انتفاضة 25تشرين الاول (اكتوبر )هي انتفاضة شعبية شبابية عفوية ،تضامن معها الشعب العراقي لإدامة زخمها وتصعيده لتحقيق اهدافها المطلبية والوطنية ،وان غابت عنها القيادة المركزية الا انها انتفاضة مجتمعية افقية ،اتسمت بالانضباط العالي والوجهة السلمية في أساليبها النضالية ،فعفويتها ليس بمعنى غياب الوعي عنها وانما لانطلاقها دون ان يكون لحزب او منظمة او جهة معينة دور المخطط لها .فالوعي لديها متراكم والشباب المشاركون فيها امامهم خزين من الخبرة والتجربة التي افرزها الحراك الجماهيري بدءاً من التظاهرات التي انطلقت في عام 2010 وما تلاها من تظاهرات أخر حيث كان للقوى المدنية دورها المتميز فيها ،فشباب الانتفاضة اليوم مسلحون بأساليب النضال السلمية المختلفة ولهم القدرة على التصعيد في شعاراتهم ومطالبهم حيث غدا شعارهم الاساسي اليوم هو (نريد وطن ).
ان انتفاضة 25تشرين الاول (اكتوبر )2019 جسدت في شعاراتها الواقع المرير الذي عاشته وتعيشه البلاد اليوم ،والمرتبط وثيقاً بنظام المحاصصة الطائفية والاثنية الذي انتج الفساد والمفسدين وبدد خيرات البلد وغيب الوطنية والمواطنة وقزم الدولة وجعلها مرتعاً للدول الاجنبية والاقليمية ففقدت سيادتها واستقلالها وغدا البلد مأزوما في كل النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ،وتفشت البطالة وارتفعت نسبة الفقر ناهيك عن ضعف الخدمات الصحية والتعليمية والبلدية والاستمرار في أزمات الكهرباء والماء الصالح للشرب وتدهور الوضع المعيشي لفئات واسعة من الفقراء والمهمشين وذوي الدخل المحدود ،وفي مساعي تكتيم الافواه وتنميط الحياة والتضيق على الاعلام وعلى الحريات الخاصة والعامة التي كفلها الدستور .تلك هي الاسباب الموضوعية (الداخلية )لاندلاع الانتفاضة .فهي ليست مدفوعة من جهة خارجية كما تروج لها الحكومة واحزابها النافذة واعتبارها مؤامرة واتهام المنتفضين بنعوت مختلفة ،وجلهم من الشباب اليافعين وحلمهم ان يكون لهم وطن معافى مهاب يعيد اليهم كرامتهم وانسانيتهم ،يوفر لهم العيش اللائق والحرية ،وطن تزدهر فيه الزراعة والصناعة ويسوده القانون .
وسعت الحكومة وتسعى الى تشويه سمعة الانتفاضة واتهامها بالانتهاكات والتجاوزات التي حدثت وما طال بعض الدوائر والبيوت من حرق وتخريب ،فالمندسون ليسوا من رحم الانتفاضة ولا اجافي الحقيقة حين اقول بأن هؤلاء المندسين تعرفهم الحكومة نفسها وهم مقربون من الاحزاب الحاكمة وتابعون لها. وجاء هذا بشهادة بعض القادة العسكريين .امعقول ان الحكومة بثقلها الاستخباراتي والامني والعسكري لا تعرفهم؟!ان انتفاضة اكتوبر قدمت من الشهداء مالم تقدمه اية انتفاضة عراقية في تاريخ العراق المعاصر ،فقد قدمت اكثر من 400شهيد، و 17 الف مصاباً وجريحاً ،وجلهم من الشباب والشابات ومن فئات اجتماعية مختلفة .وما يسجل للانتفاضة هو ذلك الايثار لشبابها وهم يواجهون الرصاص الحي بصدور عامرة وحب للوطن والاستعداد لبذل الغالي والنفيس من اجل ان تبقى رايته خفاقة في سمائه.فقد اتصفت الانتفاضة بالاستمرارية والمطاولة وها نحن ندخل اسبوعها الثامن وهي في تصاعد جماهيري لا نظير له واستخدمت في نضالها مختلف الاساليب السلمية من تظاهرات واعتصامات واضرابات ومسيرات كذلك تنظيم التجمعات الجماهيرية ومازال لديها المزيد في حين توغل الحكومة في استخدام مختلف اساليب العنف والقتل العمد ،باستخدام الرصاص الحي والمطاطي والقنابل الصوتية وقنابل الغاز المسيل للدموع والماء الحار ،والاختطاف وتكميم الافواه والاعتقالات ،وملاحقة الناشطين ،والتغييب القسري وتهديد الطلبة والمعلمين بالفصل.
كما تميزت الانتفاضة بقاعدتها الجماهيرية الواسعة وهي في تزايد مضطرد، فانضمت اليها منذ اليوم الاول لانطلاقتها منظمات المجتمع المدني والنقابات والاتحادات والجمعيات ومنظمات المرأة والطلبة والشبيبة وسائر منظمات القوى المدنية الاخرى، وكان للطلبة دورهم الملحوظ والمتميز في الخروج الى ساحات التظاهر في عموم البلاد رغم التهديد بالطرد والفصل، فدخولهم سوح النضال والوقوف مع الانتفاضة يؤشر جماهيرية الانتفاضة فهم وعاؤها الذي تستمد منه زخمها واندفاعها وتطلعاتها اللاحقة.
وكان للمرأة العراقية شرف المساهمة في انتفاضة الشعب بحضورها الجماهيري في ساحة التظاهر اماً ،واختاً ،وزميلة ،كما شهدت الانتفاضة ذلك الحضور العائلي البهي ،عوائل بكاملها، كباراً وصغاراً يحملون معهم العلم العراقي والكمامات والشعارات تعبيراً عن موقفهم الى جانب المنتفضين وتعبيراً عن حبهم العراق .اما مركبات التكتك فقد سجلت حضوراً فيها لنقل المصابين والشهداء الى المشافي القريبة وخيم الاسعاف ،تطوعوا مجاناً لنقل اخوانهم المصابين والشهداء ،وكانوا مرابطين مع الثوار عند نقاط المواجهة ،وما قيل بحقهم من كلام شعراً وغناءً ونثراً فهو قليل بحقهم .
الكرم العراقي كان حاضراً في ساحات التظاهر حيث المواكب والعشائر والعوائل ومنظمات وافراد وفنانين وتجار تطوعوا جميعهم لتوفير متطلبات الانتفاضة والمنتفضين من مأكل ومشرب وخيم واغطية ،وشهدت الساحات خيم مخصصة لمعالجة الجرحى والحالات الطارئة يعمل فيها اطباء وطلاب الكليات الطبية وموظفين صحيين وقد تحملوا صنوف المضايقات والملاحقات واستشهد البعض منهم وهم في معنويات عالية لم ترهبهم هذه الاساليب الوضيعة اللاإنسانية من قبل بعض الجهات الامنية .
ان ساحة التظاهر اليوم في حلة جديده لاسيما ساحة التحرير كأن القادمين اليها في كرنفال احتفالي مبهر وهم بوجوه تنز املاً بأن قادم الايام يبشر بالنصر النهائي ،فنفق التحرير الذي اهمل لسنوات وكاد ان يكون مكباً للنفايات تنبعث منه الروائح العفنة اصبح اليوم في حلة جديدة فقد طليت جدرانه وزينت بصور الشهداء وبالمناظر الجميلة واللوحات المعبرة وبصور حافلات التكتك التي ابلت بلاءً حسناً ،وهناك مساحات مستطيلة مسيجة تتوسط النفق سطرت بالشموع وهي متقدة وبالأزاهير تحتضن صور الشهداء حيث تتوزع هنا وهناك ،ويقف الزائر والمتظاهر بخشوع امام صور الشهداء ليوقدوا الشموع لهم يستذكرون مواقفهم وتضحياتهم البطولية وهم في اعمار يافعة ،وانت تشق طريقك بصعوبة داخل ساحة التظاهر تجد هنا مجاميع من الشباب يلقون قصائدهم وهناك من يهزج ويتغنى بالانتفاضة وبطولات شهدائها وهناك تجمع كبير من المنتفضين يستمعون لمتحدث عن الوضع السياسي ومتطلبات المرحلة وافاق الانتفاضة .
اما المطعم التركي الذي اصبح اليوم قلعة للمنتفضين وتحت تصرفهم لموقعه الاستراتيجي في الدفاع عن الانتفاضة في حالة مداهمتها وضربها من قبل القوات الامنية والذي سمي في أيامه الاولى (جبل احد) ليعتصموا فيه دفاعاً عن انتفاضتهم، فغدا اليوم عالما آخر ،فقد جرى تأهيله وتزيينه وطلاؤه من جديد وزود بالماء والكهرباء وفتحت مكتبة فيه ليقضي المنتفض هناك استراحته ليغذي ذهنه ويشحذ هممه وهمم غيره لما يجترحه من افكار ونصوص. وبفضل الانتفاضة غدت ساحات التظاهر التي يتوافد اليها الالاف من المواطنين يومياً للحفاظ على جذوتها محتدمة مضطرمة تشحذ عزيمة ثوارها المتطلعين الى بناء مجتمع يتسم بالطهر والنقاء، مجتمع نظيفاً خال من الادران البيئية والمجتمعية ، فتجد فرقاً للشباب والشابات يطوفون فيها يحملون الاكياس لجمع النفايات ،كي يعطوا انطباعاً مدنياً على سلمية تظاهراتهم وتعاونهم لخدمة بلدهم واظهاره على احسن صورة .
ان انتفاضة اكتوبر انطلقت من رحم المجتمع العراقي وظروفه الداخليه ولم تستهدف دولة معينة بقدر حرصها على سيادة واستقلال بلدهم ورفض اي تدخل اجنبي، بشؤونه وهدفهم جسده شعارهم (نريد وطن) بكل ما تعنيه الكلمة من معنى ليعيشوا في ظله بأمن وسلام وتقدم .
والحديث عن حزمة الحكومة الاصلاحية فهي في موضع شك من قبل المنتفضين، طالما ما زالت الحكومة مصرة على عدم الاستقالة (او منعها) من الاستقالة. ان استخدامها القمع يواجه بإصرار وباتساع رقعه الاحتجاجات وانخراط شرائح اجتماعية متزايدة فيها. فالحكومة تتحمل المسؤولية الاولى عن ارتفاع عدد الضحايا والانتهاكات الصارخة لحقوق الانسان والحريات الدستورية وعن التداعيات الامنية والاجتماعية والاقتصادية الناجمة عن عدم الاستجابة التامة لمطالب جموع المتظاهرين بالتغيير المطلوب .
ولابد من الحذر كل الحذر فان الحكومة ماضية في تسويفها ومماطلتها في تنفيذ مطالب الجماهير وتراهن على انهاء التظاهرات عبر اساليبها القمعية ومحاولة زرع الشقاق بين صفوفها والمراهنة على نفاد صبر المتظاهرين وعدم مطاولتهم وهذا ما يجب الانتباه له. وبعد ان قطعت الانتفاضة شوطاً موفقاً ابهر الداني والقاصي وهي تدخل اسبوعها الثامن والمنتفضون يملؤهم الحماس ويسكنهم الامل والتفاؤل ويحركهم اليقين بان نصرهم قريب لا محال .
المجد والخلود لشهداء انتفاضة اكتوبر المجيدة .

عرض مقالات: