلية من اجمالي القوى العاملة للوزارات الممولة مركزياً 23.3 بالمائة في موازنة عام 2012، وحصة وزارة الدفاع 11.1 بالمائة. ويعني ذلك أن حصة الوزارتين مجتمعة تمثل 34.4 بالمائة، أي أكثر من ثلث القوى العاملة في الدولة توجد في هاتين الوزارتين.
وقد طغى الطابع التوزيعي والاستهلاكي على توجهات الموازنات الاقتصادية، حيث استحوذت الرواتب والأجور والتعويضات المتنوعة والاعانات، على ما بين 70 و80 بالمائة من الموازنة التشغيلية. أما تخصيصات قطاع الكهرباء والطاقة، فهي رغم ضخامتها فشلت حتى الآن في معالجة الشحة الكبيرة في التجهيز، وفي تقليص اسيتراد الطاقة الكهربائية من الخارج.
ومن أهم اسباب ضآلة ما تحقق مقابل تخصيصات الموازنات العامة المتعاقبة، المستوى المنخفض لنسب تنفيذ المشاريع الاستثمارية على صعيد الوزارات وفي المحافظات، ما يحول دون انجاز المشاريع المخطط لها في وقتها المحدد، والاقدام احيانا حتى على الغاء بعض المشاريع، وما يسببه ذلك من هدر في المال العام. ويرجع بعض اسباب هذه الظاهرة الى ضعف كفاءة الأجهزة التنفيذية، الناجم عن ترهلها وعن اعتماد المحاصصة والمنسوبية في التوظيف، واستشراء الفساد. فيما تعود اسباب اخرى الى تخلف اساليب ونظم الادارة، وقلة الكوادر الفنية المؤهلة لادارة المشاريع. وتقتضي اي معالجة فعّالة تهدف إلى رفع نسب تنفيذ الموازنة ونوعية وكفاءة الانجاز، اجراء اصلاح عميق في اسس ونظم وقواعد اعداد الموازنة، والاطر الادارية والفنية لتنفيذ المشاريع.
ويكمن مصدر رئيس لمشاكل الموازنة العامة في كون إعدادها يتم على أساس تخصيصات سنوية لمشاريع منفردة، كثيراً ما تكون مرتجلة. ومن جانب آخر يعطي العدد الكبير من المشاريع صورة اقتصادية عامة مشتتة، ويضاعف من صعوبات الادارة والمتابعة، ومن متطلبات الموارد البشرية الفنية. ويشتمل الاصلاح والتحديث المطلوبان لنظام اعداد الموازنة، ضمن امور أخرى، على التوجه نحواعتماد البرامج الاستثمارية بدلاً عن المشاريع. ويشترط ذلك اعتماد الدولة رؤى استراتيجية اقتصادية واضحة ومتكاملة، تحدد في ضوئها الأولويات الاقتصادية والاجتماعية، التي يمكن ترجمتها إلى خطط وبرامج استثمارية، تتولى تنفيذها اجهزة ومكاتب متخصصة في ادارة المشاريع.
وتظل حالة اللاستقرار والتذبذب واللا يقين ملازمة لنظام المالية العامة في البلاد، طالما بقيت معتمدة، بصورة شبه كاملة، على مورد وحيد تحدد عائداته الأسواق العالمية. فثمة ضرورة ملحة لاعتماد سياسات واضحة وثابتة، في التوجه نحوتنويع وتنمية مصادر ايرادات الموازنة العامة، ومن ابرزها العوائد الضريبية والرسوم الكمركية، وتحسين نظام جباية رسوم الخدمات. وعلى صعيد زيادة الايرادات الضريبية، يوصي صندوق النقد الدولي باستحداث ضريبة عامة على المشتريات، وهي ضريبة غير مباشرة تفرض بنسب ثابتة على شراء كل سلعة أوخدمة، دونما اعتبار لمستوى دخل الشخص وثروته، ما يجعلها ضريبة غير عادلة، تشكل عبئاً أكبر على ذوى الدخول الواطئة، خلافاً للضريبة التصاعدية التي تقلل الفجوة بين المداخيل العليا والدنيا. ومن جانب آخر يمكن لتطبيق قانون التعرفة الكمركية ان يوفر مردودا ماليا هاما للدولة، إضافة إلى ما يؤمّن من حماية ودعم للمنتج الوطني المحلي في منافسته للمستورد.


النفط والاستثمار فيه
انطلق حزبنا في رسم موقفه في هذا الميدان من حقيقة كون النفط سلعة إستراتيجية، خصوصاً في حالتنا العراقية التي تمثل فيها العائدات النفطية المصدر الأساس لتمويل الموازنة العامة للدولة، ولتغطية حاجة البلاد إلى الموارد المالية الضرورية لإعادة البناء والإعمار واستئناف عملية التنمية الاقتصادية. وبناء على ذلك يتوجب أن تؤمـّن أية صيغة تـُعتمد للتصرف بهذه الثروة الناضبة مصالحنا الوطنية، وان تضمن تحكم بلادنا بمصير هذه الثروة وعوائدها. وعلى هذا الأساس دَعَونا إلى إعطاء الأولوية للاستثمار الوطني المباشر، والسعي لإعادة تشكيل شركة النفط الوطنية، واعادة تجميع الكفاءات والخبرات العراقية في هذا المجال، وهي كبيرة حقا وفاعلة إذا ما أحسن تنظيمها وجرى توفير الظروف المناسبة لعملها.
ونظراً الى ضخامة الاموال التي يتطلبها سد حاجة القطاع النفطي الملحة إلى تقنيات متطورة، في اطار إعادة تأهيل بُناه التحتية والآبار النفطية، ولتطوير الحقول ورفع الإنتاج باضطراد، ووضعا في الاعتبار الاحتياطي النفطي الكبير غير المستثمر بكفاءة فنية واقتصادية، فقد قلنا بإمكانية الاستعانة بشركات ومؤسسات عالمية، والافادة من خبراتها وقدراتها وفق أسس وضوابط تؤمن مصالحنا الوطنية، وتحفظ حق الشعب في امتلاك النفط والتحكم بمصيره. واشرنا في هذا الشأن الى امكان الاستعانة بعقود الإسناد الفني في الحقول المنتجة، التي هي بحاجة إلى تطوير وإعادة تأهيل، وبعقود الخدمة في الحقول غير المنتجة حاليا. فيما أشّرنا مخاطر اعتماد عقود الشراكة، وشددنا على عدم اللجوء اليها الا في الاحوال الاستثنائية، ووفق شروط تضمن مصالحنا الوطنية بصورة لا لبس فيها.
 ومن هذا المنظور، تابعنا باهتمام اعتماد جولات التراخيص لعقود الخدمة، والشفافية التي رافقت عملية احالتها وتوقيعها. لكن هناك تساؤلات تظل تثار بشأن الآماد الزمنية لتلك العقود، وآلية التحقق من حساب التكاليف، وفعالية اطر المشاركة بين الدولة والشركات في ادارة العمليات وفي اتخاذ القرارات الاساسية المتعلقة بالانتاج. وليس ثمة ايضا تفسير مقنع لمنح هذا الكم الكبير من التراخيص. حيث كان منطقيا كما يبدو أن يجري التريث في منح المزيد من التراخيص، حتى تجري الاستفادة من تجربة ونتائج تنفيذ عقود جولتها الأولى، فضلاً عن ان الكميات المزمع انتاجها تفوق كثيراً حصة العراق فى التصدير في اطار الاوبك، وما يمكن ان تستوعبه السوق النفطية على المدى المتوسط. كما ان اضطلاع الشركات النفطية الاجنبية العملاقة بالدور الرئيس في ادارة ما يزيد على 70 بالمائة من الاحتياطي النفطي المثبت، ولمدة عشرين سنة قابلة للتمديد، بحسب عقود جولات التراخيص، يطرح تساؤلات مشروعة بشأن مدى فعالية الآليات التي توفرها هذه العقود للشريك الحكومي العراقي، في ضمان السيطرة الوطنية العراقية على اداء الشركات، والتنفيذ السليم للعقود في كل مراحلها. لا سيما وأن هذه الآليات تتطلب توفر درجة عالية من الأهلية والكفاءة في الادارة والكادر العراقيين، لكي يتم تفعيلها والافادة الكاملة منها في السيطرة والرقابة على عمل الشركات.
ولا بد من التشديد على ضرورة العمل المكثف لمضاعفة طاقات التصفية ومعالجة الغاز، لضمان الاكتفاء الذاتي، وباسعار مناسبة للمواطن، من المشتقات النفطية أولاً، والتحول من ثم الى تصدير الفائض من المنتجات والغاز الحر السائل عبر الطاقات والكفاءات الوطنية، أو من خلال الاستثمارات الاجنبية والمحلية، مع ضمان اشراف الدولة.
ان المناقشات الدائرة الآن بشأن ثروتنا النفطية ومستقبلها وأشكال الاستثمار فيها ، تبين من جديد الحاجة الى تشريع قانون وطني متوازن ينظم ادارة الصناعة النفطية، ويوضح الصلاحيات والمهمات، بما يساعد على إنهاء حالة التجاذب المتواصلة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الاقليم، ولتهيئة الظروف المناسبة لاعادة تفعيل شركة النفط الوطنية وتشريع قانونها ، وتأمين بيئة مستقرة لتأهيل وتطوير قطاع النفط وزيادة إنتاجه، والتفكير الجدي بتنويع منافذ التصدير وتحديث شبكة الانابيب الناقلة وزيادة طاقتها. ومن ثم التوسع في الصناعات البتروكيماوية لسد الحاجة المحلية ، وتعظيم إيرادات الدولة عبر تصدير الفائض من المشتقات النفطية، وضمان توزيع الموارد بشكل عادل ومنصف، لينتفع منها أبناء شعبنا جميعا في أرجاء الوطن، وبما يحفز تطوير وتحديث فروع اقتصادنا الوطني كافة. وهذا يتطلب اعتماد إستراتيجية للتنمية، تتكفل بتحويل القطاع النفطي (الخام) من قطاع مهيمن ومجرد مصدر للعوائد المالية (أي للتكاثر المالي وليس للتراكم) الى قطاع منتج للثروات، يكون اساسا لقيام صناعات أمامية وخلفية تؤمن التشابك القطاعي المطلوب، لتحقيق إقلاع تنموي حقيقي. وعليه فان تنويع الاقتصاد وإيجاد مصادر بديلة لتمويل الميزانية العامة، يظلان هدفا مركزيا باعتبارهما شرطاً للتنمية المستدامة. وفي هذا السياق من الضروري التوجه الجدي لاستخدام عوائد النفط ، بالاساس ، لخير الشعب ورفاهيته عبر تحسن مستوى معيشته وتوفير بنى تحتية تساعد على تقدم البلد ، وان يخصص جزء من اموال النفط لتمويل صناديق خاصة، مثل صندوق الاجيال، صندوق دعم الثقافة ، الضمان الاجتماعي.


التعدين و الثروة المعدنية
تشكل الصناعة التحويلية، في فروعها التعدينية والانشائية والثقيلة والكيمياوية والبتروكيمياوية والهندسية، انشطة مهمة للقطاع الصناعي الى جانب قطاع النفط ، باعتبارها مرتكزا اساسيا لبناء الاسس المادية القوية للاقتصاد، وتنويع مصادره، وتأمين تنمية متوازنة بين القطاع الصناعي وبين مختلف القطاعات الانتاجية والخدمية الأخرى، بغية تخليص الاقتصاد من طابعه الريعي الاحادي.
لقد اسفرت عمليات الاستكشاف والتنقيب المعدني في العراق، وعلى مدى أكثر من نصف قرن من العمل المستمر، الذي نفذته ملاكات الشركة العامة للمسح الجيولوجي والتعدين، عن اكتشاف وتقييم العديد من الخامات المعدنية والصخور الصناعية، الامر الذي وضع العراق بين الدول الغنية بالثروات المعدنية الطبيعية. و تمتلك بلادنا اليوم واحدا من اكبر احتياطات الفوسفات في العالم، يقدر حجمه بمليارات الاطنان (حقل عكاشات في الانبار). وتحتوي مناجم الكبريت في الشرقاط بنينوى على احتياطي يعتبر من الاحتياطات الضخمة ايضا في العالم ، حيث تزيد الكمية التي يمكن استخراجها من باطن الارض عن 500 مليون طن. هذا الى جانب كميات هائلة من الرمال الزجاجية في منطقة الرطبة بالانبار، واحتياطي مثبت من الاطيان الصناعية، خاصة طين السيراميك. و هناك كثير من المواقع المنتشرة في محافظات عدة، والحاوية على احتياطات كبيرة من احجار الكلس الضرورية لصناعة السمنت وبكميات هائلة. وفي اقليم كردستان كثير من المواقع الحاوية على احتياطات كبيرة من الرخام ذات النوعيات الجيدة.
وقد شهد نشاط الصناعات التحويلية والاستخراجية غير النفطية، تراجعا في نسبة مساهمته في توليد الناتج المحلي الاجمالي بالاسعار الجارية. حيث بلغت النسبة 1,7 بالمائة عام 2008 ، بعد ان كانت 6 بالمائة عام 1979 ويعود السبب في تراجع مساهمة الصناعات التحويلية الى الحروب و الحصار الاقتصادي وعسكرة الصناعة و اخضاعها للجهد الحربي في الماضي.
وفي الظروف القائمة اليوم يتوفر العديد من مقومات النجاح في مجال استثمار الثروة المعدنية، و من اهمها:
- توفر الخامات المعدنية والصخور الصناعية بانواع واستعمالات متعددة، والتي لا يزال معظمها غير مستغل.
- توفر البيانات والمعلومات المطلوبة عن كميات ونوعيات هذه الخامات والصخور الصناعية.
- حاجة البلد المتنامية الى الخامات المتوفرة، ووجود صناعات محلية عديدة تعتمد عليها كمدخلات لها.
- ازدياد الطلب العالمي على مادتي الكبريت والفوسفات لتصنيع الاسمدة الكيمياوية.
- وجود اسواق كبيرة، اقليمية ودولية، تستوعب الصادرات من هذه الخامات.
- توفر عناصر البنية التحتية الاساسية للانتاج، وفي مقدمتها الملاكات الجيولوجية المتخصصة اللازمة .


الكهرباء
اصبحت قضية الكهرباء معضلة يومية مزمنة، وباعثا على الأسى والسخرية في آن.
ويدرك المواطنون، بالطبع، حجم التركة الثقيلة التي خلفها النظام السابق وسياساته الحمقاء وحروبه المدمرة، والأعمال الإرهابية التي طالت محطات التوليد وشبكات التوزيع، وعواقب التجاوزات الكثيرة على الشبكة الوطنية، وغير ذلك من العوامل المؤثرة على هذا الصعيد. لكنهم يقفون مدهوشين أمام ضخامة المبالغ التي رصدت لهذا القطاع، من دون حصيلة ملموسة وانجاز للوعود بتحسين تجهيز الكهرباء.
وحسب بيانات وزارة الكهرباء فان العراق ينتج حالياً حوالي 5200 ميغا واط، اي بزيادة تقدر بـ 1000 ميغا واط عن بدايات عام 2008، ويستورد 1300 ميغاواط . وبذلك تبلغ القدرة الكلية 6500 ميغاواط، يفترض ان تغطي نصف احتياجات البلاد التي تقدر بحوالي 12000 ميغاواط. ما يعني حصول المواطنين على ما لا يقل عن 10 ساعات كهرباء يوميا، وهو ما كانت الوزارة قد وعدت به. لكن الواقع يشير الى تجهيز بمعدل 4-6 ساعات لا اكثر يوميا.
ويسهم ضعف القدرة على تجهيز الطاقة الكهربائية المطلوبة، الى جانب عوامل اساسية اخرى، في استمرار ضعف الطاقة الانتاجية لآلاف المعامل والمصانع والورش الصناعية المختلفة، وللمشاريع الزراعية ، وتعطيل آلاف اخرى منها، الى جانب التراجع الكبير في اداء اغلب المرافق والخدمية والسياحية.
ويتوجب على الحكومة وكل الجهات ذات العلاقة بالكهرباء، ان تكشف بكل شفافية عن اسباب عدم تحقيق نتائج تتناسب والمبالغ الضخمة التي خصصت لهذا القطاع، والتي قدرت باكثر من 27 مليار دولار، حسب وزارة المالية . كما ان عليها الكشف عن استراتيجيتها وخططها القريبة وبعيدة المدى، وتعليل خياراتها التكنولوجية التي هي موضع انتقاد العديد من الخبراء، وطرحها للنقاش على اوسع نطاق مع ذوي الاختصاص والخبرة. فمن أسباب الفشل في هذا القطاع، بجانب العامل الأمني وعمليات التخريب، عدم وضوح واستقرار الخطط المعتمدة، وضعف التشاور مع ذوي الخبرة، وسوء الادارة، واستشراء الفساد في العديد من مفاصل القطاع. كما أن الجهات المسؤولة مطالبة بالافصاح عن كل الملابسات ذات الصلة بهذه القضية الهامة، والتي لا تحتمل التبرير وإلقاء المسؤولية على الغير، وحتى اذا تطلب الأمر المساءلة والمحاسبة. فالمفترض أن لا مساومة ولا تغطية على تقصير في قضايا كبرى مثل هذه، ومن الواجب ان تقال الحقيقة كاملة للمواطن الذي يبحث عنها.
من جانب آخر نرى ضرورة تبني خطة علمية عملية، آنية ومتوسطة المدى وبعيدة المدى ، برؤى وتوجهات واضحة، لحل هذه المعضلة, وأن تهيأ مستلزمات تنفيذها المالية والبشرية. فمعالجة هذه القضية لا تحتمل مزيدا من التأجيل، ولا تحتمل ادخالها في دهاليز المساومات والصراعات والمناكدات والمصالح الضيقة.


الشركات المملوكة للدولة
هناك 176 شركة مملوكة للدولة، ترتبط بثلاث عشرة وزارة، ينظم عملها قانون الشركات العامة لعام 1997 وهي شركات ذات طبيعة غير متجانسة، فبعضها شركات انتاجية وأخرى للمقاولات أو التجارة ، ويبلغ مجموع منتسبيها زهاء 600 الف. وهي تمثل بمجموع منتسبيها وخبراتهم المتنوعة التخصصات، وباصولها المادية وودائعها في المصارف ، كتلة اقتصادية كبيرة، تضم موارد بشرية ومادية مهمة معطلة الآن كلياً أوجزئيا، في حين يمكن ان تقدم مساهمة جدية في تنشيط الاقتصاد الوطني ومكافحة البطالة، اذا ما تمت اعادة تأهيلها وتحديثها، وتمكينها من استعادة عافيتها وقدراتها الانتاجية .
وفي هذا السياق تثير خطة اعادة هيكلة هذه الشركات التي جرى اقرارها في مجلس الوزراء، قلقاً مشروعاً في اوساط العاملين فيها، وعدت التنظيمات النقابية ذلك تمهيدا لخصخصة هذه الشركات.
ان الموقف السليم لا يكمن في خصخصة هذا القطاع، بل في بلورة منهجية واضحة، تتيح التغلب على آليات النهب التي تعرض لها ولا يزال، واجراء تقييم اقتصادي شامل وموضوعي لمؤسساته، قبل الإقدام على أي خطوة لتغيير ملكيته. فهذا يشكل مدخلا جديدا، يتيح امكانية اصلاح القطاع العام واعادة بنائه استنادا الى معيار الكفاءة الاقتصادية، ومعيار الوظائف الاجتماعية التي تؤديها الدولة في الحقل الاقتصادي، مع تدعيم الرقابة المجتمعية على هذا القطاع، واعتماد مبدأ الشفافية في تسييره، وتنشيط دور الفاعلين الاجتماعيين المختلفين، بما ينسجم مع الترابط الجدلي بين التنمية والديمقراطية.
وقد بينت الحياة وتجارب التاريخ عدم صواب الرؤية، التي تعتبر القطاع العام شرا مطلقا، والقطاع الخاص خيرا مطلقا. والعكس صحيح ايضا. وهذا يعني ان البديل يكمن في استراتيجية تنموية متكاملة، توظف كل القطاعات (العام والخاص والمختلط والتعاوني)على نحو سليم.


مكافحة الفقر
وفي ضوء هذه المؤشرات ، ليس غريباً أن تـُظهر وثيقة "إستراتيجية التـخفيف من الفقر"، التي أصدرها الجهاز المركزي للإحصاء وتكنولوجيا المعلومات التابع لوزارة التخطيط بالتعاون مع البنك الدولي، والتي أقرها مجلس الوزراء في شهر تشرين الثاني 2009، أن 22.9 بالمائة من السكان، أي حوالي 6.9 مليون مواطن، يعيشون تحت مستوى خط الفقر. وحددت الاستراتيجية هذا المستوى بـ 77 ألف دينار للفرد شهريا .
وذكرت الوثيقة ان نسبة فجوة الفقر في بلادنا تقدربـ 4.5 بالمائة، ما يعني ان استهلاك غالبية الفقراء قريب جدا من خط الفقر، وان التحسن النسبي في دخولهم أو زيادة نصيبهم من الإنفاق الحكومي على الخدمات العامة، يستطيع انتشالهم من الفقر. إلا إن حجم الفجوة في المحافظات يتباين بشكل حاد، ويختلف في المدينة كثيرا عنه في الريف، حيث ترتفع نسب الفقر في الارياف فوق المعدل العام في البلاد. وعلى هذا فان أوضاع الريف الاقتصادية والاجتماعية تشكل بيئة مولدة للفقر. ويتعزز ذلك إلى حد ما بارتفاع الخصوبة في الريف، حيث يبلغ معدل النمو السكاني 3.5 في المائة سنوياً، مقارنة بـ 2.7 في المائة في المناطق الحضرية.
من جانب آخر، وكما اظهرت الوثيقة، يشير نمط توزيع الأفراد حسب متوسط إلانفاق ، الى ان معظمهم قريبون من خط الفقر، وان قلة منهم تقع بعيداً عن هذا الخط. ويعني ذلك بالنسبة لغير الفقراء، تعرض النسبة الكبيرة منهم ،القريبة من خط الفقر، إلى انخفاض في دخولهم الحقيقية.
ان هذه الارقام والمعطيات تشير، رغم التحسن النسبي في مداخيل بعض الفئات مثل موظفي الدولة ، الى ان ربع سكان العراق لا يزالون يعيشون في ظروف حرمان وفقر، مع تفاوت واسع في مستويات الدخل. ويتفاقم الامر بفعل التدهور المتواصل في مستوى الخدمات وفي المقدمة منها الكهرباء، التي تلتهم نسبة عالية من دخول المواطنين، لا سيما محدودو الدخل، اضافة الى تآكل هذه الدخول المتواصل بفعل التضخم وارتفاع الاسعار، وندرة الخدمات الاخرى مثل الصحية والتعليمية .
جدير بالاشارة ان المسح الذي قام به الجهاز المركزي للاحصاء بالتعاون مع البنك الدولي، جرى بوجود البطاقة التموينية، وقبل شطب العديد من مفرداتها والابقاء على خمس منها فقط . وذكرت معطيات الوزارة ان نسبة السكان الذين يقعون تحت مستوى خط الفقر (بغض النظر عن مدى دقة التحديد) سترتفع في حالة الغاء البطاقة التموينية من 22.9 في المائة الى اكثر من 45 في المائة، على افتراض بقاء الاسعار دون تغيير. وسيكون الوضع اسوأ بالتأكيد في ظل التدهور المستمر في تقديم الخدمات، وارتفاع نسب البطالة، وتعطل عمل الكثير من المرافق الإنتاجية الصناعية والزراعية، وقلة فرص الاستثمار .
اشتداد التفاوت في توزيع الدخل والثروة
يظهر آخر مسح متاح لدخل الاسرة في العراق، وهو يعود الى عام 2007، ان الخُمس الأغنى من الأسر يحصل على 43 في المائة من مجموع الدخل على مستوى البلاد، بينما يحصل الخُمس الأفقر على 7 في المائة منه. وتبين البيانات المتعلقة بـنسبة الفقر وجود تفاوتات شديدة فيها بين المحافظات، وبين الريف والمدينة. ومع أن مقاييس ومؤشرات التفاوت في الدخل والانفاق، تشير إلى أن مستوياته في العراق ادنى مما في البلدان العربية الاخرى ودول الجوار، إلا أن المرجح أن تكشف المسوحات الاحدث عن تعمق هذا التفاوت. فاستفحال الاستقطاب في توزيع الثروة والدخل، كما تدلل تجارب بلدان أخرى، هو نتيجة متوقعة لسياسة اطلاق العنان لآليات السوق غير المنضبطة، التي اعتمدتها الحكومات المتعاقبة عندنا، ولغياب الرؤية التنموية. وتتضافر عوامل وآليات عدة لتشديد هذا الاستقطاب والتفاوت في المداخيل والثروة. فاطلاق حرية التجارة، وغياب الضوابط، والارتفاع المستمر في حجم الاستيراد، ادت إلى ظهور فئات فاحشة الثراء بفضل تمتعها بمواقع شبه احتكارية في السوق، وتحقيقها هوامش ربح غير طبيعية، مستفيدة من غياب الضوابط المنظمة للسوق، وضعف الرقابة، واستشراء الفساد، ومن صلاتها باوساط نافذة في الدولة. كما تراكمت ثروات كبيرة، بصورة غير مشروعة، لدى بعض الفئات التي استغلت حالة الانفلات الأمني بعد التغيير، ولاحقاً في فترة الصراع الطائفي، للاستحواذ على اموال وممتلكات عامة وخاصة، عن طريق التجاوز وارتكاب اعمال منافية للقانون. ويلجأ أصحاب الثروات التي جرت مراكمتها بهذه الصورة، إلى طرق وأساليب مختلفة لتبييضها وإضفاء الشرعية عليها، وإعادة ادخالها في السوق المحلية بعناوين واطر قانونية، وتوظيفها في قطاعات العقار والتجارة والمقاولات وغيرها.
وتمثل الموازنة العامة للدولة، بشقيها التشغيلي والاستثماري، مصدراً آخر للتفاوت في توزيع الدخل والثروة. فخلال السنوات 2007-2011 بلغ مجموع تخصيصات الموازنات التشغيلية أكثر من 220 مليار دولار، والموازنات الاستثمارية ما يزيد على 80 مليار دولار. وتمثل تخصيصات الرواتب النسبة الاكبر من الموازنة التشغيلية. وبسبب الاختلال في انظمة الرواتب والاجور والتقاعد، تظهر الفوارق الكبيرة بين رواتب ذوي الدرجات الخاصة وبقية موظفي الدولة. هذا الى جانب الفساد الذي يتجلى في انتشار الرشوة، والتلاعب باسعار المشتريات، وفي الوظائف الوهمية، وغيرها من التجاوزات.
اما الموازنة الاستثمارية، فان احد اسباب تدني مستوى الانجاز فيها هو احالة المقاولات إلى شركات وهمية أو ضعيفة الأهلية، مقابل منفعة او لاعتبارات المنسوبية والمحسوبية والولاءات السياسية. وهناك ايضا التلاعب في التخصيصات. لذلك يصعب تلمس منجزات حقيقية على الأرض مقابل الانفاق الاستثماري الكبير من جانب مؤسسات الدولة في المركز والمحافظات.
وفي خلاصة ما مؤشر اعلاه يشهد مجتمعنا حالة من الحراك في بنيته وتركيبته الطبقية ووزن وثقل مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية. ففي حين تستعيد الفئات الوسطى دورها تدريجيا، لا سيما العاملة منها في الدولة، يتعزز دور الكومبرادور التجاري والفئات الطفيلية والبيروقراطية، على حساب الكادحين وذوي الدخل المحدود.
الخدمات هاجس للمواطنين
ينعكس الاستخدام غير الكفوء وغير العادل لموارد البلاد، ومحتواه الاقتصادي- الاجتماعي، في ضآلة التقدم المتحقق على صعيد توفير الخدمات الاجتماعية والبنى التحتية لمختلف اقسام المجتمع، وللفئات الافقر والأضعف بشكل خاص، وفي تأثيره على مؤشرات التنمية البشرية.
وتشير الاحصائيات المتوفرة الى ان تحديات كبيرة تواجه قطاعات الصحة والتربية والتعليم، بمؤشراتها الكمية والنوعية. كذلك معدلات تجهيز مياه الشرب ، حيث تبلغ التغطية 90 بالمائة فقط في المناطق الحضرية، ولا تزيد على 65 بالمائة في المناطق الريفية. وفي مجال الصرف الصحي تبدو المشكلة اكبر، حيث تبلغ نسبة التغطية في مدينة بغداد حوالي 75 بالمائة لا اكثر، وفي بقية المناطق الحضرية تهبط الى 30 بالمائة فحسب، مع حرمان كامل للمناطق الريفية منها. هذا الى جانب التقصير الواضح في التعامل مع النفايات في المناطق كافة .
ورغم الاهتمام الذي بدأ مؤخرا بموضوع البيئة ، فان هناك مؤشرات تظهر ارتفاع مستوى تلوث عناصر البيئة (الماء، الهواء، التربة) وضعف برامج الرصد والمراقبة والمتابعة للملوثات ، الى جانب ضعف الوعي البيئي في المجتمع عموما وفي مؤسسات الدولة. وهذا كله يتطلب تنفيذ برامج وخطط حكومية ورصد اموال كافية لتنفيذها، حماية للبيئة وتخليصها من النفايات السامة ومن بقايا وآثار الاسلحة الكيمياوية والبيولوجية واليورانيوم المنضب والالغام المزروعة في مختلف ارجاء البلاد والتي يزيد عددها عن 20 مليون لغم .
وتؤشر المعلومات المتاحة عجزا كبيرا في ابنية المدارس، وارتفاع نسب المدارس ذات الدوام المزدوج والثلاثي، ووجود المدارس الطينية التي لا تصلح للعملية التعليمية. وقد لا يـختلف الحال كثيرا عند النظر الى مؤشرات التعليم العالي، الذي مال الى التوسع الأفقي في الجامعات وساهم في تعزيز التطور الكمي على حساب التطور النوعي يضاف الى ذلك الإنفصام الملحوظ بين مخرجات النظام التعليمي وحاجة سوق العمل، والتركيز الواضح على تأمين المستلزمات المادية والبشرية للاختصاصات الانسانية على حساب الاختصاصات العلمية والتقنية،بجانب الانتشار الواسع للتعليم الخاص. ومن ناحية اخرى قدرت منظمة اليونسكو في تقرير لها نسبة الامية في العراق اليوم بـ 20 بالمائة (وفق تقديرات اخرى تصل النسبة الى 30 بالمائة) واشارت الى ان النساء هن الاكثر تأثرا بها، لا سيما في المناطق الريفية، حيث قدرت نسبة الأميات بنحو 50 بالمائة بين من تتراوح أعمارهن بين 15 و 24 عاما، مقارنة بـ 20 - 28 بالمائة من مثيلاتهن القاطنات في العاصمة والمناطق الحضرية .
ومن بين التحديات الاخرى عدم معالجة مياه الصرف الصحي والنفايات، اضافة الى وجود مشاكل جسيمة في النظام الصحي ذاته، تتمثل في تردي الخدمات الصحية المقدمة للمواطنين، وقلة المراكز الصحية، وتدني عدد الأسرّة وعدد الاطباء لكل 1000 شخص مقارنة بالمؤشرات الدولية. اضافة الى عدم الاستغلال الامثل للامكانات الصحية المتاحة، وقلة الابنية الصحية، وعدم كفاية الادوية وارتفاع اسعارها، وارتفاع اجور العلاج في العيادات والمستشفيات الخاصة.
ولا تزال البلاد تعاني من ازمة سكن حادة، حيث يصل العجز الى ما يتراوح بين 3 و3,5 مليون وحدة سكنية. وتقول تقديرات خطة " سياسة الاسكان الوطنية في العراق " بالحاجة الى مليوني وحدة سكنية حتى عام 2016 فيما تبين المؤشرات المتاحة عدم وجود اهتمام جدي من جانب الحكومة بهذا الموضوع الهام، وهو ما يتجلى في ضآلة التخصيصات المالية لوزارة الاعمار والاسكان ولصندوق الاسكان ، خاصة في مجال بناء المساكن لذوي الدخل المحدود .
كذلك تعاني البلاد من ازمة نقل حادة ، زادت من حدتها شحة المشتقات النفطية وارتفاع اسعارها، في غياب توجه جدي من جانب الدولة لبعث الحياة في شبكة النقل العام، ولانشاء شبكة طرق داخلية وخارجية جديدة وعصرية. ويتواصل في اثناء ذلك الاستيراد العشوائي للسيارات، والاختناقات المرورية ، ما يستوجب المعالجة العاجلة، وتطبيق القوانين والتعليمات ذات العلاقة.
 

تحديات اجتماعية
وتواجه الدولة تحديا كبيرا في ما يخص الحفاظ على النسيج الاجتماعي العراقي، بتنوعه القومي والديني، وايقاف النزيف المتمثل في هجرة الكثيرين من ابناء شعبنا من المسيحيين والصابئة المندائيين، تحت وطأة الارهاب الذي تفاقم في السنوات الماضية، ومظاهر التعصب والتمييز التى ما زالت ماثلة في حالات كثيرة. ويتوجب ازاء ذلك اتخاذ اجراءات تؤمن احترام المعتقدات الدينية لهؤلاء المواطنين، وتضمن حقوقهم الادارية والثقافية والقومية ، وتوفر لهم الحماية الواجبة، وتكفل تمثيلهم في المجالس المنتخبة وغيرها، بما يحفز من هاجر منهم على العودة الى الوطن.
وفي خصوص ما تحقق للمرأة ومشاركتها في الحياة السياسية ونشاط الدولة، لا سيما على صعيد البرلمان والمجالس التمثيلية الاخرى، فانه بحاجة الى التطوير والتفعيل، لا ان يبقي محصورا في الاطار الراهن فلا يمتد الى اجهزة الدولة التنفيذية، خاصة الى مواقع اتخاذ القرار على المستويات المختلفة، او الى اجهزة القضاء، وضمان تكافؤ الفرص امام المرأة في ميادين العمل المختلفة ، والغاء التمييز ضدها، والتصدي لمحاولات الحد من حريتها وتهميش دورها ، الى جانب تشريع القوانين التي تكفل تحقيق ذلك وحمايته.
اما الشباب فيبدو حالهم صعبا على سائر الصعد، خاصة معاناتهم البطالة على نطاق واسع، وعدم حصولهم على فرص عمل الا في التشكيلات العسكرية الرسمية وغير الرسمية، وفي الاجهزة الامنية. علما ان الاحصاءات تبين ان 68 بالمائة من السكان هم دون الثلاثين . ويتطلب الامر اجراء اصلاح شامل للمنظومة التعليمية – التربوية على مختلف المستويات، وتطوير برامج اقتصادية – اجتماعية تمتص البطالة في صفوفهم، وتنمي قدراتهم وتعليمهم وتأهيلهم، وتشيع الامل والثقة بالمستقبل في نفوسهم، وتحد من الميل الى عسكرة المجتمع .
وتجدر الاشارة ايضا الى المصاعب التي يواجهها الشباب في سعيهم للمشاركة في الحياة السياسية والعامة، الامر الذي يفرض اعادة النظر في السن القانوني للترشيح لعضوية المجالس التمثيلية، وتيسير وتشجيع تأسيس المنظمات والمنابر الشبابية والطلابية المختلفة، الثقافية والرياضية والعلمية والتكنولوجية وغيرها.


وتحديات ثقافية
برغم ما تظهره الخبرة العالمية من اهمية كبرى لدور الثقافة والمثقفين في حياة المجتمعات الحديثة وتطورها، بقي التجاهل والاهمال نصيب هذا القطاع في بلادنا خلال السنوات الماضية. وتجلى هذا بوضوح في الضآلة المفرطة لتخصيصات الثقافة والتنمية الثقافية في الموازنة السنوية. وقد ترك ذلك، وما زال، تأثيره السلبي الواضح حتى على عملية الانتقال الى الديمقراطية، وبناء دولة القانون وحقوق الانسان والعدالة الاجتماعية. فضلا عن انه جرد عملية الاعمار والبناء والتطوير الاقتصادي المقبلة في بلادنا، من محرك فعال ودافع قوي الى الامام، وحرم المجتمع من مصدر لا غنى عنه للنهوض الحضاري والارتقاء الشامل.
ولكي يمكن تحقيق نقلة نوعية في قطاع الثقافة، يتوجب اعتماد استراتيجية للتنمية الثقافية، تقوم على زيادة جوهرية في تخصيصات الموازنة العامة السنوية للاغراض الثقافية، وتأسيس المجلس الوطني للثقافة والفنون، وإعمار المرافق الثقافية (دور السينما ، المسارح ، المكتبات ، قاعات الموسيقى .. وغيرها ) المتضررة، وبناء المزيد منها في المحافظات كافة، وتقديم الدعم المباشر الى المبدعين ومنتجي الثقافة، وتوفير التسهيلات المادية والفنية والادارية اللازمة لتفرغهم وانصرافهم الى تنفيذ مشاريعهم الثقافية، وتشجيع المنظمات الثقافية غير الحكومية ومساعدتها على النهوض بدورها في التنمية الثقافية، فضلا عن العناية باختيار الكادر القيادي لوزارة الثقافة والمؤسسات الاخرى المعنية.


الفساد المالي والاداري
لقد ضرب الفساد اطنابه، ولا بد من العمل على تحديد مداه وعمقه ومفاصله، لكي يمكن تطويق شروره وحصر نفوذه وتأثيره، ووضع خطة عملية للهجوم على مواقعه. ومن الواجب ان يكون التصدي للفساد متواصلا وبعيدا عن الموسمية، وان يتجاوز الاجراءات القضائية والامنية والادارية ليشمل اتخاذ تدابير جادة وملموسة لانعاش الاقتصاد الوطني، لا سيما قطاع الإنتاج، بما يوفر فرص عمل جديدة ويقلص حجم البطالة، ويرتقي بمستوى المعيشة والخدمات، وبما يشكل منظومة للقيم الاخلاقية والثقافية وإشاعتها في المجتمع، مع تأكيد ضرورة التوعية بمخاطر الفساد المالي والاداري عبر الاعلام والمدرسة وغيرهما.
وفي سياق التصدي للفساد، لا بد من تهيئة الظروف المناسبة لعمل الاجهزة الرقابية : ديوان الرقابة المالية ،هيئة النزاهة، دوائر المفتشين العموميين وغيرها، وتقديم الدعم لها، وشد ازرها، وتنفيذ قراراتها، وتفعيل القضاء ليقول كلمته في حق من يثبت تورطهم في جرائم الفساد، مهما كانت مواقعهم وصفاتهم، والعمل على ضمان حياد القضاء، وعدم زجه في الصراعات السياسية، وتوفير الحماية للقضاة والشهود وغيرهم، في قضايا مكافحة الفساد. كما لا بد من تفعيل دور الرأي العام والرقابة الشعبية ومنظمات المجتمع المدني في هذا الاتجاه، بعيدا عن تصفية الحسابات والاتهامات الكيدية. ويتوجب الاستمرار ايضا ضمن هذا التوجه ، في ملاحقة الفاسدين الهاربين خارج البلاد، من العراقيين والاجانب.
وينبغي ان تبادرالسلطتان التنفيذية والتشريعية الى الغاء كل القرارات ورفع كل الحواجز، التي تعرقل مكافحة الفساد او تكبح الاجراءات القانونية المتخذة، كي يتلمس المواطن ما يعتمد من تدابير بصدد العديد من قضايا الفساد التي يعلن عنها، ثم تبقى، للاسف، مفتوحة النهايات. كذلك ان يتم الاعلان عن الاجراءات التي تتخذ، كي يدرك الجميع انهم ليسوا بمنأى عن المحاسبة والمساءلة، وكي يطمئن المجتمع الى وجود توجه جدي لمحاربة الفساد والمفسدين ، بغض النظر عن مواقعهم الوظيفية ومنحدراتهم وارتباطاتهم السياسية. وبذلك يمكن صيانة المال العام، وتوفير المزيد من الاموال التي تمس حاجة بلادنا اليها لاعادة الاعمار والبناء، ولتحسين الخدمات، ورفع مستوى معيشة الناس. ويصعب تصور تحقيق ذلك من دون توفير اجواء سياسية مناسبة، ومعالجة اسباب تحول الفساد الى مؤسسة، ومن بينها اعتماد المحاصصة .


الموارد المائية
يواجه بلدنا منذ سنوات معضلة شح المياه. وقد تفاقم الحال في السنوات الأخيرة جراء قلة سقوط الأمطار والثلوج، وبدء العمل في الكثير من المشاريع الاروائية في تركيا وسوريا. كذلك بسبب ما قامت به إيران من قطع وتحويل لمياه الأنهر والروافد القادمة منها ، ما اثـّر بصورة خاصة على الحال في نهري شط العرب وديالى.
ولا يقتصر الامر على شح المياه، بل يمتد الى تردي نوعيتها وارتفاع نسبة الأملاح فيها، وهو ما يتجلى حاليا في مدن المصب الجنوبية، ومنها البصرة التي تشكل مثالا صارخا على ذلك.
وبديهي ان تعاقبَ سنوات الجفاف وشح المياه، يترك آثاره الخطيرة ليس فقط على الزراعة وحياة النبات والحيوان، بل حتى على إمكانية حصول المواطنين على مياه صالحة للشرب، كما على البيئة.
ونحن اذ نشير إلى إهمال هذه القضية من جانب الحكومات المتعاقبة، خاصة في عهد الدكتاتورية المبادة، نؤكد ان حرمان العراق من حق طبيعي له، ومورد أساس ومصيري، ينبغي ان يسترعي اهتماما استثنائيا من جانب الدولة والحكومة العراقية، وذلك لجهة:
1- التحرك العاجل في اتجاه دول الجوار المعنية، تركيا وسوريا وإيران، لضمان تجاوبها مع حقوق العراق، ولتأمين حصته العادلة من المياه وفقا للاعراف الدولية، باعتبار دجلة والفرات نهرين دوليين اساسا، اضافة الى الانهر الحدودية. وهذا يتطلب الدخول في مفاوضات عاجلة مع الدول الثلاث والسعي للتوصل إلى اتفاقات تؤمن حاجة العراق المتزايدة من المياه.
2- تحرك الحكومة بتصور واضح وتوجه استراتيجي واستثمار كل العلاقات: الاقتصادية والمالية والثقافية وغيرها، لتأمين احترام تلك الدول لمصالح وحقوق العراق، ولتوضيح حقيقة ان سكوت العراق بفعل أوضاعه السياسية السيئة في ظل حكومات الاستبداد والدكتاتورية السابقة، ونتيجة لعدم اهتمام تلك الحكومات بالدفاع عن العراق والعراقيين ومصالحهم وحقوقهم، لا يمكن أن يستمر.
كذلك يقتضي الأمر رسم سياسة مائية متوازنة وذات أبعاد إستراتيجية متكاملة، تضع في الاعتبار حقائق الواقع، وبضمنها طلب النشاط الاقتصادي المتزايد على المياه، ومتطلبات الاستهلاك البشري العصري وفقا للمقاييس الدولية، وبمواصفات بيئية وصحية مناسبة.
والى جانب ذلك تمس الحاجة إلى ترشيد استهلاك المياه، وتنظيم توزيعها وحماية مواردها ومنع التبذير فيها، والتوجه إلى بناء الخزانات والسدود والنواظم والمبازل، وإدخال الأساليب الحديثة في الزراعة والري، وحماية الأنهر ومصادر المياه من التلوث، والسعي إلى الاستخدام العلمي للمياه الجوفية، وللمياه العادمة والصرف الصحي ومياه المبازل، إضافة إلى إتقان الأساليب الحديثة في إدارة الموارد المائية.

تطورات الأوضاع في كردستان
أن جزءا اساسيا من الصراع الجاري في العراق يدور بشأن اعادة بناء الدولة العراقية، وطبيعة نظامها السياسي، وعلاقة ذلك على نحو مباشر بالحقوق المشروعة لشعب كردستان، الذي اختار بعد انتفاضة آذار 1991 النظام الفيدرالي أساسا لعلاقة أقليم كردستان بالمركز في عراق ديمقراطي.
وشخص الحزب تعقيدات هذه القضية، نظرا لكون مهمة بناء الدولة الديمقراطية المدنية الفدرالية، التي تضمن حقوق الشعب الكردستاني، لا تنجز بمجرد سقوط الديكتاتورية. فهي مهمة نضالية تتأثر بتوازن القوى، وتعدد المشاريع وتناقضها، وتراكم الخبرات، والتعارضات المتداخلة والمركبة الناجمة ، بالدرجة الأولى ، عن تناقضات العوامل الداخلية، وحجم المهمة ذاتها بالنظر الى طابعها المتمثل باعادة البناء، وتأثير العامل الخارجي، اضافة الى مستوى أداء القوى الكردستانية، واداء التيار الديمقراطي في عموم العراق، في ادارة الصراعات الجارية بشأن القضية، وقدرات الطرفين على تعبئة الجماهير لخوض تلك الصراعات.
غير ان الجانب الموضوعي في هذه القضية لا يعني انتفاء القصور في الجوانب الذاتية، واهدار الفرص الكبيرة وعدم احترام عامل الزمن، خاصة بالارتباط مع التفريط بالاتفاقيات السياسية، التي كان الأقليم وقيادته السياسية طرفاً مشاركاً وفعالاً في ما حققته من توازن، ومن أهمها مبادرة أربيل لتشكيل الحكومة الفيدرالية بعد الانتخابات الأخيرة، ومضي اكثر من عامين دون أن تكتمل الحكومة.
من جانب آخر تمتد الاشكاليات في العملية السياسية وفي طبيعة المرحلة الانتقالية لتشمل ، بشكل أو بآخر ، الوضع في الاقليم ايضا. ويرتبط الأمر بصعوبة المهام وحجم التعقيدات المتزامنة لهذه العملية، ومنها التعقيدات التي تلازم انتقال المجتمعات من الأنظمة الشمولية الى النظام الديمقراطي، علماً ان المرحلة الانتقالية في العراق تتميز بما هو اشد تعقيداً.
يؤكد الحزب مرة أخرى ضرورة استكمال بناء الدولة الفيدرالية. وهو ، منذ بداية تبنيه الفيدرالية حتى اليوم ، يبين أن طرحه فكرة الفيدرالية نبع من الرغبة في ايجاد الأشكال المناسبة لحل القضية القومية ارتباطا بالديمقراطية، وكون الفيدرالية التي نسعى الى بنائها ضمن مشروع بناء الدولة الديمقراطية المدنية، هي فيدرالية ذات طابع سياسي، الغرض منها حل القضية القومية، وضمان حقوق شعب كردستان من الكرد والقوميات الاخرى. وهي بالطبع لا يمكن استنساخها وتطبيقها لحل الاشكاليات المتعلقة بالقضايا ذات الطبيعة الادارية، لا القومية، والناجمة عن المركزية المفرطة وسياسة الالغاء والتهميش، التي مارستها السلطة الديكتاتورية بحق مناطق معينة في جنوب ووسط العراق. ومن الضروري أن نؤكد ارتباط الفيدرالية بالديمقراطية، وعدم إمكان الفصل بينهما. كما لا يمكن الحديث عن أي بناء ديمقراطي لعراق جديد، لا يضع في الاعتبار مسألة الفيدرالية. ومن هذا المنطلق نوجه نداءنا الى القوى الديمقراطية كافة في الاقليم وعموم العراق، للعمل المشترك من أجل بناء التيار الديمقراطي الفاعل والمؤثر في الساحة السياسية.
وكان متوقعا حدوث اشكالات في العلاقة بين حكومة الأقليم والحكومة الاتحادية، بخصوص جملة من القضايا التي يتعلق بعضها بحدود الاقليم والمناطق المتنازع عليها، وصلاحيات الاقليم وتنازعها مع صلاحيات الحكومة الفيدرالية، اضافة الى موضوع حصة الاقليم في الميزانية، وقانون النفط والغاز. وفي تعامله مع جوهر تلك الاشكاليات، اكد الحزب على منهج عقلاني يشدد على كافة المواد التي تضمن حقوق شعب كردستان في الدستور الاتحادي، والحرص على ثروات الاقليم. ومن هذا المنطلق أعلنا بوضوح دعمنا لتنفيذ المادة 140 من الدستور، والالتزام بالنسبة السابقة المقررة كحصة للأقليم من الميزانية الاتحادية، حتى اجراء الاحصاء السكاني العام. وأشرنا ايضاَ الى ضرورة مشاركة الاقليم في رسم السياسية النفطية، وحقه في الاستثمار وفقا لمواد الدستور ذات العلاقة.
من جانب آخر جدد الحزب الشيوعي الكردستاني – العراق (حشك) دعوته الى المجلس الوطني الكردستاني لتعديل قانون الاستثمار، وقانون النفط والغاز في كردستان، بما يضمن المحافظة على ملكية الأرض في الاقليم، ووضع ضوابط للاستثمار الأجنبي، ودعم وتشجيع الرأسمالية الوطنية، والتأكيد على مبدأ تعددية ملكية وسائل الانتاج، أي أن يكون الى جانب القطاع الخاص والقطاع المختلط، القطاع التعاوني والقطاع العام المنتج.
اننا نؤكد على حل المشاكل والملفات العالقة كافة بين حكومة اقليم كردستان والحكومة الاتحادية، من خلال الحوار والتعامل بمرونة.
شهد الاقليم تطورات في مجال التنمية والاعمار، والاهتمام بالبناء التحتي. وشرع الاقليم قوانين في مجال تعديل قانون الاحوال الشخصية وسن قانون مناهضة العنف الاسري، وقانون مجلس الخدمة، واعلان مبادئ الحكم الرشيد، وقواعد سلوك الموظف العام، ورسم سياسة التشغيل، وإقرار قانون دعم المشاريع الصغيرة للشباب، وتوسيع شبكة الحماية الاجتماعية، وتوفير نوع من الضمانة للعاطلين من خريجي الجامعات والمعاهد، ومشروع التأهيل العلمي الخاص بإرسال البعثات للدراسة في الخارج، اضافة الى مشاريع الاعمار المختلفة وبناء المدارس والمستشفيات..الخ.
غير ان هذه الانجازات لا تنفي ضرورة اجراء تقويم نقدي لعملية التنمية ، كما لا تنفي وجود ثغرات واشكاليات تجلت في الصراع على السلطة ، وفي استشراء الفساد ، وحالة التفاوت في توزيع الدخل، وسوء استخدام السلطة، وعدم استكمال توحيد ادارتي اربيل والسليمانية، والتدخل الحزبي المفرط في شؤون ادارة الدولة والعمل الحكومي. وهذه المظاهر ، السلبية في جوهرها ، ليست وليدة اللحظة، فهناك تراكم من الممارسات المبنية على القسر والالغاء والتفكير نيابةً عن الآخرين، وشبكة من الوشائج والعلاقات الاجتماعية ـ السياسية التقليدية المهيمنة على التفكير السياسي.
لقد وفر هذا الوضع الأرضية لطرح مطالب عادلة عبر أساليب النضال الديمقراطي المدني السلمي، وهي الاساليب التي طالما أكدنا مشروعيتها في إطار احترام القانون والحفاظ على الممتلكات العامة والخاصة، وما تحقق من مكتسبات بفضل نضال شعب الاقليم، ووضع القضية الوطنية الكردستانية في الاعتبار.
وتزامنت هذه المظاهر مع الصراع الداخلي خاصة بعد انتخابات برلمان كردستان (تموز2009)، والذي اشتد بعد انتخابات مجلس النواب العراقي (7/3/2010) وفوز احزاب المعارضة الكردستانية ببعض المقاعد، حيث حاولت رئاسة الاقليم خلق حالة من الانسجام والتوافق السياسي، واطار للعمل المشترك الكردستاني في بغداد يضم جميع الفائزين تحت مسمى (كتلة القوى الكردستانية). لكن ذلك الانسجام لم يتحقق في الواقع، رغم تقارب وتطابق المواقف تجاه القضايا الكردستانية المصيرية.
واستمر الحال كذلك حتى انطلاق التحرك الثوري والحركات الاحتجاجية في تونس ومصر (ما سمي الربيع العربي). فقد شجعت تلك التحركات وحفزت الشباب والشرائح المتذمرة والمهمشة في الاقليم على التحرك والنزول الى الشارع وساحة السراي بالسليمانية، مطالبين اول الامر بالاصلاح والعدالة والمساواة ومحاربة الفساد، وانتقل تحركهم ، من ثم ، الى مدن اخرى. لكنه سرعان ما تجاوز طابعه السلمي باللجوء الى العنف واستخدام السلاح والهجوم على المقرات والممتلكات العامة والخاصة من جانب بعض المشاركين.
بعد ذلك بشهرين لجأت الحكومة الى الاجراءات الامنية، حيث استخدمت القوات الامنية والعسكرية في اخماد التظاهرات، وسيطرت على الوضع، منهية حالة التظاهر والاعتراض العلني. الا انها لم تعالج جوهر المشكلة، وهو علاقة الصراع الشديد بين من هم في السلطة من القوى السياسية، ومن هم خارجها، والعلاقة غير الايجابية بين السلطة وشرائح كثيرة من المجتمع. فالحل الامني لا يستطيع الغاء المطالب العادلة للناس، والحاجة الموضوعية الى الاصلاح.
وفي ظل هذه الاوضاع عقدت قيادة (حشك) العديد من الاجتماعات ، واعلنت فيها وقوفها الى جانب الجماهير لتحقيق اهدافها باساليب مدنية وحضارية وانها بالضد من كل انواع اللجوء الى استخدام العنف والقوة سواء من جانب السلطة ام من جانب المتظاهرين. ودعت الى التهدئة واللجوء الى الحوار والوصول الى توافق سياسي لاعادة الاوضاع الى طبيعتها والمباشرة بمعالجة اسباب الازمة. وبرغم الانفراج الذي حصل في علاقات القوى السياسية وانعقاد اجتماعات للخماسية، الا ان التخندق وسياسة نفي الآخر والمصالح الحزبية الضيقة حالت دون تحقيق المصالحة السياسية او الشراكة السياسية.
بلور (حشك) رؤيته لمعالجة الاوضاع، وقدم مشروعه للاصلاح الى رئاسة البرلمان ونشره في وسائل الاعلام، وشمل المجالات السياسية والادارية والاقتصادية، ونقتطف منه هنا بعض العناوين: (المباشرة بإجراء حوار وطني يهدف الى تحقيق المصالحة والمشاركة الكردستانية، المباشرة بتنفيذ النقاط (17) المتفق عليها في برلمان كردستان لمعالجة الازمة، ابعاد التدخلات الحزبية في الشؤون الادارية، تحديد موعد اجراء انتخابات مجالس المحافظات وتعديل قانونها، تفعيل دور هيئات الرقابة المالية والنزاهة، وتأسيس هيئة الخدمة المدنية، وتقديم ملفات الفساد للعدالة، وتحقيق استقلالية القضاء، واعتماد الشفافية في ميزانية الاقليم والكشف عن جميع الايرادات، واجراء تحقيق في مشاريع الاستثمار والمساطحات وتعديل قانون الاستثمار، التركيز في السياسة الاقتصادية على المشاريع الانتاجية (الصناعية والزراعية)، تنظيم السوق والاستيراد والتصدير وإقرار قوانين منع الاحتكار وحماية المستهلك، اعادة النظر بنظام الاجور وسلم الرواتب وقانون العمل، وتحسين نظام الضمان الصحي والاجتماعي، واقرار تخصيصات مالية في الميزانية لانشاء وحدات سكنية لذوي الدخل المحدود والفقراء والكادحين، وايصال الخدمات الى المناطق الشعبية، وتوفير مستلزمات استيعاب الجامعات لجميع خريجي الاعداديات، وتوفير سوق العمل لمعالجة البطالة الاجبارية لخريجي المعاهد والكليات...الخ.
استند خطاب (حشك) الى تفادي النظر الى مسألة التغيير الاجتماعي عبر ثنائية السلطة والمعارضة، وتسطيح وتبسيط الصراعات على أساس شعبوي أو وفق استنساخ التجارب، والى اعتماد منهج عقلاني جدلي يركز على جوهر الصراع الاجتماعي والدور الفاعل للشعب، ولا ينظر الى الشارع والى الجماهير ككتلة صلدة وجامدة، بل من كون الشارع مجالا لتفاعل وصراع المشاريع السياسية، وضرورة اتخاذ الموقف السياسي انطلاقا من مشروعية الطرح، ومدى انسجامه مع مشروعنا للتغيير الاجتماعي، المبني على أسس الديمقراطية والتمدن والتقدم الاجتماعي، وعدم تسويغ العنف لفرض المشاريع السياسية.
تدور هذه الصراعات الداخلية في ظل تدخل وتأثير عوامل محلية واقليمية، وتهديدات مباشرة من دول الجوار بينها القصف الايراني والتركي لاراضي الاقليم ، بشكل يكاد يكون دورياً. فيما يتسم الوضع في المناطق المشمولة بالمادة 140 باحتقانات جدية، ومسعى واضح من جانب القوى الشوفينية وبقايا البعث لتاجيج الاوضاع.
ان المخاطر الحالية التي تواجه الاقليم لا تنتقص من اهمية المطالب الشعبية، وضرورة وجود مشروع سياسي للتغيير الاجتماعي مبني على صيانة المكتسبات وتعميقها، ومواجهة الفساد وضرورات الاصلاح السياسي والاداري والاقتصادي في اطار الشرعية وصناديق الاقتراع، وتعميق الديمقراطية بعيدا عن عقلية الانقلابات والاقتتال الداخلي. غير ان هذا التوجه لا يعفينا من الاشارة الى المخاطر الجديدة التي قد تنسف التجربة من الداخل، وبالاخص سعي قوى اقليمية وداخلية وقوى دولية لصياغة النظام السياسي في العراق على اسس تتناقض مع مفهومنا للفدرالية، الذي سبقت الاشارة اليه وعندما تنضج الشروط الموضوعية لذلك، وفي المقدمة منها تطمين المصالح والحاجات الحقيقية لابناء المناطق المعنية وكتعبير عن ارادتهم الحرة.
اننا نؤكد ضرورة مباشرة عملية اصلاح سياسي ومواجهة للفساد. ونرى ان عملية الاصلاح في الاقليم ، بمحاورها كافة، تتطلب ارادة سياسية، وتهيئة المستلزمات ومنها الامن والاستقرار والبرنامج السياسي الواضح البعيد عن تصفية الحسابات. أما الاحتقان الحالي، والتعامل مع الاحداث بعقلية سنوات الاقتتال الداخلي المقيت، فمن شانه الحاق افدح الاضرار بعملية التغيير الاجتماعي والاصلاح الشامل.

واستمرارا لموقفه يشدد الحزب الشيوعي الكردستاني على الخطوط العامة التالية :
ـ تأكيد حق التظاهر المدني السلمي في اطار احترام القانون.
ـ تخطئة واستنكار جميع مظاهر التجاوز على الحريات، والاعتداء على المقرات الحزبية أو مقرات الصحافة او على الصحفيين، كذلك اطلاق النار على المتظاهرين أو على رجال الشرطة.
ـ التحرك الملموس لتطبيق برنامج للإصلاح السياسي والاداري والاقتصادي، يضع في الاعتبار مستلزمات التنمية ومصالح الكادحين، وفتح حوار وطني بشأنه وكيفية تطبيقه ومساهمة القوى المختلفة فيه.
ـ الحفاظ على وحدة القوى السياسية الكردستانية، ووحدة القرار على أساس ضمان مشاركة فاعلة لجميع الأطراف في صياغة القرار، والاعتماد على ارادة الجماهير في الدفاع عن المكتسبات، وتوسيع نطاق الحريات العامة في مجال الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، وفي مجال حقوق القوميات ومكونات شعب الاقليم.
ـ دعم جميع المساعي الرامية الى ترسيخ مفهوم دولة القانون والمؤسسات الدستورية.
ـ ضمان المطالب الأساسية للجماهير لتأمين العيش اللائق، وبشكل يحقق الحياة الكريمة والسعادة والأمان للمواطن.
ـ وضع استراتيجية وطنية، حكومية وجماهيرية، من أجل مواجهة الفساد، واقرار قانون للنزاهة، وهو ما سبق أن أشرنا اليه أوائل 2007، وأكدناه في برنامجنا الانتخابي عام 2009 .
ـ دعم جميع المساعي الرامية لاصلاح نظام التربية والتعليم والتعليم العالي، وفق منهج ديمقراطي معاصر.
ـ العمل على تعديل القوانين كافة التي تكرس التمييز ضد المرأة .
ـ تشجيع الثقافة الديمقراطية التقدمية ومجالات الابداع كافة، والاهتمام بالشبيبة والطلبة والرياضيين، وبمنظمات المجتمع المدني.
ـ العمل على تشريع قانون عمل ديمقراطي عادل، يضمن مصالح شغيلة اليد والفكر.
ـ الاهتمام بإعمار القرى، وتشجيع الانتاج الزراعي، والمحافظة على الأراضي الزراعية وحقوق الفلاحين.

التعديلات الدستورية واستحقاقاتها
ينص الدستور الحالي صراحة على امكانية تعديله، اذا استدعت الممارسة السياسية والاجتماعية ذلك. وهو يحدد ايضا ضوابط التعديل في مادتين أساسيتين، تتعامل احداهما (المادة 126) مع الظروف الاعتيادية، حينما تتطلب الحاجة تعديلاً.
لكن الدستور، بحكم اوضاع البلاد الاستثنائية، يحتوى ايضاً ما يسمى بالأحكام الختامية والاحكام الانتقالية، التي تعالج جانبا هاما ذا طابع سياسي. فقد اعتمدت بهدف تطمين بعض شرائح المجتمع، وتأمين تطلعات سياسية، فتم الاتفاق في المادة 142 الاستثنائية على امكانية مراجعة الدستور بالتوافق، وتقديم مقترحات إلى البرلمان لمعالجة التعديلات المطلوبة في صفقة واحدة، مع عرضها لاحقا على الاستفتاء.
وعلى أساس هذه المادة (142) شكل مجلس النواب لجنة لتعديل الدستور، الأمر الذي لا يتعارض مع نص المادة 126، ذات الصلة بالتعديلات الاعتيادية. علما ان التعديلات الدستورية استحقاق قانوني، وحاجة سياسية - اجتماعية تتطلبها التجربة الشائكة للعملية السياسية في بلدنا منذ التغيير في نيسان 2003، والظروف التي كتب فيها الدستور .
والتعديلات ضرورية أيضا لمعالجة بعض النواقص في الصياغات، وعدم الدقة والوضوح في العديد من مواد الدستور وفقراته، وبحيث لا تبقى حمالة أوجه، مثيرة للاشكالات والخلافات والنزاعات، عبر سماحها في الظروف السياسية المتقلبة بتفسيرات انتقائية، حسب اهواء الكتل السياسية وتطميناً لمصالحها الخاصة، متباينة كانت او حتى متناقضة. فمن الضروري ان تكون تلك المواد الدستورية على درجة عالية من الوضوح، خاصة وان بعضها ذو صلة بصميم مصالح المجتمع، وبعلاقات أبنائه مع بعضهم.
ولكي تأتي التعديلات الدستورية في سياقها الطبيعي، وبناء على ما تفرضه الضرورات، فمن الواجب ان لا تكون غطاءً لمطامح سياسية آنية، من شأنها أن تخل بوظيفة الدستور نفسه، وبطابع الثبات النسبي المميز له، مقارنة ببقية القوانين والتشريعات.
فالالتزامات الدستورية الأساسية تتطلب تعاملا حساسا ودقيقا، بالنظر لدورها المباشر في إضفاء طابع الاستقرار والوضوح لمسيرة بلدنا.
يبقى التوافق السياسي (وليس القائم على المحاصصة الطائفية والاثنية) بشأن التعديلات، أمرا ضروريا وحاسما في اللحظة التاريخية الملموسة، التي يمر بها العراق. وفي حال عدم تحقيق هذا التوافق، ينبغي تأجيل ما هو غير ناضج من التعديلات، وإخضاعه إلى المزيد من الحوار والبحث، وصولا إلى صياغات متوازنة ومتفق عليها.
ان أية استهانة بهذه الآلية، في ظرفنا الحالي، قد تفتح البلد على احتمالات غير محسوبة.
ولا شك ان تأخيرا قد حصل في إجراء التعديلات الدستورية ضمن الفترة الزمنية المحددة، جراء تعنت تيارات وقوى وكتل سياسية، وعدم توصلها إلى تسويات متوافق عليها. وقد حال ذلك دون انجاز الاستحقاق، الذي كان من شأنه ان يطور ويرسخ العملية السياسية والديمقراطية.
ان معالجة هذه المسألة ، اذا ما حسنت النوايا وتوفرت الارادة السياسية التي تضع مصلحة البلد فوق أي اعتبار آخر، قد توفر الأجواء والفرص المناسبة للمضي قدما على طريق معالجة العديد من الملفات الاخرى، التي ما زالت تنتظر الحل.

موقفنا من انتخابات 7 اذار 2010
مرت سنتان على انتخابات مجلس النواب التي جرت في 7 اذار 2010 وكان قد سبق ذلك، في خريف 2009 ، وفي اجواء توتر وتأزم العلاقات بين القوى والاحزاب والكتل السياسية، ان مررت الكتل المتنفذة صفقة تعديل قانون الانتخابات في مجلس النواب . وشكل ذلك التعديل اعتداءً على الديمقراطية ومؤسساتها، وعلى التعددية والتنوع، وجسد السعي الى الهيمنة واحتكار السلطة .
وعكس الاصرار على تمرير التعديل في المجلس، ورفض مفهوم العراق دائرة انتخابية واحدة، اخلالاً بمبدأ المواطنة والمساواة بين المواطنين، كما شكل تهديدا لمبدأ التداول السلمي والديمقراطي للسلطة ، الى جانب افراغ مفهوم القائمة المفتوحة من محتواه، بما يبيح في النهاية وصول مرشحين الى مجلس النواب، لم يحصلوا الا على بضع مئات من الاصوات. ورافق ذلك إلغاء المقاعد التعويضية، التي كانت الغاية من اعتمادها تأمين حق الحائزين على المعدل الوطني في الوصول الى البرلمان، حيث قضى التعديل المجحف بمنح المقاعد الشاغرة الى الفائزين بدل توزيعها على ذوي الباقي الاقوى، مثلما نص عليه القانون في الاصل.
لقد شاب هذه الانتخابات الكثير من السلبيات والنواقص، التي شملت التحضير لها، واعداد سجلات الناخبين، وتهيئة ادارات المرافق الانتخابية ومراكز الاقتراع ومحطاته من قبل الجهات المعنية، مرورا بالحملة الانتخابية، والتأثيرات السيئة للمال السياسي، والتدخلات الخارجية متنوعة الاوجه، واستغلال اموال الدولة ووسائلها ونفوذها، وخرق الصمت الاعلامي في يومه المعلن، وتكرار اعمال التلاعب والتزوير في الكثير من مراكز التصويت ومحطاته، وانتهاء بمرحلة العد والفرز التي اشر قرار الهيئة التمييزية في المفوضية حصول تلاعب خلالها، واكد صحة الطعون المقدمة في شأنها، وقضى بناء على ذلك باعادة عد وفرز اصوات الناخبين في بغداد يدويا. هذا بالاضافة الى الطعون المشروعة التي وجهت الى المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، بسبب سوء ادارتها للعملية الانتخابية، وتساهلها ازاء تدخلات كتل سياسية متنافسة وجهات خارجية في شؤونها، وسكوتها على ذلك.
وقد ساهمت هذه العوامل جميعا في التأثير على إرادة الناخبين وخياراتهم، وعلى نتائج الانتخابات. وكان مما له دلالته في هذا السياق، ان الكثير من اللافتات والملصقات التي رفعتها الجماهير المحتجة لاحقا، عكست ندم الناخبين وهم يعضون على الاصبع البنفسجي.
سنواصل العمل من اجل سن قانون انتخاب ديمقراطي، واستبعاد التعديلات التي ادخلت سواء على قانون انتخاب مجالس المحافظات ام على قانون انتخاب مجلس النواب، وتطبيق قرار المحكمة الاتحادية في هذا الشأن، وسن قانون الاحزاب، واعادة تشكيل مجلس المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، وانجاز الاحصاء السكاني، تمهيدا للتوجه نحو اجراء انتخابات جديدة لمجالس المحافظات، والاعداد لانتخابات مبكرة او اعتيادية لمجلس النواب.

الحركة الاحتجاجية وانتهاك الحريات الدستورية
تواصلت في انحاء البلاد الاعتصامات والتظاهرات والفعاليات الاحتجاجية والمطلبية باشكال وصيغ مختلفة. ولم يأت ذلك بمعزل عن اللوحة السياسية المعقدة في بلادنا، والازمة البنيوية وحالة الاستعصاء القائمة ، وعجز الكتل المتنفذة عن التوصل الى توافقات على حلول ومخارج لها. كما لا يمكن فصله عن المعاناة المتواصلة - المعيشية والخدمية والحياتية للمواطنين، منذ نيسان 2003. تضاف إلى ذلك مساعي التضييق على الحريات العامة وثلم هامش الديمقراطية، وتكريس المحاصصة المقيتة ، و تكميم الأفواه، في مخالفة صريحة وواضحة للدستور الذي باتت مواده، هي الاخرى، عرضة لتفسيرات الكتل على وفق هواها ومقاساتها ، الى جانب تردي الاوضاع الامنية .
ان حق المواطن في التظاهر وإبداء الرأي والتعبير عن المواقف، حق دستوري يفترض ان تهيأ كافة مستلزمات تطبيقه، وان توفر الحكومة وأجهزتها الحماية الكافية لمن يمارسه من المواطنين. كما ان من واجب مجالس النواحي والاقضية والمحافظات ومجلس النواب، كذلك السلطة التنفيذية، ان تنصت جيدا الى مطالب الناس المشروعة، وتسعى الى تلبيتها، وان تعير الاهتمام لدعواتهم إلى إصلاح العملية السياسية، وتصحيح مسارها في اتجاه بناء الدولة المدنية الديمقراطية.
وبديهي ان عراقنا ليس معزولا عما حصل ويحصل في غيره من بلدان المنطقة ، وإن اختلف عنها في الخصوصيات والتفاصيل. فقد حفزت عواصف التغيير في المنطقة جماهيرنا ايضا على التحرك وكسر حاجز الخوف والتردد، والنزول الى الشارع. وكانت مساهمة الشباب في هذا الحراك متميزة ، وجرت الاستفادة في ذلك من التكنولوجيا الحديثة للاتصالات، وتوظيفها لخدمة الاهداف المشروعة.
الا ان سلوك الحكومة واجهزتها وتعاملها مع الحركات الاحتجاجية، شكلا انتهاكا للحق الدستوري في حرية التعبير عن الرأي والتظاهر السلمي، ومحاولة لقمع ممارسة المواطنين هذا الحق، بعد ان تيقنوا ان الهم الاول والاخير للكتل الحاكمة المتنفذة هو الحفاظ على مصالحها، والصراع على السلطة، وتقاسم المغانم في ما بينها، من دون اكتراث بالمواطن الذي يئن تحت وطأة ظروف قاسية، في بلد تزيد موازنته السنوية على 100 ترليون دينار عراقي .
لقد نجحت الفعاليات الاحتجاجية في 25 شباط 2011 وقبله وبعده، في ايصال رسالة واضحة بمطالب الجماهير العادلة، رغم ما تعرضت له من مساع لتشويه حقيقة تحركها واهدافه، ودخول السلطة التنفيذية بكل ثقلها للحؤول دون انطلاقها ، والسعي لاجهاضها، ورغم كل ما اتـُخذ ضدها من اجراءات واستخدم من ادوات، وما جرى من ملاحقات واعتقالات وانتزاع للتعهدات وغيرها، كانت موضع ادانتنا وشجبنا.
ان اسباب اندلاع هذه الحركات تكمن في العوامل الداخلية المحركة ، التي تتفاعل في الوقت ذاته مع المتغيرات الاقليمية والدولية . وبعد مضي اكثر من سنة على اندلاعها فانها مرشحة للتواصل بشكل او بآخر، نظرا الى استمرار اسبابها وعدم تلبية مطالبها، ورغم عدم اتخاذ مسارها خطا تصاعديا بفعل جملة اسباب، تتصدرها التدخلات الفظة من جانب الحكومة واجهزتها ، وحالة الترقب من جانب بعض فئات المجتمع، رغم استمرار معاناتها، و التقوقع ضمن الهويات الفرعية.
وفي المقابل يفترض ان تمارس الحقوق والحريات التي كفلها الدستور، بشكل سلمي وحضاري، من دون استخدام للعنف او اساءة لأحد او ايقاع اذى به، وبعيدا عن التجاوز على الممتلكات العامة والخاصة. الى جانب التيقظ ازاء محاولات التسلل من جانب العناصر المخربة، والعمل على قطع طريقها وإحباط مسعاها.
ومن جديد نؤكد موقفنا المعروف، ونسجل انحيازنا الى الناس في تطلعاتهم ومطالبهم المشروعة، والتزامنا حقهم في التعبير ، وادانتنا أي اجراء يهدف الى التضييق على الحريات وسلب الناس حقوقها. ومن اجل ذلك نرى ضروريا ان يشرّع قانون ينظم حق التظاهر والتعبير عن الرأي بصورة ديمقراطية، ويحفظ حق الناس الدستوري، ويمنع التجاوز عليه ومصادرته من جانب السلطات التنفيذية تحت اية ذريعة . قانون يسهل التمتع بهذا الحق، وليس تكبيله بقيود جديدة .

الخروج من ازمة
نظام الحكم
ضرورة المشروع الوطني الديمقراطي
بعد ان حققت العملية السياسية خطوات مهمة، في مقدمتها اقرار الدستور في استفتاء عام، وانبثاق المؤسسات الدستورية، واعتماد الادوات السلمية وسيلة لتداول السلطة، وتحقيق انسحاب القوات الامريكية من البلاد، فانها تواجه اليوم صعوبات جدية تعكسها مظاهر عديدة، ابرزها استمرار الأزمة السياسية، وازدياد التشنج في العلاقة ما بين اطراف حكومة "الشراكة الوطنية"، والفشل في استكمالها .
لقد بات ملحاً التوقف عند مسار العملية السياسية ، وإجراء مراجعة نقدية لحصيلتها، ولأداء مؤسسات الحكم على اختلافها. فتجربة شعبنا في السنوات التي أعقبت رحيل الدكتاتورية، وما عاناه خلال ذلك من احتقانات وترد في الأوضاع، ومآس ومراوحة في الكثير من الملفات، تبين بصورة لا لبس فيها فشل نهج ونظام المحاصصة الطائفية بصورة خاصة، كأساس للحكم ، واستحالة نجاح اي نهج يقوم على الاستئثار والاقصاء والتهميش. كذلك عدم إمكان اقامة دولة القانون والمؤسسات من دون اعتماد المواطنة المبرأة من ادران التخندق الطائفي.
وباتت أوساط الشعب، على اختلاف اتجاهاتها وانتماءاتها، تستشعر الحاجة الملحة للتغيير الجدي والملموس، واعتماد المشروع الوطني العابر للطوائف، بما يضمن التوجه لتعزيز الوحدة الوطنية، والشروع ببناء دولة عراقية ديمقراطية عصرية ، تقوم على مبادئ المواطنة والعدالة الاجتماعية .
ان التجربة السابقة تؤكد أهمية وضرورة إعلاء شأن المواطنة، والتصدي للطائفية، ووضع حد لنهج المحاصصة الطائفية والاثنية في الحكم وفي مؤسسات الدولة ، ونبذ توظيف الدين لاغراض سياسية ليبقى في منأى عن التنافس والصراع السياسيين، ونبذ أشكال التعصب الديني والمذهبي والقومي والعشائري والمناطقي جميعا. فبدون اعتماد مبدأ المواطنة يصعب الحديث عن توجه لاقامة دولة المؤسسات والقانون ، فضلا عن الشروع ببنائها.
وان الحاجة قائمة لتأمين شروط بناء الدولة المدنية الديمقراطية، دولة القانون والمؤسسات الدستورية ، التي تعتمد مبادئ فصل السلطات، واستقلال القضاء، وتداول السلطة سلمياً، واحترام إرادة المواطنين المعبر عنها ديمقراطياً، بعيداً عن الضغط والإكراه. كذلك تحريم انتهاك حقوق الإنسان، وضمان التمتع بالحريات العامة والشخصية والحقوق التي يكفلها الدستور .
ويتطلع المواطنون الى اعادة الثقة بمؤسسات الدولة وتقويم بنائها وتعزيز هيبتها ، عبر الارتقاء بمستوى الاداء الحكومي، ومراعاة عناصر الكفاءة والنزاهة والاخلاص والوطنية عند اختيار الوزراء وكبار موظفي الدولة واسناد الوظيفة العامة بشكل عام، بعيدا عن المحاصصات الفئوية الضيقة. الى جانب التصدي المنسق والحازم للفساد المالي والاداري على جميع المستويات، ودعم الهيئات الرقابية المتخصصة في هذا الميدان، وتطوير الآليات والتشريعات التي تحمي المال العام.
ولا يمكن الحديث عن مشاريع وطنية دون توجه جدي لوضع حد لمعاناة الشعب، وتحسين مستواه المعيشي، ومكافحة البطالة ، وتأمين الضمان الاجتماعي ، وتقديم معالجات فعالة لأزمات الخدمات (الكهرباء والماء والنقل وغيرها) والمشتقات النفطية والسكن، التي ترهق كاهل المواطنين، والعمل على تحسين مستوى الخدمات الصحية والتعليمية وتوفير الأساسية منها مجاناً، ودعم البطاقة التموينية وتحسين مفرداتها وتنويعها.
وقد اظهرت السنوات الماضية منذ التغيير في 2003، ضرورة مثل هذا التوجه المتجسد في المشروع الوطني الديمقراطي، للخروج ببلادنا من الأزمات ، وتجميع وتوحيد القوى الوطنية العراقية ذات المصلحة الحقيقية في إقامة دولة الديمقراطية والمواطنة والقانون.

اصلاح الجهاز الاداري والخلاص من المحاصصة
ما زال بناء مؤسسات الدولة، على اهمية ما تحقق فيه، مثل اعتماد دستور ينص على بناء دولة ديمقراطية اتحادية وقيام مؤسسات دستورية منتخبة واعتماد مبدأ اللامركزية الادارية ومنح صلاحيات مهمة، لا تزال غير مفعلة كلياً ، للحكومات المحلية في المحافظات، يعاني من اعتماد المحاصصة في الكثير من المفاصل، وما يترتب عليه من سوء ادارة، وتوفير تربة خصبة لنمو الفساد وانتشاره. كما يعاني من توجيه المال العام احيانا لبناء "تشكيلات" وتكريس ممارسات، لا تنسجم مع السعي المعلن لاقامة دولة القانون على وفق مبدأ المواطنة. هذا المبدأ الذي لا يمكن تصور بناء سليم للدولة واجهزتها، وبضمنها القوات المسلحة، من دون اعتماده.
ان من شان انجاز الكثير من المستحقات الملحة ذات الطابع السياسي- الاداري، وتطبيقها السليم، واعتماد المعايير العلمية للادارة ، ومباديء الفعالية والكفاءة والوطنية والنزاهة في اسناد الوظيفة العامة، ان يبعثا الحيوية ويكرسا الصدقية في مفاصل عمل الدولة .
وتضم مؤسسات الدولة الممولة مركزيا ما يزيد على مليونين وسبعمائة الف موظف ، وهي بالاضافة الى ترهلها هذا وفسادها وبيرقراطيتها ، تتسم غالبا في تعاملها مع المواطنين بالفوقية والاستهانة، وتؤدي بها طبيعتها الى الاخلال بمبدأ المجانية والمساواة في تقديم الخدمات الحكومية. لذا نرى ان من الضروري التوجه نحو اصلاح حقيقي للجهاز الاداري ، بما يعزز كفاءته ومهنيته، ويضمن العدالة في تقديمه الخدمات للمواطنين، باعتبار ذلك مهمة اساسية وشرطاً ضرورياً للبناء القويم للدولة.
ولانجاز ذلك لا بد من :
> الشروع عاجلا بعملية الاصلاح على اساس استبعاد نهج المحاصصة، وتعزيز نهج الكفاءة والنزاهة والفاعلية. ويعد الاسراع في تطبيق قانون مجلس الخدمة العامة خطوة في هذا الاتجاه.
> اعتماد الدراسة العلمية، والانطلاق من الواقع العراقي الملموس، والافادة من التجربة العالمية، بعيدا عن الاهواء والمزاجية والشخصنة في اعادة هيكلة الوزارات وغيرها من المؤسسات، وفي دمجها مع
> ان تتم العملية بالتشاور الجاد مع ذوي الاختصاص والخبرة، ومع المعنيين من ذوي الرأي السديد والوطني.
> ان تتخذ بجانب ذلك التدابير التي تحول دون التفريط بالقوى والطاقات والكفاءات، بل على العكس تحسن اعادة توزيعها وتوظيفها لخدمة المجتمع والبلاد.
> الالتفات الى الكفاءات والمواهب العراقية الكثيرة المنتشرة في بلدان العالم المختلفة، وتأمين التسهيلات التي تشجع عودتها والاستفادة من خبراتها في تحديث اجهزة الدولة وتطوير ادائها.
> الاسراع في تطبيق مشروع الحكومة الالكترونية .
ان الاستمرار في تجاهل تطبيق معايير سليمة وواضحة في اسناد الوظائف العامة ، سيزيد من اعداد المفسدين والمرتشين، ومن شلل اجهزة الدولة ومؤسساتها، وعجزها عن القيام بمهامها، وتحويلها الى ضيعات للمريدين والطبالين، وما يترتب على ذلك من فساد اداري ومالي وضعف في الاداء وانعدام للكفاءة.
من ناحية اخرى تبقى مخلفات الصراع السياسي المؤطر طائفيا، وبضمنها معضلة ملايين المهاجرين والمهجرين، تمارس تأثيراتها السلبية في حياة البلاد، وتكبح عودة الاوضاع الى حالها الطبيعي في الكثيرمن مناطق البلاد.
 

الحكم الاتحادي (الفيدرالي)
يرى الحزب الشيوعي العراقي في نظام الحكم الاتحادي شكل الحكم المناسب للعراق. وقد تبنى حزبنا هذا الموقف منذ اوائل التسعينيات من القرن العشرين، ارتباطا بالتطورات في اقليم كردستان غداة انتفاضة آذار 1991 . وجرى تثبيت ذلك لاحقاً في الدستور، حيث نصت مادته الاولى على أن "جمهورية العراق دولة اتحادية واحدة مستقلة، ذات سيادة كاملة، نظام الحكم فيها جمهوري نيابي (برلماني) ديمقراطي، وهذا الدستور ضمان لوحدة العراق".
واكد الحزب موقفه الداعي الى تعزيز الفيدرالية في الاقليم، باعتبارها الحل الديمقراطي للقضية القومية الكردية في ظروف العراق الملموسة. كما ايّد، من حيث المبدأ، اقامة نظام اتحادي (فيدرالي) في العراق، على ان يقرر العراقيون شكل الاقاليم التي يتم تشكيلها وفقا للدستور، وبموجب الاليات التي يتضمنها قانون تكوين الاقاليم.
وشدد الحزب على ضرورة التأكد، عند تشكيل اقاليم جديدة، من الحاجة الفعلية لتكوين الاقليم المعني، وكونه يلبي طموحات ابناء المنطقة ذات العلاقة، ويعبر عن ارادتهم الحرة ، بعيدا عن الطائفية والفرض والاكراه. كما يتوجب ان يتم ذلك في اجواء التوافق الوطني العام ، وان يرتبط التنفيذ بتوفير الاجواء المناسبة لتعزيزالمصالحة الوطنية الحقيقية، واعادة الامن والاستقرار. وبذلك يكون تشكيل الاقاليم، في اطار العراق الديمقراطي الموحد، عامل استقرار وطمأنينة، وتمتيناً للوحدة الوطنية القائمة على الارادة الحرة والاتحاد الطوعي . ولضمان سلامة واستقرار البناء الاتحادي للدولة، لا بد من تنظيم العلاقة بين الحكومة الاتحادية وسلطات الاقليم، واحترام ما جاء به الدستور، سواء بشأن توزيع الصلاحيات، أم بآليات تعديلها. كما ينبغي توزيع الصلاحيات بين المركز والمحافظات بما يؤدي إلى تعزيز اللامركزية، سواء على نطاق البلاد ككل أم ضمن الأقاليم، والعمل على دعم المحافظات وتمكينها من ممارسة صلاحياتها.
وفي هذا السياق يجدر الاسراع في حل القضايا العالقة ذات المساس المباشر بعملية بناء الدولة الاتحادية، وتصفية تركة النظام الدكتاتوري. ويتطلب هذا اتخاذ خطوات جادة لمعالجة اوضاع المناطق المشمولة بالمادة 140 ، ومواصلة وتعميق الحوار المتبادل حول القضايا االاخرى القائمة، والتوجه الجاد نحو حسم ما يتعلق بها في التعديلات الدستورية، وانجاز التشريعات الاساسية المعلقة مثل قانون النفط والغاز وقانون الموارد المالية وغيرهما.
ان الفيدرالية، كما جاء في الدستور، رهن بارادة العراقيين الحرة وحقهم في اختيار شكل دولتهم ونظامهم، بعيدا عن اي ظرف آني طارىء، وبما يصون مصالح العراقيين جميعا على اختلاف قومياتهم واديانهم وطوائفهم. وبهذا المعنى فهي تتعارض على طول الخط مع دعوات التقسيم والانفصال، وتشكيل الاقاليم خارج سياقاتها الدستورية .
وما اثير اخيرا بشأن الاقاليم، اكد مجددا أن استمرار الصراع غير المبدئي بين القوى والكتل السياسية، والعراك على المناصب والنفوذ، وانعدام الاستقرار والأمان، وتواصل التخندق والشحن الطائفي، ونشاط المليشيات المنفلتة والخارجة على القانون، وضعف الدولة ومؤسساتها وأجهزتها ، والميل الى التفرد والتهميش والاقصاء، والتضييق على الحريات ، وضعف الحماس للشراكة الوطنية الحقيقية والمشاركة الفعلية في السلطة.. ان هذا كله وغيره يشجع التقوقع والانعزال، ويغذي الميول الانفصالية.
كما انه يغري مختلف الاطراف الخارجية على مواصلة التدخل في الشأن العراقي، والسعي لتوجيهه وفقا لما تريد هي، وليس كما يرى ابناؤه وما يريدون لمستقبل بلدهم.


الطريق الى تنمية مستدامة
اليوم، وبعد تسع سنوات على التغيير، تبرز الحاجة الملحة لوضع خطة اقتصادية – اجتماعية ستراتيجية واضحة المعالم، تعتمد معرفة عميقة بخلفيات وامراض الاقتصاد العراقي، وتوجهاً بناءً يوظف امكانيات قطاع الدولة والقطاع الخاص والاستثمار الاجنبي في مسار منسق، وفي اطار نهج سياسي ديمقراطي ثابت، لانتشال البلد من تخلفه وتبعيته الاقتصادية، وتخليصه من الاعتماد على النفط كمصدر وحيد للثروة. خطة تبعث فيه الديناميكية وتحفز تطوره المستدام، وتطلق طاقاته الانتاجية الكامنة، وتنوع مصادره وينابيع غناه، لتحقق لشعبنا، والأجيال القادمة، مستوى معيشيا وثقافيا لائقا، يتيح لبلدنا المساهمة بشكل فعال في قسمة العمل الدولية، واللحاق بركب الحضارة والتقدم العلمي والتكنولوجي.
ويتطلب الامر بدايات جادة ومنسجمة مع واقعنا الموضوعي، بعيدا عن استنساخ النماذج الاجنبية وتكرار التجارب التي لا تلائم خصائصنا التاريخية الملموسة، ولا مكونات وظروف حالتنا الاقتصادية. ولا بد من تحديد اولويات واضحة؛ فالمشكلة ليست في الانتقال من التخطيط والادارة المركزية الى الاقتصاد الحر، لان ما شهدته الفترة الماضية لم يكن تخطيطا علميا ولا ادارة سليمة، بل كان تسلطا وتفردا واستهتارا بالقوانين، وبتوجيه الموارد وإنفاقها. وسيبقى التخطيط ضروريا للادارة العلمية للاقتصاد الوطني، وهو لا يتناقض مع اللامركزية، بل هو بديل للفوضى والعفوية.
ولا تعالج المشكلة، ايضا، بخصخصة قطاع الدولة. فكما هو معروف، شرع النظام الدكتاتوري بالخصخصة منذ الثمانينيات، وكان ذلك في الحقيقة عملية ترحيل لاملاك الدولة الى اللصوص من البيروقراطيين والطفيليين. ولم تؤد تلك الاجراءات الى زيادة طاقة اقتصاد البلد. واستطرادا نقول ان معالجة قضية تخلف الاقتصاد العراقي، وهو اقتصاد ذو طابع ريعي خدمي، تكمن اساساً في تحسين استخدام موارده، واستثمارها باسلوب سليم، وتوظيفها بشكل عقلاني وعادل وصحيح ، لتكون مصدرا للتقدم والرفاه . فالامر يرتبط بكيفية توظيف الريع في تطوير الطاقة الانتاجية وتنويع الاقتصاد، وليس بمشاريع بناء الاجهزة القمعية وعسكرة المجتمع والتسلح، وبناء مرتكزات سلطة الاستبداد والدكتاتورية، ولا بالحروب الداخلية والخارجية، ولا بنهج الترف والبذخ والاسراف، كما كان يجري.
ولا نرى المشكلة ايضا في استقلالية البنك المركزي، اذا ما جرى تحديد مفهوم هذه الاستقلالية وتوظيفها لخدمة تطوير الطاقة الإنتاجية للاقتصاد، وتحفيزه وتأمين الموارد له، وليس جعل البنك جسما منعزلا عنه. وهذا لا يعني، في كل الاحوال، العودة الى الممارسات القديمة، حيث جعلت الدكتاتورية من البنك مصدرا لتمويل خططهاالإجرامية، وعبثها السياسي والاقتصادي.
فالمعالجة، كما نرى، تبدأ من فهمٍ وتصورِ اقتصاديين سياسيين واقعيين ينطلقان من ضرورة الاستفادة من جميع انواع الملكية ( الدولة و الخاص، المحلي والاجنبي، المختلط و التعاوني) ووضعها في اطار يؤمن الاستقرار في علاقات الملكية، وتشريعها في صيغ قانونية تنسجم مع طبيعة المرحلة التي يمر بها البلد. ومن ثم الشروع بإعادة بناء المرتكزات الاساسية والبنى التحتية الضرورية لاعمار وتنمية الاقتصاد الوطني: الكهرباء (التي لا نمو او اعمار من دونها) وقطاع الطاقة عموما، وسائل الاتصال والنقل، الخدمات الإنتاجية، مشاريع الإسكان الضرورية ايضا لضمان تحريك الدورة الاقتصادية بجوانبها المختلفة، وارساء الأساس الصحيح لمعالجة مشكلة البطالة، ولاعداد وتدريب الايدي العاملة الماهرة.
ويتطلب الامر، بموازاة ذلك، اعادة الحياة للمنشآت والمؤسسات الانتاجية - الصناعية والزراعية، والخدمية، عبر اصلاح الادارة الفنية والمالية لقطاع الدولة، وتوفير مستلزمات نهوضه واعادة بنائه على اسس المردود الاقتصادي والمنفعة الاجتماعية، وتشجيع ودعم القطاع الخاص، وتأمين الحماية له من الاغراق والمنافسة غير العادلة، وتوفير التسهيلات المصرفية والتأمين والخدمات، كي يستعيد هذا القطاع عافيته ودوره في رفد الاقتصاد الوطني.
ولأجل دعم قطاعي الصناعة والزراعة ، تبرز الحاجة الى تفعيل قانون التعرفة الكمركية وقانون حماية المستهلك وقوانين التقييس والسيطرة النوعية وغيرها، بما يوفر الحماية لمنتوجنا الوطني، ويحمي المستهلك العراقي من السلع الرديئة الداخلة الى بلدنا .
وفي سياق التوجه المخطط والمدروس للاستفادة من الطاقات والكوادر الوطنية، لا بد من التفكير الجاد بتحفيز عودة الكفاءات العراقية، وضمان الاستخدام الناجع لخبراتها وطاقاتها.
كما يتطلب الامر نهجا وتوجها سليمين نحو اقامة علاقات اقتصادية، تجارية ومالية، مع دول الجوار والبلدان العربية والعالم، على أساس المصالح المشتركة والمنافع والاحترام المتبادلين، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.
ولا شك ان تنشيط الاقتصاد العراقي واعادة الحياة اليه ومعالجة تخلفه، وتحفيز وتشجيع الانتاج الوطني، مهمة صعبة ومعقدة. لكنها ممكنة التحقيق إذا ما توفرت الإرادة السياسية الصادقة، والنية الحسنة، واذا ما تم اختيار فريق وطني مخلص ونزيه وملتزم بالإستراتيجية الوطنية المعتمدة، لإدارة فروع الاقتصاد وتنميته.
والمطلوب الان هو الانطلاق الحقيقي على طريق تنمية اقتصادية – اجتماعية مستدامة و متوازنة، وتحقيق العدالة الاجتماعية، والعناية بالكادحين والفئات الاجتماعية الأكثر تضررا، وإعادة توزيع الثروة بشكل عادل . وهذا يتطلب، من بين امور اخرى ، العمل على :
< مكافحة التفاوت والتهميش الاجتماعيين عبر بناء شبكة الضمان الاجتماعي الشامل .
< دعم البطاقة التموينية، باعتبار انها لا تزال الاسلوب الانسب لدعم المواد الغذائية والاستهلاكية الأساسية، وتحسين مفرداتها وتنويعها، واصلاح وتطوير الآليات الادارية والمالية والرقابية لعقود تجهيز مفردات البطاقة وخزنها ونقلها وتوزيعها، بما يؤمن افضل استخدام للتخصيصات المقررة للبطاقة ، ويكفل الحد من الفساد، ويضمن جودة المواد ووصولها في اوقاتها المحددة .
< وضع برامج ملموسة لمكافحة البطالة وتوفير فرص عمل جديدة، وتنفيذ ستراتيجية مكافحة الفقر.
< سن قانون جديد ديمقراطي للعمل، يضمن مصالح العمال وحقوقهم بما فيها حقهم في العمل النقابي، وتوفير ضمانات العيش الكريم للموظفين والمتقاعدين، وشمول المتقاعدين جميعا، القدامى والجدد، بالقانون الجديد للتقاعد.
< وضع سلم جديد للرواتب، وتقليص الهوة بين رواتب ذوي الدرجات العليا والدنيا.
<إعادة الاعتبار لضحايا الاضطهاد خلال الحقب المختلفة، عبر إنصاف المفصولين والسجناء السياسيين وعوائل شهداء وضحايا النظام السابق وأعمال الإرهاب والتخريب، بمن فيهم ضحايا انقلاب شباط 1963 .
< توفير الشروط والضمانات لعودة المهجرين والمهاجرين، وتعويض المتضررين.


ضرورة انعقاد المؤتمر الوطني
اصبح جليا في اعقاب تطورات الفترة الاخيرة بوجه خاص، حجم الصعوبات التي تواجه ادارة البلاد وشؤونها. فهي تنتقل من ازمة الى اخرى، ومعها تتفاقم معاناة الناس وشكواهم، فيما يتزايد القلق على مستقبل البلاد ومصيرها. ويأتي عجز القوى المتنفذة عن ايجاد المخارج والحلول للمشاكل والازمات المتناسلة في العلاقات ما بينها، وفي الادارة المشتركة لشؤون البلاد، ليضيف مزيداً من القوة لتقييمنا وتوصيفنا الأزمة، بأنها أزمة نظام حكم المحاصصة الطائفية والأثنية.
ولم يعد خافيا ان الكتل المتصارعة على السلطة والنفوذ والثروة لا تمتلك، حتى الآن، الارادة الكافية للاقدام على تنازلات جدية متبادلة، يربح بها الجميع والمصلحة العليا للناس والوطن، التي غيبت في مجرى الصراع المحتدم.
وحتى الآن ،ايضا، لم تستجب الكتل المتنفذة للعديد من المبادرات، التي طرحتها شخصيات واحزاب وقوى سياسية عديدة، في مسعى للحيلولة دون انزلاق الامور نحو المزيد من التدهور، وخسران كل شيء.
وقد تعمقت كثيرا في الآونة الاخيرة حالة التوتر والتشنج والتراشق بين الكتل الحاكمة. وارتبط ذلك ببعض الاجراءات التي اقدمت عليها اطراف في السلطة التنفيذية، لم يمنع استنادها الى مبررات دستورية وقانونية، من اثارة الكثير من الاسئلة لدى اطراف اخرى في شأن توقيتها ودوافعها والغاية منها. لا سيما وانها جاءت في ظرف تمس فيه حاجة البلد الى تراص الصفوف وتمتين الوحدة الوطنية، والارتقاء الى مستوى مواجهة الاستحقاقات القادمة، وتهيئة الاجواء لطمأنة الناس. كما جاءت بعد الجلاء التام للقوات الامريكية عن اراضي وطننا في نهاية العام الماضي، وهو ما اعتبرناه مع بقية الاطراف الوطنية انجازاً مهما، واستجابة لارادة شعبنا العراقي في رؤية وطنه يتمتع ، آخر المطاف ، بكامل حريته واستقلاله.
وجاء الرد من بعض المحافظات على الاجراءات المذكورة للسلطة التنفيذية، بخطوات نحو اعلان نفسها اقاليم. وحدث ذلك في ظروف التشنج والانفعال والبعد عن السياقات الموضوعية والحاجة الفعلية، بصورة هي اقرب الى التظاهرات الاحتجاجية وردود الفعل السياسية، رغم انها بدت دستورية وقانونية.
ويثقل المشهد المأزوم اصلا الاستشراء غير المسبوق للفساد وسرقة المال العام، وغياب الاجراءات الحازمة في حق المسؤولين عن ملفاته الكبيرة. الى جانب الخروقات الامنية المتواصلة التي يتسم بعضها بطابع نوعي، واستمرار الاغتيالات بكاتم الصوت والمفخخات، وتواصل تهديدات قوى الارهاب والجريمة المنظمة بالاقدام على المزيد منها.
ان استمرارالحال الراهن لا يعِدُ بحلول للأزمة السياسية، بل ولا يفضي سوى إلى اشتداد الازمة واتساعها.
ولأجل بحث جميع القضايا التي باتت تشكل نقاط اختناق للعملية السياسية، وتدفعها إلى خارج السكة السليمة، ولاجراء المراجعة والاصلاح المطلوبين ، اضافة إلى ايجاد الحلول لأزمة "حكومة الشراكة" التي تعصف بها الصراعات، طرح حزبنا فكرة اطلاق حوار وطني شامل، تشارك فيه القوى المؤسسة والمشاركة في العملية السياسية، سواء كانت اليوم في الحكومة أم خارجها، وبما يمهد لعقد مؤتمر وطني. واعتبر حزبنا ان المسؤولية الأكبر في الدعوة لهذا الحوار تقع على عاتق اصحاب القرار في السلطة والدولة، واقترح أن يتم التمهيد للعملية بدعوة القوى والشخصيات المؤسِّسَة للعملية السياسية والمشاركة فيها، الى لقاء تتداول فيه الحلول والمقترحات المطروحة اليوم، وجميع جوانب الأزمة السياسية للبلاد ومظاهرها وسبل معالجتها، إلى جانب مراجعة بناء الدولة ومؤسساتها بصورة شاملة، وصولا الى توافقات وميثاق عمل مشترك، يعزز الوحدة الوطنية وامن البلاد وسيادتها والبناء الديمقراطي الاتحادي للدولة.
لقد باتت الحاجة ملحة، بعد تجربة تسع سنوات منذ التغيير في 2003، الى نمط تفكير جديد في خصوص ادارة البلد. نمط يستبعد تماما كل ما له صلة بمنهج المحاصصة الطائفية والاثنية، وصيغتها المهذبة المسماة "التوازن الوطني"، ويرفض التعامل مع الدولة كغنيمة، ويبتعد عن ذهنية الحاكم المطلق الدائم. فهذا كله لا بد ان يكون جزءا من الماضي، في سياق المراجعة النقدية الضرورية لمسيرة البلاد منذ التغيير في 2003 . وهو ما يفترض ان يفضي ،في نهاية المطاف ، الى تحالفات واصطفافات جديدة.
ان من غيرالجائز ابداً، ان تُهدَر تضحيات الشعب، وتذهب سدى دماء شهدائه الابرار، وان يُحوَّل البلد الى "كانتونات" منعزلة، فتضيع تجربته الوليدة في خضم التدافع على السلطة والمغانم.
ان القوى الحية في المجتمع، من جماهير وشخصيات اجتماعية وثقافية واكاديمية وسياسية، ومن احزاب واطراف وطنية وديمقراطية ومنظمات مهنية ونقابية واجتماعية، مطالبة اليوم اكثر من اي وقت مضى بالسعي دون كلل الى توسيع مساحة تأثيرها، وتعظيم دورها، وزيادة ضغطها لاعادة الامور الى نصابها، والسير بالبلاد على السكة السليمة، واستعادة الاستقلال والسيادة الكاملين، ومواصلة بناء الديمقراطية الحقة ومؤسساتها، واقامة الدولة المدنية الديمقراطية العصرية، وتحقيق العدالة الاجتماعية.
اننا نرى في ما تقدم مخرجا واقعيا، في ظل استمرار حالة الاستعصاء وعجز الكتل المتنفذة والحاكمة عن الخروج بالبلاد من ازمتها السياسية، ومن اجل الحفاظ على النسيج الوطني، وصيانة الوحدة الوطنية، وبناء العراق الديمقراطي الاتحادي الموحد.
 

الانتخابات المبكرة كخيار للحل
في هذا الجو المكهرب ليس ترفا ان يجري التحذير من عواقب الامور، او ان يصار الى التساؤل: ما دامت الاطراف المعنية عاجزة عن العثور على حل او تسوية ترضيها جميعا، فلماذا لا تعود الى الدستور، وتسترشد بما يشير اليه في مادته الـ 64 حول الرجوع الى الشعب عند الازمات، واستجلاء ارادته في انتخابات برلمانية مبكرة؟
يعترض البعض قائلا ان ذلك سيربك الوضع ويزيده تعقيدا! ولكن هل هناك ما هو اكثر إرباكا من الحال الراهن، الذي ينذر – فوق هذا - بما هو اسوأ واسوأ، اذا لم يتم تدارك الامر؟
ويرفض آخرون متذرعين بالتكاليف الباهظة! ولهؤلاء نقول ان مجرد الفرق بين زيادة اسعار النفط الخام المصدر حاليا وما خـُمن في ميزانية الدولة، لمدة خمسة ايام فقط، والذي يزيد على 300 مليون دولار، يكفي لتمويل العملية الانتخابية من الفها الى يائها!
اما من يتحججون في اعتراضهم على الانتخابات المبكرة بالسؤال: وماذا ستغير؟ فنرد عليهم بان كلاما كهذا يشكل في الواقع انتقاصا من وعي الشعب وجماهير ابنائه وبناته. فكأنهم لا يرون ولا يسمعون او يعون، وليس في مقدورهم النظر الى الامور بنحو سليم يمكنهم من رؤية الاشياء بواقعية، من دون تزويق او تشويه، والحكم عليها بموضوعية ومسؤولية.
ان الاصرار على ادارة الظهر للمخرج الديمقراطي والسلمي الذي يقول به الدستور، ومواصلة تسعير صراع المصالح والمطامح الى جني اكبر حصة ممكنة من السلطة ( النفوذ، الثروة، المكاسب، صنع القرار .. الخ ) والتي اطلقها نهج المحاصصة الطائفية – الاثنية المقيت.. ان ذلك لن يصب الا في مصلحة اعداء البناء الديمقراطي للعراق، وفي مصلحة قوى الارهاب والتخريب بالذات. ولن يؤدي ، بالتالي ، الاَ الى ابقاء العراق ضعيفا واهنا، في الوقت الذي يواجه فيه مهمات كبيرة، يتصدرها السعي لاستكمال الاستقلال و السيادة الوطنية من خلال اخراج العراق مما تبقى من احكام الفصل السابع لميثاق الامم المتحدة، وتأمين سيادته على امواله في البنوك الاجنبية و صادراته النفطية، و الغاء ما تبقى من قرارات مجحفة لمجلس الامن الدولى اثر غزو النظام المباد للكويت، والتوصل الى اتفاق مناسب مع تركيا وايران في خصوص قضية المياه، واتفاق آخر مع الكويت حول قضية ميناء مبارك، وغيرها.
ان خيار الانتخابات المبكرة الذي يتوافق - كما سبقت الاشارة - مع الدستور والممارسة الديمقراطية، والذي يتوجب ان تسبق اعتماده اعادة النظر في قانون الانتخابات وتشريع قانون الاحزاب واختيار مجلس جديد لمفوضية الانتخابات وانجاز التعداد السكاني .. ان هذا الخيار يمثل احد مخارج الازمة التي تجنب شعبنا عواقب تفاقم الصراعات بين القوى السياسية المتنفذة، والاحتمالات العنفية والمزالق الخطيرة الاخرى.

استنهاض التيار الديمقراطي
يتسم الواقع السياسي في بلادنا بمفارقة مثيرة للانتباه تؤكدها نتائج الانتخابات، وهي وجود جمهرة كبيرة من المواطنين ذوي التوجهات الديمقراطية، الموزعين على قوائم انتخابية مختلفة، ومنهم من يقاطع الانتخابات. وفي مقابل ذلك هناك تيار سياسي ديمقراطي محدود التأثير في المجتمع، وهو ما ينعكس في ضعف قدرة القوى المكونة للتيار على جمع وتوحيد صفوفها، وتنمية قدراتها على التعبئة الجماهيرية وحشد القوى التصويتية.
من ناحية اخرى، تقدم التطورات في البلاد خلال الفترة الماضية ، الدليل تلو الآخر على عجز القوى المتنفذة الممسكة بزمام السلطة، وبحكم طبيعة تشكيلها وبنائها السياسي والاجتماعي الطائفي – الاثني، ومصالحها الضيقة، عن تأمين حلول جذرية للمشاكل والتحديات الوطنية والاجتماعية-الاقتصادية التي تواجه البلاد، وتقديم برنامج لبناء الدولة المدنية الديمقراطية القائمة على المواطنة، واحترام حقوق الانسان بمضامينها الفردية والاجتماعية، والعدالة الاجتماعية. وان ما يشهده العراق من تناسل لازمات حكومات نظام المحاصصة الطائفية - الأثنية، يعزز هذا التحليل والتقييم.
ان المطلوب في المرحلة الراهنة هو بناء وحدة القوى الاجتماعية والسياسية، ذات المصلحة في اعتماد المشروع الوطني الديمقراطي، وفي النضال لتحويله إلى واقع. فهو المشروع الأقدر على تحقيق المهام الوطنية، وبناء وتوطيد النظام الديمقراطي الاتحادي الدستوري، وتحقيق تنمية اقتصادية مستدامة، وتوفير العدالة الاجتماعية .كما أنه يوفر افضل الضمانات للتصرف السليم بالموارد النفطية، وتوظيفها لبناء اقتصاد وطني متنوع وكفوء.
وعلى هذا الاساس ووفق هذه الرؤية، تبنى حزبنا منذ اواسط التسعينيات اطروحة التيار الديمقراطي، باعتباره تياراً سياسياً واجتماعيا يسعى الى الديمقراطية بمضمونها السياسي والفكري والمؤسسي، وبمحتواها الاجتماعي المتجسد في وجود قطاع دولة فاعل وكفوء، واقامة نظام ضمان اجتماعي شامل، وتوفير البني التحتية للخدمات الاجتماعية المجانية وشبه المجانية المقدمة إلى المواطنين، خصوصاً في مجالات الصحة والتعليم والاسكان وغيرها.
وحسب هذا الفهم لا يضم التيار الديمقراطي القوى والأحزاب والمنظمات والشخصيات، التي تعلن تبنيها الديمقراطية بمضامينها السياسية والاجتماعية، فحسب، وإنما يشمل القوى والفئات المجتمعية الحية، التي لها مصلحة في مشروع التيار الديمقراطي ولكنها لم تعبر عن ذلك سياسياً بعد.
وعلى هذا فان التيار الديمقراطي لا يقتصر على القوى السياسية والشخصيات المشاركة فيه حتى الان. فهو تيار منفتح امام القوى والشخصيات الاخرى التي تتبنى هذه التوجهات، وترغب في العمل المشترك.
ونجد ان الظرف الحالي يتطلب من القوى الديمقراطية، وكذلك اليسارية التي لها مشاريع سياسية واقتصادية اجتماعية أكثر جذرية، ان تدرك جيداً الاهمية الاستثنائية لدورها التاريخي في اللحظة الراهنة، وأن تتوجه لمواصلة الجهود الحثيثة الرامية الى تجميع قواها ورص صفوفها، بهدف استنهاض التيار الديمقراطي، وجعله طرفاً اساسياً في الصراع الدائر اليوم حول مستقبل العراق.
ان قوى التيار الديمقراطي القائم اليوم لا تدعي تمثيل سائر القوى الديمقراطية في المجتمع، او ان نشاطها وعملها يجعلان منها بديلاً لاي طرف آخر. ونظراً للطبيعة المتنوعة لمكونات التيار، والتي تشمل احزاباً واتحادات ومنظمات مجتمع مدني، اضافة الى الشخصيات المستقلة، تبرز ضرورة المرونة في التعامل، وسعة الصدر، ونبذ اي شكل من اشكال الهيمنة والاقصاء. كذلك يتطلب بناء تحالف هذه القوى وضمان ديمومته الاحترام المتبادل بين مكوناته، والابتعاد عن التحسس المفرط المتبادل، سيما إزاء الأحزاب من قبل بعض المستقلين. فلا بد ان يقر الجميع بحقيقة ان التيار يضم الاحزاب اضافة الى المنظمات والشخصيات، وان التفريط باي طرف او مكوَن هو اضعاف للجميع.
وبما ان المشروع الوطني الديمقراطي يستجيب لمتطلبات المرحلة الحالية ، فان مهمة استنهاض التيار الديمقراطي وتوحيد قواه تطرح نفسها بقوة. اما بالنسبة للقوى والتنظيمات اليسارية ذات المشاريع الأكثر جذرية، فلا شيء يمنع التقاءها وتعاونها وايجاد صيغ للتنسيق، من دون وضع ذلك في تعارض مع بناء وحدة القوى الديمقراطية، ومع تفعيل الدور السياسي للتيار الديمقراطي. ولا يدعي الحزب الشيوعي احتكاره لتمثيل اليسار او الفكر الماركسي، وهو يحترم التنوع والاختلاف في الاجتهاد داخل قوى اليسار. ومن الضروري ان يتبنى الجميع قواعد الاحترام المتبادل، والحرص على تأمين شروط ومتطلبات وحدة قوى اليسار، لكي تتوفر قاعدة سليمة للحوار والبحث في صيغ التعاون والتنسيق والارتقاء بها.
ان استنهاض التيار الديمقراطي ضرورة تفرضها التطورات الحاصلة في البلد، والحاجة الى لململة صفوف التيار وتجميع قواه، وزيادة وزنه وتأثيره في الحياة السياسية، وفي احداث التغييرات المطلوبة باتجاه تحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

من مهام الحزب في الفترة القادمة
في مواجهة الازمة الشاملة التي يمر بها البلد، والمفتوحة على احتمالات مختلفة، لا بد، بجانب ما جرى ذكره اعلاه ، وفي وثائق الحزب الاخرى، من التشديد على الاتي :
1 . تعزيز إمكانيات الحزب، وتوطيد بنائه التنظيمي، وبث الحيوية في مفاصل عمله على جميع مستويات هيكله التنظيمي، وتطوير حياته الداخلية عبر الالتزام بقواعد الديمقراطية، والروح الجماعية، والإبداع والمبادرة الخلاقة، والانضباط الأخلاقي العالي، وتوسيع صفوفه بضم خيرة أبناء الشعب خصوصا من الشباب والنساء اليه .
2 . المواجهة الكفوءة والواعية والعصرية للمهمات الفكرية التي تطرحها الحياة وتطوراتها، ويفرضها تعقد مهمات النضال السياسي والاقتصادي- الاجتماعي والتعامل مع التحديات الجديدة، حيث يتطلب النشاط الحزبي مستوى أرقى من التأهيل المعرفي - الثقافي، يتيح ادراكا افضل لما يفرزه الواقع من تجاذبات وتفاعلات.
3 . الانطلاق من حقيقة ان لا فاعلية لتوجهاتنا، إن لم نحولها الى نشاط جماهيري واسع، ذي شعارات ومطالب واضحة وملموسة. وهذا يتطلب تنويع انشطتنا وفعالياتنا، والانخراط في التحركات الجماهيرية، وتوسيع علاقاتنا في مواقعها: في الاحياء السكنية والمعامل والمزارع والمدارس والجامعات والمقاهي والنوادي وغيرها، في النقابات والاتحادات والجمعيات ومنظمات المجتمع المدني، في المدن والارياف وفي كل مكان. وهذا يستلزم ضمنا استنهاض الحركة النقابية والمهنية الديمقراطية، واضفاء زخم جديد على نشاط المنظمات الطلابية والشبابية والنسائية.
4 . المساهمة الفعالة في تطوير وتعزيز نشاط قوى وشخصيات التيار الديمقراطي، والسعي لجعل التيار قوة فاعلة وحيوية من قوى شعبنا الوطنية الأساسية، بجانب مواصلة تحسين وتطوير العلاقات الوطنية مع مختلف القوى والاحزاب الوطنية، التي تشاركنا النظر الى مصالح الشعب والوطن باعتبارها الاولى، والتي لا تعلوها مصالح.
5 . المزيد من الاهتمام بالاعلام، كي ينهض بدوره في التعريف بسياسة الحزب وايصالها الى اوسع الجماهير .
6 . الدفاع عن الحقوق السياسية والمدنية والحريات التي يكفلها الدستور، في وجه اية ممارسات واجراءات تعرضها للانتهاك أو المصادرة أو التهديد ، والتصدي لانتهاكات حقوق الانسان ايا كانت اشكال تجليها، واستخدام كل الوسائل والسبل السلمية والدستورية في مواجهة مساعي تشويه الممارسة الديمقراطية، ومحاولات منع الناس من التمتع بحقوقهم المكفولة دستوريا، بذرائع وحجج غايتها تأطير المجتمع بنمط محدد، وبما يخالف ارادة الناس ورغباتهم وتطلعاتهم.
 

التطورات في المنطقة
عواصف التغيير

شهدت البلدان العربية منذ نهاية عام 2010 ولغاية الان، عاصفة من التغيرات السياسية التي تكللت باطاحة طغاة تونس ومصر وليبيا واليمن. ولم تهدأ العاصفة حتى اليوم، فحركة الاحتجاج الشعبية الواسعة ما زالت تحاصر الانظمة المستبدة، فلا توجد، كما يبدو، عاصمة عربية تعيش في مأمن من تداعيات هذه الحركة. حيث شملت ، وان باشكال متنوعة ، كلا من سوريا والجزائر وعُمان والأردن والبحرين والسعودية والمغرب .
اتخذت الأزمات التي مرّت بها هذه البلدان والحراك المجتمعي فيها مظاهر وأبعاداً مختلفة، واعتملت داخل تلك الازمات وهذا الحراك وبسببها تناقضات متنوعة، وترتبت عليها تداعيات ونتائج مهمة. ولا ريب ان لهذه الأحداث التاريخية الهامة تأثيرات ايجابية على حركة الجماهير في البلدان العربية ومنطقة الشرق الأوسط والعالم. وهي التي دللت، من جديد، على أن الأحداث الكبيرة والتغيرات الجوهرية تصنعها الشعوب إذا ما وعت مصالحها.
وان من الخطأ الحديث عن عامل واحد مسبب لهذه الأحداث. فهناك الكثير من العوامل التي تضافرت ، وانعكست بشكل مباشر أو غير مباشر، محسوس أو غير محسوس . وفي رأينا ان البحث يفترض ان لا ينحصر في تلك العوامل والمؤثرات المباشرة الظاهرة، فثمة في المجتمع وفي التاريخ كثير من الظواهر، والعوامل غير المباشرة وغير المرئية، التي تفعل فعلها في إنضاج الحركات الثورية، وفي التمهيد وخلق الأجواء المناسبة لها.
إن العامل الأساس والمحرك الرئيس هو العوامل الداخلية. وحين يتم الحديث عن العوامل الخارجية وتأثيراتها فانما يراد به التأكيد ، أن لها فعلا وتأثيرا وهي تتفاعل مع ما هو داخلي. وقد ركزت شعارات الحركات الاحتجاجية على الشؤون الداخلية في بلدانها ، على قضايا اقتصادية ومعيشية تتعلق بالبطالة ورغيف الخبز و استئصال الفساد ، وبعضها الآخر كان سياسيا يدعو لاسقاط الدكتاتورية و الاستبداد، ورفض التأبيد و التوريث، ومن اجل إقامة أنظمة ديمقراطية تطلق الحريات للشعب.
وان التطلع الى البديل الديمقراطي هو الذي شجع الناس على الانخراط في النشاط الثوري، وعلى مواجهة سلطات الاستبداد والقمع والدكتاتورية. هذا هو الطريق الذي يفضي بشكل سليم الى الحراك السياسي.
اما العوامل المحركة فالأول اقتصادي - اجتماعي – مطلبي، والعامل الثاني سياسي يتمثل بمواجهة نظام الاستبداد والمستبدين، وادراك ضرورة تغيير الحياة والنهج السياسي السائد في البلد، وهو يتداخل ويتفاعل مع العامل الأول. ومن الواضح إن العوامل الداخلية، وهي الأساسية، ساعدتها وهيأت لها أيضا العوامل الخارجية، الظروف الدولية والأجواء الإقليمية المناسبة للتحرك ولتحقيق المكاسب.
فكما هو معروف شهد العالم خلال السنوات الثلاث الأخيرة تحولات وتطورات كثيرة، هزت الكثير من القناعات والكثير من المعاقل. فهي سنوات الأزمة المالية الاقتصادية العالمية، التي انفجرت في الربع الأخير من عام 2008، ولم تقتصر آثارها على الولايات المتحدة الأمريكية، بل هزت العالم كله، وان بدرجات متفاوتة. وقد وصلت آثارها بشكل مباشر الى الكثير من البلدان النامية، وبضمنها تلك المدللة لدى أمريكا، ولدى صندوق النقد والبنك الدوليين.
ان ما حصل في تونس ومصر وليبيا واليمن وغيرها من البلدان العربية ليس بمعزل عما جرى في بقية العالم، ليس بمعزل عن حركات ونشاطات الحركة الديمقراطية و الثورية في العالم. قد يقال أن بعض البلدان النفطية لا تتأثر بمثل هذا التأثير . نعم قد يكون ذلك ممكنا بحكم ما لديها من ريوع نفطية هائلة، تمكنها من أن تعالج بعض المشاكل الداخلية. ولكن علينا أن نتأمل الوجه الثاني للعملية ونتساءل: الى من تدفقت المساعدات والهبات والدعومات؟ الى من تتدفق الريوع النفطية ؟ من الواضح انها لا تتدفق لتحسين مستوى المعيشة، ولا لتحقيق التقدم الاقتصادي والصناعي والزراعي، ولا لتوفير طاقات إنتاجية. على العكس إنها مصدر للمزيد من الاثراء، ولتعميق التمايز الطبقي، وتعظيم التفاوتات الاجتماعية والتهميش. وفي بعض البلدان، كما نعلم جميعا، هناك ملايين تعيش في المقابر .. وملايين تعيش حياة الكفاف. لقد ربطت الجماهير، بتجاربها الملموسة، بين الثراء الفاحش للنخب والعوائل الحاكمة وما جرى من نهب لثروات شعوب المنطقة، باسم سياسات الانفتاح، والترويج لليبرالية الجديدة، واعتماد اقتصاد السوق المنفلت، وتكريس الزواج غير الشرعي بين المال و السياسة.
نعم، في هذه البلدان بنيت عمارات وعبدت طرق وأنشئت بنى تحتية، ولكن لخدمة الرأسماليين الطفيليين. وطبيعي ان هذا التقدم المظهري لا يلغي الاستقطاب الطبقي العميق، وإن غطى عليه لفترة. وحتى هؤلاء الحكام الذين أرادوا أن ينأوا بأنفسهم عما حصل في البلدان الرأسمالية المتقدمة من أزمات، ومن أوضاع غير طبيعية، كشفتهم وثائق (ويكيليكس) فظهروا على حقيقتهم - شخصيات هزيلة ، مهزوزة ، ذات طبيعة ازدواجية، منافقة - تقول شيئا وتفعل غيره. وهذا كله وغيره كانت مقدماته ظروف وأجواء عالمية ، تؤشر ما حصل وما سيحصل في بلدان عربية أخرى .
ولا بد أن نضع أيضا في اعتبارنا الوضع الإقليمي، عند تحليل ما جرى ويجري. فهناك حالة استعصاء تشهدها المنطقة، والمشاكل فيها لم تحل، ومواقف الحكام هزيلة ومؤذية ، لهذا نرى ما يحصل في كثير من البلدان. وعلى صعيد القضية الفلسطينية التي يعتبرها الحكام، نفاقا وزورا، القضية الأولى، يحق التساؤل: أين وصلت ؟ وما هو أفق حلها أمام التعنت والاستهتار الإسرائيليين، في تجاهل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني لا سيما حقه في إقامة دولته المستقلة، وفي تجاهل الحل السياسي؟
وحين نتحدث عن العوامل التي أثرت وتؤثر في الحراك الجماهيري الذي طبع "الربيع العربي" لا يمكن أن نتجاهل تأثير النجاحات التي تتحقق في بلد على مجرى الأحداث في البلدان الأخرى. وقد كنا أمام عملية جدلية حيث بدأت الظاهرة الجديدة، حين استطاع الشعب التونسي أن يسقط حاكمه. صحيح انه كان أمام التونسيين مشوار طويل لإسقاط النظام ومؤسساته ومعالمه، ولكن انتفاضتهم بما رافقها وما أنتجت، شكلت في الواقع عاملا إضافيا محفزا للشعب المصري. كما قدم حراك الجماهير وانتفاضتها في مصر حافزا لتحرك الشعوب العربية الأخرى.
وقد بيّن تطور الأحداث انه ما من حاكم في المنطقة يستطيع أن يتجاوز نتائج وتأثير ما حصل، وما يمكن أن يساهم في اطلاقه من هزات شعبية في بلدانهم. فتحت تأثير الحراك الجماهيري في بعض البلدان، اقدمت بلدان اخرى على تقديم تنازلات واغداق هبات والسعي للتأثير على المزاج العام، كما حصل في الاردن والسعودية، وفي سوريا قبل التطورات اللاحقة فيها، حيث تتواصل الاحتجاجات وتطرح مطالب التغيير والاصلاح والديمقراطية، وحيث يتم اللجوء الى استخدام واسع للعنف والعنف المضاد، وسط مساع عربية ودولية لفرض مزيد من العقوبات على النظام السوري، وايجاد حل للازمة السياسية المتفاقمة فيها .
ولا بد من الاشارة الى ان الثورة تعني تغيير النظام الاجتماعي واستبداله بنظام جديد مغاير . وهذه العملية لم تكتمل بعد. صحيح ان الانتفاضات هزت عروشا وأسقطت رموزا، لكنها لم تؤسس بعد البديل المطلوب . علما ان الثورة المكتملة لا تكتفي باسقاط النظام السابق، وإنما ترسم ايضا ملامح النظام الجديد وتؤسس له.
ان ما حصل في تونس ومصر وليبيا واليمن، هزّ الجميع دون استثناء، وأثار ردود فعل متضاربة. فكل يريد أن يقطف الثمار وبضمنهم الحكام السابقون او اعوانهم. فالعمليات المتدرجة المتصاعدة لزعزعة النظام السابق، تقابلها محاولات محمومة ولا تخلو من ذكاء ، لاحتواء الحركات الثورية والالتفاف عليها، خصوصا وان الانتفاضات لم تستطع وضع قيادات على رأس الإدارات الجديدة في هذه البلدان.
أن الانظمة السابقة تمتلك قواعد وركائز لا يستهان بها، ويمكن ان تشكل خطرا حقيقيا على الانظمة الجديدة.
وفي المقابل، ما زالت أمام الذين انتفضوا وغيروا الانظمة مهمات كبيرة وخطيرة، ترتبط بها مصائر الثورة والتغيير، ومستقبل الانتفاضة. فالكثيرون من بقايا النظام السابق ما يزالون يبحثون عن الفرص المناسبة، لاستعادة المواقع ولإعادة بناء الركائز التي فقدوها، بغية احتواء واستيعاب ما جرى، ثم الالتفاف عليه وإفراغه من محتواه . وهم يبدون الاستعداد للدخول في تحالفات جديدة، مع من عنده الاستعداد للمساومة على حقوق الناس ومطالبهم واهداف التغيير. كما تسعى قوى سلفية متشددة ومتطرفة الى قطف ثمار نضالات الجماهير، وفرض اجندتها الخاصة التي تضيق بالتعددية والديمقراطية والحياة العصرية.
لقد كانت للانتفاضات الجماهيرية – كما سبق القول - دوافعها ومسبباتها الداخلية . فيما جاء الدعم الخارجي محكوما بمصالح تلك البلدان التي اقدمت عليه . وقد عملت هذه البلدان على تغيير مواقفها، وفقا لما يتطلبه مسعاها الى مواصلة تامين مصالحها. فامريكا مثلا قدمت دعمها المعروف لنظامي مصر وتونس المنهارين، لكنها تخلت عنهما ، وهو ما يكشف حقيقة مواقفها ومدى حرصها فعلا على دعم الديمقراطية وحقوق الانسان .
وقد تكون الادارة الامريكية غير مرتاحة لجمود وركود سياسات بعض الحكام، لكن سلوكها العملي اظهر انها لا ترغب بحصول مفاجآت، ذات نتائج تؤثر سلبا على مصالحها وحلفائها .
لقد تمت إزاحة كابوس الاستبداد والدكتاتورية في بعض البلدان، ولكن ما زال أمامها طريق وعر وطويل من اجل بناء دولة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. وستشهد مجتمعات تونس ومصر وليبيا واليمن وغيرها صراعات حادة ، و تنافسا بين القوى حول طبيعة ومدى التغيير المطلوب، وما إذا يجب المضي به نحو مزيد من التجذير، ليشمل ليس فقط تغيير القادة والمسؤولين الكبار ومحاسبة الفاسدين وإصلاح النظام، بل ليمتد إلى إحداث تغيير جذري في بنية الحكم وطبيعة النظام القائم. لذا ستظل المعركة مفتوحة حول طبيعة ومضمون البديل، الذي تتطلع اليه الشعوب التي انتفضت .
وفي الانتخابات التي جرت مؤخرا في عدد من البلدان المذكورة ، حققت قوى الاسلام السياسي نجاحات ملحوظة، وكان من اللافت صعود قوى متشددة، مما اضفى تعقيدات جديدة على اللوحة السياسية. وهذا برغم الطبيعة المعروفة للقوى المنتفضة، وحقيقة وجود اطراف واحزاب مدنية وديمقراطية، صارت تواجه الآن مهمات جديدة في ظروف اقليمية ودولية .
وفي ظل الاوضاع الجديدة وما حملته وستحمله عواصف التغيير، تبرز الحاجة الى تعزيز المشاورات وتكثيف الاتصالات واللقاءات، بين الأحزاب والقوى الشيوعية واليسارية والديمقراطية في البلاد العربية ، بما يمكنها من التبادل العميق والشامل لوجهات النظر، وبلورة رؤية مشتركة حيال الآفاق التي ينطوي عليها النهوض الثوري الراهن للشعوب العربية، وبما يعزز من مساهمة اليسار بصفة عامة واليسار الماركسي بصفة خاصة في معركة التغيير السياسي والديمقراطي في العالم العربي. كذلك الاعلاء من شأن قيم الاستنارة والعقلانية والعلمانية والحوار في المجتمع، والتصدي لقوى الثورة المضادة والمعرقلة لمسار الاصلاحات السياسية والديمقراطية والاقتصادية، الذي يشق طريقه في ظل صراع يحتدم مع القوى التقليدية والمتشددة والمحافظة، وفلول أنظمة القمع والاستبداد والفساد، التي أطيح بها، أو تلك التي ما تزال تعاند.
ولا بد من تأكيد ضرورة مواجهة مشروع "الشرق الأوسط الجديد"، الذي يسعى الى ترسيخ السيطرة الامبريالية على منطقتنا، عبر استعادة مشاريع سابقة تهدف الى تفتيت العالم العربي الى دويلات تقوم على أسس طائفية ومذهبية وإثنية، وتصفية القضية الفلسطينية، وإقامة دولة يهودية على أرض فلسطين كاملة. كذلك رفض سياسة عسكرة المنطقة العربية - وبالتحديد منطقة الخليج- وابرام صفقات تسلح باهظة التكاليف، وتكديس الأسلحة في دول المنطقة. ويبقى هاما تأشير ضرورة العمل من أجل تصفية القواعد العسكرية الأميركية والأطلسية في المنطقة بأسرها.

قضية الشعب الفلسطيني العادلة
تواصل خلال الفترة الماضية مسار المفاوضات الفلسطينية – الاسرائيلية المنفردة والمحاطة بالرعاية الامريكية ، بعيدا عن مرجعية القرارات الدولية.ولم تؤد تلك المفاوضات الى نتيجة تذكر. فيما تسعى اسرائيل ، في كل يوم ، الى اضافة حقائق جديدة على الارض وفرضها كامر واقع. ومن ذلك مواصلتها الاعتداءات العسكرية، واستمرارها في عزل قطاع غزة ، وبناء المستوطنات، وتهويد القدس، وتوسيع الجدار العازل . كل ذلك يجري وسط تواطؤ امريكي مكشوف لدعم اسرائيل وخططها، رغم ما يبدو من تغييرات شكلية في سياسة امريكا في عهد اوباما تجاه التعامل مع قضايا الشرق الاوسط عموما ، وقضية فلسطين خاصة.لا سيما لجهة التشديد على اقامة الدولتين. فضلا عن الاثار السلبية لاستمرار الانقسامات في صفوف القوى الفلسطينية، والعجز الواضح في النظام العربي الرسمي عن دعم الشعب الفلسطيني واسناد قضيته. وبدلا من هذا نرى تسابق عدد من الدول العربية الى التطبيع مع اسرائيل، قبل ان تفي هذه بكامل التزاماتها وفقا للشرعية الدولية.
ان تجربة السنوات السابقة قد برهنت على فشل المراهنة على الموقف الامريكي ، وضرورة التوجه الى الالتزام بمرجعية القرارات الدولية ومؤسسات الامم المتحدة ، بما في ذلك القرارات ذات العلاقة بانسحاب اسرائيل الى حدود ما قبل 5 حزيران 1967 ، وبقضايا اللاجئين والقدس . ان فكرة التخلص من ثنائية المفاوضات برعاية امريكية منحازة ، والتوجه الى عقد مؤتمر دولي جديد ترعاه الامم المتحدة ويتوج باعلان دولة فلسطين، هي المخرج الواقعي من المأزق الراهن، الذي يوفر مكاسب جديدة لاسرائيل على حساب حقوق الشعب الفلسطيني.
وان التمسك بذلك يتطلب، من بين ما يتطلب، وضوح الرؤية الفلسطينية، وتحقيق الوحدة الوطنية ، والتوجه الى حشد التأييد العربي والدولي . وان الحقائق المتحققة في منطقتنا، وزخم الحراك الشعبي الواسع ، والمتعاطف اصلا مع حقوق الشعب الفلسطيني العادلة ، اضافة الى المتغيرات الدولية ، توفر ارضية مناسبة للانطلاق بزخم افضل .
وفي ظل الظروف والمعطيات الجديدة نجدد تأكيد ضرورة التنفيذ الكامل للقرارات الدولية، والاستجابة لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره بنفسه، واقامة دولته الوطنية على ارض وطنه ، وانهاء الاحتلال الاسرائيلي للاراضي العربية.
ولكي نحيط بمجمل التطورات والاحداث الهامة في المنطقة، والنظر اليها في ترابطها، نشير الى عدد منها:
1- تواصل ازمة الملف النووي الايراني وتأثيرات ذلك على عموم المنطقة، وما ترتب عليها ويترتب من فرض عقوبات على ايران ،من قبل امريكا واوربا خاصة . وما زال خطر ان يتطورالامر الى نزاع مسلح قائما .
اننا نؤكد موقفنا الداعي الى معالجة هذه القضايا عن طريق الحوار، وتجنيب المنطقة شرور حرب جديدة، وهي لم تلتئم جراحها من الحروب السابقة بعد. كما نشير الى موقفنا الداعي الى جعل الشرق الاوسط منطقة خالية من الاسلحة النووية والكيماوية والجرثومية ، مع تأكيد حق الشعوب في استخدام الطاقة النووية للاغراض السلمية .
2- في ان العديد من البلدان العربية ذات تعددية قومية ودينية وطائفية ، ومن الواجب واللازم مراعاة حقوق افراد مجتمعاتها كافة وضمان تمتعهم بها. ولا ريب في ان ذلك لن يتحقق الا في ظل انظمة ديمقراطية حقيقية، تراعى مبدأ المواطنة وتلغي أي مظهر من مظاهر التمييز ومصادرة الحقوق . فعبر هذا فقط يتحقق الانسجام، ويتم تمتين عرى الوحدة الوطنية والنسيج الاجتماعي. وكلما تحققت ديمقراطية كهذه ، كلما قل بروز حالات الانفصال، الامر الذي لم تتم مراعاته في السودان، فادى الى انفصال جنوب السودان، وهو ما كان يمكن تداركه. وتتحمل حكومة البشير المســؤولية الــكاملة عن ذلك، وعما يحصــل في مناطق اخــرى من السودان. فهي من سبــب االازمة الشاملة التي يعاني منــها البلد .


الاتجاهات العامة لتطورات الوضع العالمي
حول الأزمة المالية العالمية

تعصف بالنظام الرأسمالي منذ 2008 أزمة اقتصادية ومالية، هي الأشد والأعمق منذ الركود الكبير أواخر عشرينيات القرن الماضي وأوائل ثلاثينياته. وكان بين الآثار المباشرة للأزمة أنها هزّت احد أهم مرتكزات الهيمنة الايديولوجية، التي فرضتها الليبرالية الجديدة على مدى عدة عقود. حيث اثبتت هذه الأزمة، من جديد، أن السوق المنفلتة ليست عقلانية ويمكن أن تقود إلى كوارث. كما زعزعت الاعتقاد بعدم وجود بدائل أفضل للنظام الاقتصادي الدولي الراهن، واعطت دفعاً للمناضلين من اجل بديل يتجاوز الرأسمالية، وبدرجات مختلفة من الجذرية.
ومن المــلامح الــرئيســة لــلأزمة الحــالية ، وقد اكتسبت طابعا معــولماً، طغيان الطابع المـــالي علــى الاقتصاد الرأسمالي في المراكز الرأسمالية، نتيجة لاطلاق حرية حركة وانتقال رؤوس الاموال عبر الحدود، وإزالة جميع الضوابط الوطنية التي تتحكم فيها. وترتب على ذلك تضخم انشطة المضاربة، وانحسار الأنشطة الانتاجية، وتراجع الوزن النسبي للاقتصاد الحقيقي، وتآكـــل السيادة الوطنيــة، وخصـوصـــاً على صعيد السيــاســة الاقتصادية. ويقترن كل ذلك بمعدلات بطالة مرتفعة، واستقطابات شديدة في الثروة والدخل، وتعرض فئات ومجموعات اجتماعية متزايدة للتهميش الاجتماعي والاقتصادي. كما يقترن بالاستنزاف المتسارع للموارد الطبيعية، وما ينجم عنه من اختلالات خطيرة في التوازن البيئي. ويتزايد تفكك النسيج الاجتماعي، مع الهجمة الشرسة على انظمة الرعاية والضمان الاجتماعيين في البلدان الرأسمالية، وتنفيذ برامج التقشف، والتقليص الحاد للأجور والرواتب التقاعدية والنفقات الاجتماعية، وإلقاء عبء الأزمة على دافعي الضرائب، الذين يرغمون على دفع مئات مليارات الدولارات لإنقاذ مؤسسات مالية من الافلاس. وكان من امثلة ذلك ما جرى في ايرلندا واليونان، فيما تواجه اقتصادات اخرى، في البرتغال واسبانيا وربما ايطاليا، مصيراً مماثلاً.
وتقدم اليونان مثالاً صارخاً على تداعيات الأزمة في اوروبا. فالترويكا المكونة من الاتحاد الأوروبي والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي، دفعت الاقتصاد اليوناني إلـى الخـــراب، حيث ارتفعت البطالـة في البـلاد من 11بالمـائة إلى 16بالمـائة، وارتـفع مــعـدل الديون بشكل انفجــاري إلى 150 بالمائة من الناتج الاقتصادي، وتقلص الإنتاج الصناعي منذ عام بنسبة 11 بالمائة. ولم تفشل الرأسمالية اجتماعيا فقط، وإنما تقوم بتدمير الإنتاج الصناعي. ومن المقرر ان يرتبط منح قروض جديدة لليونان، مرة أخرى، باشتراط بيع الممتلكات العامة في البلاد الى القطاع الخاص، وإجراء استقطاعات حادة على الصعيد الاجتماعي. وتكشف هذه التطورات بوضوح الفشل الاجتماعي الكبير للرأسمالية في أوربا.
وتهدد أزمة الديون السيادية المتفشية أساساً في منطقة "اليورو" (العملة الأوروبية الموحـدة التي يستخــدمهــا ما يــزيد علــى 332 مليون نسمة في 17 من 27 دولة عضو في الاتحــاد الأوروبــي) بزعـزعة الاستــقرار في الأســواق المالية في الولايات المتحدة.
ومن المتوقع أن يزحــف الركود، أو على الأقل التباطؤ الاقتصـادي، على كل مكان في الــعالـم جــراء الركود الأوروبي وأزمة مـنـطـقـة "اليورو" التي تسير نحو الأســوأ، وفي اعقاب التخفيضات فـي الميزانية التي قررها الكونغرس الامريكـي، استجابة لشروط الحـزب الجمهـوري مقابـل موافقته على رفع سقف دين الدولـة، تجنـبا لاعلان الحكومـة الأمريكـية عـجزها عن تسديد اقــسـاط الـدين الحكـومـي.
و حذر خبراء من أن تداعيــات الـركـود العـالمـي في السنـــوات الاخيرة، أثرت بشكل كبير على البلدان النامية، واصــبحـت تعيــق تحقيــق اهداف ألفيــة الأمم المتحدة، ومن ضمنـها القضــاء على الفقر المدقع والجــوع بحـلـول 2015 .
محاولات احتواء الأزمة
وكان من العلامات المميزة للأزمة عولمة إجراءات مواجهتها ومحاولات وقف تداعياتها، كما تجلى في الاجتماعات المتوالية لدول "مجموعة الثمانية" (الدول الصناعية الثمان) ثم زعماء دول "مجموعة العشرين". وقد أقرّ هؤلاء نقاطاً عدة اعتبروها أساسية لانبثاق ما وصفوه بـ " نظام عالمي جديد"، أهمّها دعم صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وتحفيز التجارة الدوليّة، وإطلاق ما قالوا انه "عمليّة عميقة لتخليص المصارف من اصولها واستثماراتها السيئة وتعزيز الشفافيّة". ولكن هذه الاتفاقات او التصريحات المعلنة، لم تتمكن من إخفاء الخلافات العميقة بين فرنسا وألمانيا من جهة، و الولايات المتحدة وبريطانيا واليابان من جهة أخرى.
وتبددت في الأشهر القليلة الماضية بعض المؤشرات الاقتصادية "المتفائلة" بشأن بدايات خروج الاقتصاد الامريكي والاوروبي من الركود الاقتصادي، بعد تعمق الأزمة النقدية في منطقة "اليورو" واستمرار المخاطر التي تهدد اقتصادات بعض بلدان الاتحاد الاوروبي، رغم الاجراءات الاستثنائية التي اتخذت لإنقاذ اقتصاد ايرلندا واليونان والبرتغال واسبانيا من الانهيار. ويتوقع ان يطول الأمد الزمني لتداعيات الأزمة، وان ترافق ذلك موجات واسعة من عمليات الاندماج ومن البطالة والتهميش والاستقطاب، على الصعيد العالمي.
وتجلت الأزمة العالمية في إفلاس عدد من كبريات المؤسسات المالية والمصرفية في الولايات المتحدة وأوروبا، وفي حدوث اهتزاز خطير في المراكز المالية للمصارف وشركات الاستثمار والتأمين. وهو ما استدعى تدخلاً مباشراً وغير مسبوق من قبل الدولة في عواصم البلدان الرأسمالية المتقدمة، إسناداً لمؤسساتها المالية وللحيلولة دون انهيارها، الذي من شأن تداعياته أن تخلق أزمة اقتصادية شاملة، تمتد الى الاقتصاد الحقيقي، أي الى مجال انتاج السلع والخدمات وتوزيعها وتداولها. أزمة يتحمل وزرها الأكبر ملايين الشغيلة وعامة الشعب، وذلك سواء بتسريحهم من اعمالهم، او بفقدانهم الممتلكات الخاصة بسبب عدم قدرتهم على تسديد القروض، وتوقف العمل في الكثير من ميادين النشاط الانتاجي والخدمي.
ومما يؤشر عمق الأزمة وخطورتها على النظام الرأسمالي، إضطرار زعماء نهج الليبرالية الجديدة الداعي إلى "تحرير" الأسواق وإقصاء الدولة عن الاقتصاد، إلى اقتراح خطط لـ "تأميم" المؤسسات المالية المأزومة، وزيادة "تدخل" الدولة في الشأن الاقتصادي.
فالأزمة تمثل تهديداً بالغ الخطورة للاقتصاد العالمي ككل، نتيجة الدور المتعاظم للرأسمال المالي، والتشابك المتنامي والاعتماد المتبادل بين اقتصادات الدول، ارتباطاً باتساع عملية العولمة، وما يمكن أن يسببه الركود الاقتصادي من معاناة شديدة على الصعيدين الانساني والاجتماعي، ومن تداعيات محتملة على مختلف الصعد في البلدان المندمجة بالاقتصاد الرأسمالي المعولم. ومن جانب آخر تعلن الازمة بصورة قاطعة فشل النموذج الليبرالي الجديد المتطرف للرأسمالية، الذي ساد على مدى أكثر من عقدين، ومعه اطروحاته في اطلاق العنان لانفلات قوى السوق، والاعتماد المطلق على آلياتها في ضبط حركة الأسواق وتوازنها.
وجاءت تصريحات بعض زعماء الدول الرأسمالية لتؤكد هذا الاستنتاج، حيث اعلنوا وجوب إجراء مراجعة كلية للنظام الرأسمالي، ولآليات عمله وضوابط حركة وتنظيم الأسواق، درءاً لخطر رواج الأفكار والمشاريع المناهضة للرأسمالية والداعية لتجاوزها.
وتتجلى الظاهرة الأساسية التي تقف وراء الانهيار في نظام الائتمان في البلدان الرأسمالية، في ازدياد الفجوة بين وتيرة نمو حركة رؤوس الأموال والاقتصاد المالي من جهة، و حركة الاقتصاد الحقيقي من جهة ثانية، أي نمو انتاج السلع والخدمات وتبادلها.
وقد شهدت العقود الثلاثة الماضية، ارتباطاً بسياسات تحرير الأسواق من الضوابط المنظّمة لها، وخصوصاً الأسواق المالية، ، تنامياً متسارعاً لانتقال وتداول رؤوس الأموال والأوراق والسندات المالية والتوظيفات المالية، بحيث باتت قيمتها تساوي عدة أضعاف قيمة مبادلات السلع والخدمات. وترتب على ذلك انفصام متزايد بين حركة ونمو المجالين: الاقتصاد المالي والاقتصاد الحقيقي، والهيمنة الشاملة للاقتصاد المالي والنقدي على النظام الاقتصادي العالمي، خاصة في البلدان الرأسمالية المتقدمة، وخضوع هذا النظام إلى منطق تحقيق أقصى الأرباح لحملة الأسهم والسندات، وغيرها من أدوات التوظيف المستحدثة، التي تشجع المضاربة الشديدة وتحمل مخاطر غير عقلانية.
وتعبر هذه الأزمة عن التناقضات الداخلية للرأسمالية المعولمة، وتكشف مجدداً عجز هذا النظام عن حل التناقضات في إطاره من جهة، ومحاولته انقاذ مؤسساته المالية المنهارة بما يحفظ مصالح الطغم المالية المتسببة في الأزمة، حتى عن طريق تحميل أعبائها لعموم المواطنين، باستخدام الأموال التي يدفعونها بشكل ضرائب.
تناقضات تفتح إمكانات
في حين ما تزال الرأسمالية تمتلك من الثروات والأدوات ما قد يمكنها من احتواء الأزمة، بحيث لا تؤدي إلى انهيار النظام بأكمله، فان الاستنتاج الأهم الذي يمكن التوصل اليه بهذا الشأن، هو أن العالم لن يعود كما كان قبل انفجار الأزمة. فهذه ستفرض على الرأسمالية طي صفحة الليبرالية الجديدة، ووضع ضوابط جديدة يفترض ان تحول دون انفلات حركة الأسواق المالية ودون تكرار انفجار أزمات مشابهة. وبذلك تكون الأزمة قد أعلنت نهاية أطروحات "نهاية التاريخ" و "أبدية النظام الرأسمالي" التي انتعشت بعد انهيار الأنظمة الاشتراكية في أوروبا، فيما تحفز عملية الانتقال الى عالم متعدد الأقطاب، حيث يبرز دور دول روسيا والصين ودول اوربا الموحدة والهند والبرازيل وغيرها، في وقت يشهد تراجعا في نفوذ وقوة الولايات المتحدة الامريكية. وهي بذلك تفتح أفقاً جديداً لنضال القوى المناهضة للرأسمالية على الصعيد العالمي.
وتجدر الاشارة الى ان الازمة وفرت، على صعيد الفكر والوعي، تربة خصبة لانتعاش الافكار العصبوية المتشددة (العنصرية والشوفينية والدينية المتطرفة...). وينجم عن ذلك كله احتدام في التناقضات والصراعات، ولجوء القوى الرأسمالية المهيمنة إلى العنف السافر والتدخلات المباشرة والحروب المحلية، لضرب وقمع القوى المناهضة لها.
وتدفع تناقضات الرأسمالية المعولمة طيفاً واسعاً ومتزايداً من الشرائح الاجتماعية للوقوف ضدها، بسبب تعرض مواقع هذه الشرائح ومصالحها للضرر، بما في ذلك شرائح من الرأسمال، ناهيك عن الطبقة العاملة والشرائح الوسطى. ويحتل البعد "الثقافي" أهمية متنامية، حيث تخوض العديد من القوى الاجتماعية والسياسية الصراع من منطلقات الدفاع عن الهوية، القومية أو الدينية.
وتؤدي هذه اللوحة المعقدة إلى خلق امكانيات واسعة لتطوير الحركات الاحتجاجية، وإكسابها محتوى مناهضاً للرأسمالية. ولكن ثمة تحديات فكرية وسياسية ايضاً تواجه تحقيق التحالفات المطلوبة، وتوحيد المطالبات المشتتة في تيار منسجم يعادي الامبريالية ويحمل، في الوقت نفسه، مشروعاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً تقدمياً.
ومن اكبر هذه التحديات والصعوبات، الجمع بين النضال من اجل التحرر الوطني والاستقلال وبين الخلاص من الهيمنة الرأسمالية المعولمة وتحقيق الديمقراطية، ببعديها الاجتماعي والسياسي. فاهمال أي من هذين البعدين يقود الى اختلالات جدية، والى اصطفافات غير منسجمة ومتناقضة. لذا فان النضال ضد الامبريالية لا بد أن يقترن، على نحو متلازم، بالنضال من اجل الديمقراطية والسلام والعدالة الاجتماعية.
كما أن تنوع القوى والفئات التي تصطدم مصالحها بالرأسمال الاحتكاري المعولم وسلطته السياسية، والتراجع النسبي في قوة التضامن الاجتماعي بسبب التغييرات التي احدثتها التكنولوجيات الحديثة في الانتاج، إلى جانب تأثيرات العولمة وتوزيع العمليات الانتاجية، يجعل من الضروري ابتكار صيغ متنوعة ومرنة للتحالفات والقضايا التي تخاض من أجلها النضالات المشتركة.
ومن الامور الجديرة بالتوقف عندها في التحليل، العلاقة بين الصراع الطبقي والصراعات الاخرى، والتي تختلف في درجة اقترابها وابتعادها وصلتها بالصراع الطبقي. ويتحدد البعد التقدمي للصراعات الاخرى بقدر اغتنائها بالمضامين الاجتماعية.
ولا بد من الاشارة الى الحركات الجديدة التي شهدها العالم الرأسمالي في الفترة الاخيرة، وفي مقدمتها حركة " احتلوا وول ستريت"، والتي انتشرت بأشكال مختلفة في مئات المواقع داخل الولايات المتحدة وخارجها. وهي تستند في طروحاتها على مجموعة من الشعارات تستهدف بجملتها الشريحة العليا من المجتمع والقطاع المصرفي، وتنال تأييدا متناميا من اوساط اجتماعية مختلفة. ورغم الطبيعة العفوية والنزعات الشعبوية احيانا للحركة المذكورة، والتباينات الطبقية والعرقية بين المشاركين فيها، الا ان القاسم المشترك الذي يجمع غالبيتهم هو المطالبة بإعادة توزيع الثروة، التي يعتبر المشاركون ان "وول ستريت " وما يماثله من المؤسسات وما يستند عليه من قوى، هم المسؤولون عن التفاوت في توزيع الدخول وعن الازمة المندلعة منذ ايلول 2008 . لقد ساهمت "وول ستريت" بصورة مباشرة في تعظيم الاستقطاب، وتعزيز اللامساواة وبالتالي الازمة، لأن ارتفاع المداخيل في القطاع المالي انعكس زيادة ملحوظة في حصة الواحد بالمائة، المتربعة على قمة الاقتصاد، من الدخل القومي.
ولم يبق الغضب محصورا في " وول ستريت " وحده، بل امتد الى بقاع اخرى. فقد اجتاحت التظاهرات ما يقارب الالف مدينة في حوالي 85 دولة ، وشملت مختلف القارات. لقد تفجر الغضب العارم ضد ظلم القوى المسيطرة في قلاع راس المال، وفي مقدمتها الـ " وول ستريت " ومن الواضح ان شعارات من قبيل: " انتم تضاربون بحياتنا " و" انتم تقامرون بمستقبلنا "، تعكس التطلع والارادة في ان يكون الوضع الجديد اكثر عدالة ومساواة.
لقد اعلنت الازمة فشل النموذج الليبرالي الجديد المتطرف للرأسمالية، وفتحت بذلك آفاقاً جديدة تحمل إمكانات واعدة لنهوض واتساع نضالات القوى المناهضة ليس فقط للعولمة، بل وللرأسمالية ذاتها. ومن المتوقع ان تشق توازنات جديدة طريقها رغم كل العوائق، ورغم المقاومة التي تبديها الرأسمالية المعولمة، ما يفتح بالتالي فرصاً ويوفر امكانات جديدة للتغيير وبناء عالم أفضل.


تحديات تواجه قوى اليسار
يطرح الوضع العالمي الراهن ، بقوة اشد من أي وقت مضى، الحاجة الى تطوير بدائل اليسار والنشاط الموحد للقوى التقدمية ضد الحرب والنيوليبرالية والامبريالية، ونعني القوى التي حققت انتصارات كبيرة في انتخابات تشيلي وفنزويلا والبرازيل والاكوادور وبوليفيا وبيرو والاروغواي .. وغيرها. بالاضافة الى الترويج للافكار والاهداف الاشتراكية، وتشديد مكافحة النزعات اليمينية المتطرفة والرجعية على الصعيد العالمي. ويرتبط هذا على نحو وثيق بتعزيز التضامن العالمي ضد الاستراتيجية العدوانية للامبريالية، وضد هجوم العولمة الرأسمالية، والحاجة الى تقديم الدعم النزيه للنضالات المتواصلة في ارجاء العالم، من اجل السلام والحرية والديمقراطية والتقدم الاجتماعي.
وعلى صعيد المنطقة العربية، التي ما تزال مجتمعاتها تتفاعل مع تداعيات "الربيع العربي"، تبرز اهمية استعادة قوى اليسار دورها، وتبنيها برنامجاً واقعياً للتحرر الوطني – الاجتماعي، يستند على النضال من اجل التغيير الديمقراطي، باعتماد وسائل النضال المشروعة التي تأخذ بالاعتبار خصوصية كل بلد. كما ان معالجة الأزمات العميقة الناجمة عن سياسات الانظمة العربية، وتبعيتها للرأسمالية النيوليبرالية العالمية، وفي مقدمتها الفقر والبطالة، تتطلب تطوير مقترحات ملموسة لبرنامج للنهوض الاقتصادي والتنمية الاجتماعية، بما في ذلك التنمية الشاملة، كبديل لسياسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
ويتطلب تحقيق هذه الاهداف تنشيط دور اليسار في الحركة الاجتماعية، وتطوير رؤية سياسية نقدية تجاه الانظمة القائمة. وينبغي ان يكون الهدف الرئيس لبرنامج التغيير المميز الذي يتبناه اليسار، اقامة حكم وطني ديمقراطي ذي أفق اشتراكي، يمثل بديلاً للأنظمة التابعة. وفي هذا السياق، يتعين على اليسار ان يعمل على تعبئة العمال والفلاحين والمثقفين التقدميين وغيرهم من الفئات الاجتماعية، المتضررة من الهيمنة الامبريالية والراسمالية المتوحشة، في حركة جماهيرية من اجل تحقيق تغيير ديمقراطي حقيقي. وتتضمن المهمات الرئيسة لهذه الحركة، النضال من اجل جانبي الديمقراطية المترابطين على نحو وثيق: الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية.
ان تحقيق الديمقراطية، وبناء دولة قانون ومؤسسات تقوم على مبادىء المواطنة، هما الضمان لدرء الانقسامات الطائفية. وفي هذا الصدد يكتسب الدفاع عن حقوق الانسان، خصوصاً حقوق المرأة، وعن الحريات الديمقراطية الأساسية والحقوق النقابية، اهمية بالغة بالنسبة الى اليسار، باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من القضايا الوطنية الكبرى.