يعد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منظمة الصحة العالمية دمية صينية ، ويرى آخرون ان السوبر ملياردير بيل غيتس يسيطر على منظمة الصحة العالمية ويريد توظيف كورنا لفرض حكومة عالمية سرية . وهناك اكثرمن سبب معقول يدعم القراءة النقدية. وفي حوار  نشره موقع "شيوعيون" الألماني، وصف المتحدث باسم منظمة مديكو انترنسونال الالمانية توماس غباور تأثير الجهات المانحة الخاصة على الصحة العالمية بـ "إعادة الإقطاع في العلاقات الاجتماعية". ويبين اجتماع منظمة  الصحة العالمية الذي انعقد اخيرا مرة أخرى أهمية ان تكون المنظمة قوية ومستقلة يمكنها دفع صناعة الادوية  للتنسيق  ولامركزية الإنتاج وتوفير اللقاحات والأدوية بتكلفة منخفضة. وفي ما يلي عرض لاهم الأفكار التي تضمنها الحوار.

صحيح جدا ان ننظم الاجتماعات والحوارات في الوضع الراهن لتوحيد القوى لتطوير لقاح وأدوية بسرعة. ولكن المشكلة في الاجتماع الذي نظمته المفوضية الأوربية، هي ان الاجتماع لم يكن برئاسة الهيئة الدولية المسؤولة، أي منظمة الصحة العالمية. ولكن تحت رعاية نادي من الفاعلين السياسين والماليين الأقوياء: الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي والمنتدى الاقتصادي العالمي والمؤسسات الخاصة مثل مؤسسة  غيتس. وغاب عن الاجتماع  ممثلون عن بلدان جنوب العالم، التي يعاني سكانها من عواقب اجتماعية وخيمة جراء وباء كورونا.

ان الحديث عن حكومة عالمية سرية مبالغ فيه لان كل شيء مكشوف ومعلن. إن مشكلة منظمة الصحة العالمية، منذ امد بعيد، هي عملية الافراغ  والاحتواء التي تعاني منها المؤسسات العالمية متعددة الأطراف التي يكون لجميع البلدان صوت فيها. ان ما يسمى بنهج اصحاب المصلحة المتعددين، اي مراكز القوى، يحل محل التعددية الطبعية بشكل متزايد.هنا تلعب النماذج والمقترحات الاقتصادية الدور الرئيس وليس مصالح ملايين المهمشين وظروف حياتهم: هل ينبغي ان تكون الادوية  الضرورية لاستمرار الحياة متاحة للجميع؟، اليس من الضروري استثنائها من حماية الاختراع؟ البلدان الصناعية لا تسمح بان تكون علوم الادوية ملكا عاما. وهذه هي طبيعة الحسابات الراسمالية، وهي في صميم النظام المهيمن، ولذلك يتحدث البعض عن مؤمرات خبيثة.

فضيحة غير مرئية

تعيش منظمة الصحة العالمية في أزمة خطيرة. ولكي تكون في وضع يمكنها من تحقيق الحق في الصحة، يجب ان تكون مستقلة.وهذا ما ترفضة الدول الأعضاء، وبالتالي تعمل، منذ سنوات، على تجميد مساهاماتها الإلزامية. وهذه الالتزامات تشكل الآن 20 في المائة من ميزانية المنظمة. أما الـ 80  في المائة الباقية فهي تبرعات طوعية ولكنها مشروطة باهداف محددة، وبهذا  يكون للمانحين تأثير مباشر على عمل المنظمة. حتى الأن تعد الولايات المتحدة أكبر المانحين، تليها مؤسسة غيتس. وإذا الغت الولايات المتحدة منحتها كما هو معلن، فإن استمرار وجود منظمة الصحة العالمية سيعتمد على تمويل مانح واحد. هذه هي الفضيحة الحقيقية التي لم يلاحظها أحد: إعادة الإقطاع الى العلاقات الاجتماعية.

وهناك من يقول ان من يقدم الخبز يحدد نوع الموسيقى، ولكن القضية ليست بهذه البساطة. إن الأغراض التي تمولها منح مؤسسة غيتس مهمة. ان تطوير اللقاحات، والجهود المبذولة للقضاء على شلل الأطفال، ليس خطأ. المشكلة تكمن في منهجية بيل غيتس القائمة على فكرة تعزيز صحة الناس من خلال برامج  تفرض من الأعلى،  فهو يريد انقاذ حياة الملايين، بنفس الأسلوب الذي يراكم فيه ثروته.

علاقة الصحة بالظروف الاجتماعية

ان صحة البشر ليست سلعة يمكن تسويقها مثل برامج الكمبيوتر. إنها تنتعش في المشاركة الديمقراطية للناس. وتلعب العوامل الاجتماعية دورًا أكبر بكثير من العلاجات الطبية.  وحتى شركة استشارات الشركات مكنزي اعترفت اخيرا، ان الأدوية توفر 15 في المائة فقط من الرفاهية للناس. وإن التغذية الجيدة والكافية والتعليم وظروف المعيشة الصحية والعمل اللائق والدخل المجزي وما شابه ذلك أكثر أهمية. والمحددات الاجتماعية للصحة، التي دأبت منظمة الصحة العالمية على تنظيمها خلال سنوات طويلة، تلعب  اليوم دورًا أقل  وبشكل متزايد. ويعود  ذلك أيضًا إلى تأثير الجهات المانحة مثل بيل غيتس.

لقد بينت أزمة الوباء، اهمال عواقبه الاجتماعية، التي ستكون مدمرة في جنوب الكرة الأرضية. ويخشى من تفاقم التفاوت الاجتماعي الهش السائد في العالم. كيف يمكن للناس الأكثر فقرا، والمضطرين للعمل باجور يومية اتباع تعليمات النظافة والتباعد؟  الذين يحلمون بمعونات العمل، او نظام  خدمة عامة يعمل بالحدود الدنيا، ان حماية هؤلاء تتطلب، وجود دخل اساسي عالمي، ونظم صحية ممولة بشكل تضامني، وتحقيق هذه الأهداف يجب ان يكون على جدول العمل، لانها ضرورية  أكثر من أي وقت مضى.

والصورة في بلدان الشمال الغنية متشابهة . والفظائع في أوروبا كبيرة أيضًا، حيث تم إضعاف النظم الصحية بسبب سياسات التقشف وخصخصتها بشكل متزايد. بالإضافة إلى ذلك، كانت هناك قرارات خاطئة مثيرة، مثل تلك التي اتخذها  الرئيس الامريكي دونالد ترامب أو رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، كلاهما قلل من الخطر لفترة طويلة. ربما اعتقد سياسيو الشمال الغني، ان الأوبئة مشاكل محصورة  في إفريقيا أو آسيا، وان اوربا في مأمن  منها. ولكن عواقب مثل هذه الغطرسة يتحملها اليوم الناس العاديون. ويعتقد ترامب أن بامكانه إلقاء اللوم على منظمة الصحة العالمية.

قبل عشر سنوات، صنفت منظمة الصحة العالمية مرضاً غير ضار هو فلونزا الخنازير باعتباره خطرا داهما، على اساس نصيحة علماء مسجلين في قوائم رواتب شركات الأدوية التي حققت ارباحا طائلة  من بيع دواء الأنفلونزا. وعندما أصبحت الفضيحة معروفة، تلقت المنظمة ما تستحقه من النقد. ومنذ ذلك الحين، فعلت الكثير للسيطرة على تضارب المصالح. ولكن كيف يمكن ان تشدد الرقابة، إذا كنت تعتمد على تبرعات المانحين من القطاع الخاص، وعليها  على سبيل المثال، مراعاة مصالح بيل غيتس؟ وكذلك بعض المنح المتأتية  من الاستثمارات في شركات الادوية.

انعكاسات  سلبية

أن القيود على الحقوق الأساسية التي تطبق حاليا والتي تحظى بتأييد واسع النطاق من قبل الجمهور، ستخلف بطريقة وبأخرى رواسب سياسية سلبية. ربما لا تحدث طفرات استبدادية في ألمانيا كما هو الحال في هنغاريا وبولندا. بدلاً من ذلك، يمكن للضغط العام  للعودة بسرعة إلى الحياة الطبيعية أن يؤدي إلى إضعاف النقد الذي انتجته الازمة للحياة الامبريالية السائدة في البلادعلى حساب الاكثرية والبيئة. لقد بدأت اصوات ترتفع بعدم ممارسة ضغط اكبر على الإقتصاد، خلال الأزمة، عبر مواصلة المطالبة بحماية المناخ والحفاظ على حقوق الإنسان.

اما السيناريو الايجابي فيمكن ان يتمثل بالنظر الى الصحة على أنها نفع عام، والتراجع عن خصصة نظام الرعاية العامة، وانهاء حماية الاختراعات الطبية الأساسية، وجعلها متاحة للجمبع، وهذا ما يمكن تحقيقه بفعل ضغط أزمة الوباء.

عرض مقالات: