حقق اومبيرتو ايكو من ورائها الشهرة والغنى في وقت واحد

يتمتع المفكر والكاتب وعالم السيمائيات الراحل اومبيرتو أيكو(1932 ــ2016) بجاذبية خاصة، فهو علامة فارقة في تاريخ الكتابة الحديثة بشقيها، خلقا ونقدا، وهو مثقف يتنقل ما بين المواضيع والمباحث المعرفية والاشكال التعبيرية برشاقة وتمكن نادرين ،اذ يستحيل ذكر هذا الكاتب من دون التوقف عند عمله الروائي الاشهر " اسم الوردة" الصادر عام 1980 والذي تحتفل ايطاليا رسميا هذه الايام بمرور 40 عاما على اصدارها، نظرا الى أهمية العمل الذي بيع منه اكثر من خمسين مليون نسخة وترجم الى اكثر من ثمانين لغة في العالم. ومن خلال منصتها الثقافية، تقيم وزارة الكنوز الثقافية الايطالية مهرجان ثقافي يستمر عدة ايام من خلال شبكاتها" اونلاين"، جنبا الى جنب مؤسسات ثقافية اخرى ، وابرزها مؤسسة سانتا ايجيدو العالمية للثقافة والفنون، مؤسسة أومبيرتو أيكو للتاريخ والتراث العالمي، مؤسسة ليبوريا فليكس للثقافة، مؤسسة اتريا للثقافة ، المؤسسة الثقافية للتاريخ والتراث في مفاطعة بيومنتا، منظمة مكلوك الثقافية، منظمة امبيري للثقافة والفنون، اكاديمية الفنون في مدينة بولونيا، منظمة الكتاب الايطاليين، نقابة الكتاب الايطاليين في بولونيا، منظمة الكتاب والشعراء الايطاليين... الخ. كما يشمل البرنامج الذي تساهم بنقل فقراته القنوات التلفزيونية الايطالية الرسمية المتخصصة بالثقافة والفنون، وسيتاح لمتابعي المنصة الثقافية لوزارة الكنوز الثقافية الايطالية ، متابعة لقاءات مباشرة مع مجموعة من الكتاب والشعراء والروائيين والروائيات الايطاليين ، نذكر منهم، الكساندر بريكو، تيتساينو تيرازيني، باولو جوردانو، داتشا مارييني، جورجو فاليتي، لويجي ديل روسو، الينا فرانتا، ستفانيا اوجي، روبيرتو سافيانو، فاليلاريو ماسيمو مانفريدي، واخرين. ويشمل البرنامج قراءات ممسرحة، وعروضا تلفزيونية وثائقية عن حياة وعمل الكاتب الراحل، اضافة لعرض فيلمين سينمائيين، اميركي وايطالي يحمل كل منهما عنوان" أسم الوردة" .

يعتبر أومبيرتو ايكو، مؤلف الكتب المنشورة الأكثر مبيعا في العالم بأسره، في معظم أعماله الروائية والنقدية ومحاضراته الجامعية، كان يركز على" التوجه العلمي كأسلوب نقدي للنظر الى الاشياء التي تحتوي عليها العلوم الاخرى" وكان على الدوام يسخر بشدة من أولئك الذين يدافعون عن المزاعم القائلة بانه ينبغي لنا ان نتعاطى مع الادب بمزاج اكثر روحانية او حدسية. ويضيف "ان البحث العلمي الدقيق وحده الذي سيجبر كلا من القصيدة والرواية على البوح باسراهما". وركز أيكو "بان الكتابة لا تستطيع ان تقول كل شيء ولا يمكن ان تسمح لأي كان ان يقول ما يريد، فالفكر اللاهوتي أسس الكنيسة على انها سلطة تتحكم في التأويل، وهي تستمد فعلا من هذه السلطة ضماناتها. ولهذا فإن تزايد التأويلات يجب ان تكبح جماحة التقاليد، اما الضامن للتقاليد فهي الكنيسة".كما انه سخر بشدة من " اولئك الذين يدافعون عن المزاعم القائلة بانه ينبغي لنا ان نتعاطى مع الادب بمزاج اكثر روحانية او حدسية" وكان يؤكد على الدوام "بان البحث العلمي الدقيق وحده الذي سيجبر كلا من القصيدة الشعرية والرواية على البوح باسرارهما" .

أومبيرتو أيكو، الذي تخصص بدراسة الفلسفة وعلم الجمال في العصور الوسطى، ونال شهادة الدكتوراه من جامعة تورينو عام 1956، باطروحة عن فلسفة الجمال عند الفيلسوف الايطالي "توماس الاكويني 1225ــ1274"، اهتم بدراسات الثقافة والفنون في العصر الحديث، لكن ظلت العصور الوسطى حبه الثقافي الاول، وانعكس ذلك على كثير من كتاباته النقدية والابداعية، ولا سيما روايته الاولى " أسم الوردة" التي صدرت مثل هذه الايام عام 1980 ، فقد استعار أيكو بيتا من الشعر كتبه باللغة اللاتينية احد شعراء العصور الوسطى واخذ منه اسم الرواية " أسم الوردة" ثم انهاها به. بل مزج في سياقها الكثير من الفقرات اللاتينية، وحكايات الثورات الاجتماعية والصراعات البابوية والعلمانية على السلطة، كما مزج الكثير من التفاصيل عن مكتبات الاديرة والاثار الفنية والمعمارية في تلك الفترة. يقول بيت الشعر المذكور:

وردة الزمن القديم لايبقى منها

غير الاسم

ونحن لانحمل الا الاسماء

رواية" أسم الوردة" التي تدور احداثها حول سلسلة جرائم وقعت في احد الاديرة ، تركز على تبديد وطأة الظلام الذي يعيش فيه العقل في العصور الوسطى ، حيث اشتغل أيكو كثيرا على دمج هذه المادة المعرفية في لغة حوارية شفافة، تنطوي على سخرية لاذعة. وضمن هذه السخرية يختبر أيكو الكثير من المعاني الملتبسة والغامضة لمفاهيم دينية بسيطة، اصبحت تجد تأويلاتها، بفعل الجدل الأرسطي .

يشرح أيكو سبب اختياره القرون الوسطى كزمن خاص لروايته معترفا بان الفكرة ولدت لديه عام 1978 وكانت مغلفة بالرغبة في تسميم راهب، مما سيدفعه الى البحث المطول في تاريخ الرهبان والاديرة والتراث في القرون الوسطى، فهو يبدأ بالكتابة ، الا انه يتوقف لمدة سنة كاملة بسبب اكتشافه ان كتابة رواية لاتعني فقط ترصيف مجموعة من الكلمات والاحداث، لذا أعطي لنفسه فرصة طويلة لتغيير خطة عمله الروائي ووضع نموذج مستقل غير مكرر، اذ كان هدفه بناء عالم كثيف في أدق جزئياته وتفاصيله، لان بناء هذا العالم يشكل الاساس، اما الكلمات وبناء الجمل فتأتي من تلقاء نفسها، وبهذا المسار يقرّ أيكو انه هناك جنسين ادبيين مختلفين، " امتلاك الاشياء سابق على وجود الكلمات، وهو عكس ما يحدث في الشعر حيث امتلاك الكلمات سابق على امتلاك الاشياء".ولكن الاهم من هذا انه أدار الرواية بأحد الاديرة الايطالية في القرن الرابع عشر ، وجعل محورها جريمة قتل غامضة. واستعار أيكو لروايته الطابع البوليسي، لكنه يصفها بالخادعة، حيث لايتم في النهاية اكتشاف اي شيء ولا يصل الى التحقيق الى اي نتيجة، وتبحث فصول الرواية في السياق التاريخي، عن لغز يجري في احدى الكنائس الايطالية، حيث يحض احد القساوسة القادم من انكلترا ليحقق في حوادث موت غامضة تحدث عنها القساوسة في كنيسة ايطالية، وكلما اقترب المحقق من اكتشاف السر يعثر على شبكة من الاسرار التي تحكم عالم الكنائس آنذاك. الانغلاق والقتامة والانضباط الاعمى والقبح النفسي. وهنا يكتشف المحقق القسيس ان وراء الوفيات هو كتاب سري، يدعو للفرح، النفسي والجسدي، فقام مسؤول مكتبة الكنيسة بتسميم صفحاته حتى يحرم الذين يخرقوا التابو الكنسي من متعة الفرح والسعادة

بعد ثلاث سنوات على صدور روايته " أسم الوردة" ، اصدر ملحقا نقديا على هيئة كتاب عنوانه" حاشية على أسم الوردةــ آليات الكتابة" حاول من خلاله ان يضيء الرواية من حيث الفكرة والعنوان والبناء والرؤية، بالشخصيات والاحداث وحبكة الرواية محاولا بسط أفكاره وقناعاته الادبية. في هذا السياق، يستهل أيكو كتابه قائلا" في الرواية التي يكتبها اي كاتب روائي لاتقع في ذهن القارىء  دائما بالصورة نفسها او بالشكل الذي ألفت فيه او الذي يتوخاه الكاتب، لكن أيكو يملك ذكاء الكتّاب الكبار، فهو يعلن منذ البداية انه" يريد قارئا حرا غير مقيد بتوجهات المؤلف". لقد حرص أيكو على ان تعمل الرواية بافكاره السيميولوجية، وان تقوم تلك النصوص والتفاصيل مقام العلامات، وان تؤدي هذه العلامات دور الشفرة للقارىء، فتوحي اليه بما لم يصرح به الكاتب. وقد صرح هو بنفسه عقب ظهور الرواية بانه يدعو فيها الى التعقل والتسامح وحرية الفكر، ولكن بشكل سيميولوجي، غير مباشر. عن طريق هذا العمل الروائي حقق أيكو الشهرة والغنى في وقت واحد، ولكن الشهرة والثراء لم يعطلاه عن عمله الاساسي، وهو التعليم والنقد الادبي والتأليف في علم السيميولوجيا، جنبا الى جنب اهتمامه بالثقافة الجماهيرية ووسائل الاتصال الجماهيري، وتشهد له الساحة الايطالية وقوفه المنحاز لقوى اليسار، مطالبا بدراسة مختلف وسائل الاتصال الجماهيري بغرض تحسين مفعوله الثقافي.

نفهم من هذا ان اومبيرتو ايكو يحاول تبرير إصداره لهذا الكتاب، ويحاول بالضرورة ان يقصي الفكرة المسبقة لدى القارىء بكون هذا الكتاب مأهولا بالحمولة التأويلية، او انه يندرج ضمن المؤلفات ذات الوظيفة التوجيهية. فالكتاب يترك للقارىء منذ البداية بانه لايريد شرح مضامين " أسم الوردة" او يفصّل مادتها، انما يتيح للقارىء ان يقف عند التصور الابداعي للمؤلف "الذي يجعل من النص مشاهدة معرفية لاتنتهي، او يحول المعرفة الى وضعيات انسانية ترتقي على الفردي وتتجاوز  اللحظة العرضية الزائلة".

ويذكر بان أيكو ، كان ينوي اطلاق عنوان للرواية " دير الجريمة" او عنوان " ايدزو دومنيك" قبل ان يستقر على العنوان المتداول " أسم الوردة"، ويبدو انه فضل مسار آخر بهذا الاختيار، بالرغبة بعدم التدخل في مسار التلقي بصورة مباشرة، فبحث عن عنوان محايد لا يحيل على ابطال الرواية او مكان حوادثها او النوع الذي تنتمي اليه. تاريخ، اجتماع، سياسة، عاطفة، فهو مشهور بوضع العناوين الخادعة في جميع اعماله التي بلغت 16 عملا روائيا، وفي معظم عناوين مقالاته ودراساته، لانه يريد تجاوز الوظيفة الكلاسيكية للعنوان كونه مفتاحا للنص او دليلا اوليا اليه.

المعروف عن هذا المبدع الكبير، نفيه وجود الالهام المهيمن والمتحكم في مسار العمل الروائي، فهو يؤكد على جود الكاتب الذي يشكل نسبة 80 في المئة من عملية الخلق، اما صياغة المفردة لغويا فانها لاتشكل الا 5 في المئة وهذا هو معيار الفشل والنجاح في عمل الكاتب.

ويذكر بان اومبيرتو أيكو تحدث في اكثر من مناسبة عن رأيه ومشاعر الخيانة حين شاهد روايته بفيلم سينمائي عام 1986 من قبل المخرج  جان جاكوس اناود ، وتمثيل شين كونري حمل نفس الاسم فقال: " التغيرات التي ستطرأ بالتاكيد محتومة، فما يكتبه الكاتب يجسده الفيلم ويصوّره  والعكس بالعكس". ويضيف قائلا، "ولانني أدركت هذا الامر، أتخذت ازاء الفيلم موقفا هادئا ومطمئنا وقلت صراحة ، سيكون ذلك عمل شخصي". ويؤكد بان " اللذة كل اللذة، هي ان لايتوقف النص عن الاحالات والا ينتهي عند دلالة بعينها. فما دام النص وليفا لاسنن بالغة التنوع والتعدد، فلا وجود لاية صفة قادرة على إستيعاب مخلفات سلسلة لتأويلات هذه. فالبحث عن عمق تأويلي يشكل وحدة كلية تنتهي اليها كل الدلالات سيظل جميلا ومن أجله ستستمر مغامرة التأويل حتى وان كان الوصول الى هذه الوحدة أمرا مستحيلا".

عرض مقالات: