كما لوانه اراد ان يجرب استفزاز المتلقي بالانفلات خارج المعتاد بالعمل الفني، كأن ما قام به هو بمثابة جرعة من سم، وقد قيل بأن السم يغري على الدوام مخترعه بالتهامه، ولربما التهم زياد هذا السم التي قتلته وهو في عز العطاء ليهب اللوحة قوة الواقعة وموضوعها المبتكر باعادة الدهشة والانتباه الى الطريقة نفسها لا الى الهدف، كما كان يجري غالبا في تقاليد المشاهدة. فرسم اعمالا تعكس تخيلاته الجريئة التي لاتمت بصلة ظاهرة لمراجعها الطبيعية والواقعية، الا انها تحمل الكثير من رهافة التأثيرالروحي. نتلمسها في لحظة بصرية خارقة، تعاش على مستوى ذهني مفارق لكل بداهة نستقبلها عادة بالعمل الفني.

الاعمال الفنية التي تركها الفنان الراحل زياد حيدر، تهبنا فكرة مختلفة عن الصنعة الاستهلاكية التي تطبع عليها البعض، وجعل منها عرض للتداول السوقي. فهو اشبه بمن استيقظ مبكرا من نوم عميق يغط به آخرون ليصنع من مادة احلامه وكوابيسه خلخلة ومفاجآت واشراقات مضيئة بعيدا عن الذائقة الجمالية ومستوياتها في التداول العادي، وبعيدا عن سؤال الهوية الغامض الذي يشغل الكثيرين، فقدم اعمالا تعبوية ذات اغواءات جمالية جديدة في صياغة تتساير والحداثة، غير مكبلة وغير منكفئة، بعيدة عن كسل الماضي ليساهم مع عدد قليل من فنانينا في الاغتراب بمفهوم جديد لجمالية متألقة تنتمي الى حساسية عصرنا، بالغة التمايز والاصالة، وبالغة الانفتاح، تحمل حساسية لاشكلية لاتدنسها الثقافة العقلية والمهارات التقنوية الاكاديمية، بل هي  تصنع اشكالها خارج الغرف المغلقة التي ترى في الذاكرة خير معين لتنامي ظاهرة التراكم والاستهلاك، فحملت هذه الاعمال موهبة تمتلك مساحتها في التفكير والتأمل لتعكس عمق تجربة انسانية مغايرة ببعدها الحسي او الهذياني الانتحاري. فهي تبدو وكانها لوحات تحمل في فضائها البصري شخوصا مجنونة هاربة من صحوات العقل، كأن الفنان يقدم بها مواعظه ويروي من خلالها سيرته المتأملة واستعاراتها الهذيانية القادرة على منح المشاهد مسافة تكفل له، كمتلقي، التعاطي مع فضاءات ابداعية غير بعيدة عن التحصينات التي تنبع من الارادة والمعرفة اللتين وفق الفنان بينهما، اذ انه لم يصنع ارادته بالتضاد مع رؤياه، مع ادراكه بان الرؤيا تختلف عن الارادة، كما ان هذه النتاجات التي بلغ بها الفنان اقصى حالات التوتر الذاتية تكشف في الوقت نفسه عن علاقته  بشخوصه الفنية التي تبدو وكانها كائنات تود الانعتاق من عمق التيه المحصورة فيه بذعر وحذر لتخرج من العدم بتشنج وذعر شديدين.

نستحضر من خلال اعماله صورة الحرية المطلقة التي كان يتمتع بها هذا الفنان الراحل في مجال البحث عن مظهر جديد، فهو يؤمن بقول بيكاسو : " يجب على الفنان ان لا يبحث، بل عليه ان يكتشف" ، ولهذا سعى الى تحويل رؤيته الحسية الجزئية الى رؤية بصرية شمولية، فجعل اجزاء العمل متكافلة في القيمة ونشط علاقات هذه الاجزاء البصرية والجمالية كافة في حدود شكل كلي جديد.

انه يذهب بكائناته، المتلفتة الهاربة المحسوسة المتخيلة، في خلاصها من حالة الضياع لتتحول الى مادة تنقل مشاعر خفية الى الرائي لاجل ان يعيدها ربما الى الوهيتها، او الى جعل عزلتها مجرد مادة تحملنا على الفزع اليومي وخياناته في الماضي والحاضر. عبر تقنيات لها خلفية اكاديمية مقتدرة تتغير عنده اشكال الرسم وادواته باختراع اشكال والوان جديدة تصنع جمالياته من هذه الحشود ليدفع بنا كمتلقين الى تحسس اجسادنا وإلى قياس المسافة التي تفصلنا عن الاخر المستبعد، السائر الى حتفه بعبودية لا يرتضيها. حشود من البشر لاينقص الواحد منهم شيء من حيوية الحياة، هم مثلنا تماما، لانرى من حولنا سوى الموت او الامحاء.

يستعيد زياد حيدر في اعماله احداثا شخصية مأساوية، ويحاول اختراق اماكن شعور جديدة بدلا من ان تكون الاعمال مجرد تصوير لشيء ما. انها تحمل مرارة اثارة الرعب، وهو تهديد يمكننا جميعا ان نشعر به في الكثير من لوحاته الاخيرة التي غلب عليها الشعور بالخوف، الا انه لم يفقد شرطه الانساني، واضعا الوجود وسط دفق من حساسية مفرطة تبدو عاجزة عن التعرف الى اي مصير. انه يركز على جملة من تفاصيل محيطة بالشكل المركزي في اللوحة بازدواجية حركة الاجساد بتركيب متوازن لاسيما في توزيع التفاصيل في حركة الارجل التي تتصاعد فيها الحركة عل شكل ايقاع يسري بين هذه الشخوص، والعلاقات اللونية والخطية يجعل منها عناصر مترابطة متجهة بقوة تعبيرية صوب مشاهد اللوحة لتعكس حالة الرعب والنفور وكانها تفلت فجأة من حصار ادارة الفنان.

اشتغل الفنان زياد باسلوب ذكي عندما كان يقترب من التأنيق وليترك في الوقت نفسه لمسات يده عالقة على المساحات المشغولة بحسية عالية وبضربات فرشاته القوية الحادة، ليؤكد حرارة العلاقة بينه وبين العمل الذي يصوره، فيشعرنا بحميمية تفاعله مع ما يصور. لهذا يبدو منجزه خشنا ومختزلا ومتقشفا وجامحا، واحيانا متوحشا، في سبيل تزخيم الطاقة التعبيرية للاشكال.

  • مواليد مدبنة العمارة 1954
  • خريج اكاديمية الفنون الجميلة- بغداد- 1976
  • عرضت اعماله في كل من بغداد، عمان، قبرص، كان( فرنسا)، طوكيو، سويسرا، امريكا، فنلندا، هولندا، بلجيكا، السويد، بولندا

      الجوائز:

  • الجائزة الاولى لافضل ملصق جداري عراقي لمهرجان الشبيبة العالمي ببرلين 1975
  • الجائزة الثانية لافضل ملصق جداري عن جمعية التشكيليين العراقيين للتعليم ومحو الامية 1980
  • الجائزة الثالثة- مهرجان الواسطي الرابع- المتحف الوطني للفن الحديث – بغداد 1984
  • الجائزة التقديرية – مهرجان الواسطي الخامس – المتحف الوطني للفن الحديث – بغداد 1986
  • توفي في هولندا عام 2006

 

عرض مقالات: