كل الاشياء عنده تمتلك قيما غير منعزلة عن ارتباطات انسانية متشابكة، لاترفض الواقعية التعبيرية بمادياتها وعقلانيتها، كما انها تدرك القيم التي تجسدها. فواقعيتة التعبيرية هذه استمرت عنده حتى مراحله الاخيرة بمثابة مدى تشكيلي يحمل استقلاليته في التعبيرلا بواسطة قيم الالوان المستعملة لذاتها، بل بالخطوط او مزج الالوان وتدرجاتها المندغمة بعضها بالبعض الاخر.

لا يعتمد عبد الاله( عبودي) وضع تدرج ثابت للقيم اللونية المطلقة، بل ان اعماله تمثل تزاوجا لا ينفصم بين العقل والعاطفة، اوالوجدان والتلقائية. اثناء وجوده في روما مهد لخلق لغة فنية متميزة، فكان يدعو الى فن انساني ملتزم، فن مدافع عن المجتمع من خلال اضفاء الطابع الاخلاقي الصادق على كل استعاراته الفنية لتجسيد التفكير العميق في الحياة، وهو ما عكسه في حياته العملية، اذ لم يفقد اطلاقا - حتى في اشد حالات يأسه - ايمانه بالانتصار الكامل لحرية الانسان اينما كان.

عبودي، رسام تمتلكته محبة طبيعة الناس الذين رسمهم بانسانية عميقة، يضاف الى ذلك شعوره بالكرب والعذاب ازاء عجزه عن علاج اشكال التعاسة الانسانية التي رافقها منذ سنوات الطفولة في احياء وازقة مدينه البصرة وصولا الى ازقة روما وشحاذيها ومهرجيها وصعاليكها جنبا الى جنب مع كوابيس الجوع ويقظة المخاوف التي كانت تداهمه بين الحين والاخر في نفس امتلأت بالرقة والعذوبة والحنين.

انه جامع وثائقي لمن سبقوه ولمن سياتون بعده شأنه شأن بعض الفنانين العراقيين والعالميين. لا يقدس اسلوبا معينا، بل يؤمن بأن عدم التقيد باتجاه او اسلوب واحد من شانه ان يضمن الحرية الكاملة للواقعية في امكانية تقبلها للتفسيرات الفنية للحياة، وهذا يمثل عنده نقطة الالتقاء الاكثر حساسية بالتيار الذي سمي في زمنٍ ما بالتيار الواقعي النقدي.

لا يبتعد عبد الاله عن التقاليد الفنية الاكاديمية، بل يظل وثيق الصلة بها معتقدا بانها تسهم في تجميل اطر حياة الانسان اليومية وتسهل عملية الدخول اليها. ففنه هو مقياس حياته الذي يسجل اي تغيير يطرأ على مجراها، لذلك ليس من الغريب ان يكون فنه تمثيليا استعراضيا وتجسيديا في احيان كثيرة على الرغم من بعض المباشرة التي تكتنفه، فالفن بالنسبة اليه هو كالاعتراف ، له دور ضميري ودور تأملي.

ظهرالتعبير التصويري الناتج من الحاجة الداخلية عند عبد الاله من خلال تكوين التشكيلات الجسدية لحالات الانسان العراقي، وهذا باعتقادي ربما يجد ارضيته الفكرية او العقائدية في تأثير الافكار الماركسية التي كان يؤمن بها. وهو وإن عانى من تقلبات داخلية، الا ان قناعاته ظلت مبنية على اسس وجودية عميقة في حياته الشخصية. من خلال هذه النقطة، يظهر عند عبدالاله اسلوب عمل خاص، حيث ينطلق غالبا من لوحات هي امتداد للوحات وموضوعات سابقة، وهذا الاسلوب لازمه حتى الوقت الحاضر. فهناك اشكال، كانت قد ابتكرت في بداية وجوده في روما اثناء دراسته الاكاديمية، وجدت صداها في لوحات متعددة كالشكل الجسدي للمرأة (الام) استمدها من روحية الواقع الاجتماعي الطلياني، حيث دخلت تلك التأثيرات في فنه وكانت مهمته تصوير اشكال انسانية عراقية بتكوين يجمع فيها اوجها من الحياة اليومية كما هو الحال في مجموعته " العائلة "، بتلك الوجوه التي تعكس تاريخنا جميعا، وتلك البيوت التي تشبه السطوح ربما هي غرف او جدران شارع خارجي، الا انها تظل بيوت تتدفق اضواؤها بساكنيها وبتفاصيل حياتهم الحزينة وكأننا نجدهم امامنا بوقفة فوتوغرافية : عيون مفتوحة تتطلع الينا، عيون متعبة، متألمة يصاحبها القلق الدائم، صامدة امام  الطغيان، وربما ضد الحرب. انها عيون عائلة ربما تكون من احياء البصرة الفقيرة او من ضواحي بغداد البائسة، تقدم نفسها لنا دون دهشة، دون معجزات، لكن مع شعور بالشفقة على هشاشة الطفولة المتواضعة، فهم حفاة بدشاديشهم وابتساماتهم الخجولة وكانهم رؤى من احلامنا.

يلتزم عبد الاله بالانتماء الى الوطن على الرغم من المتغيرات الكثيرة التي عاشها. ففنه يعكس هذه الازمة، ازمة المغترب في وسط عقلية سائدة محافظة من جانب ومنفلتة التحرر من جانب اخر، ثم كانسان في بيئة مادية تفتقد في بعض جوانبها الى التواصل الانساني، وكمهاجر شرقي في مجتمع لايخلو من بعض العدائية تجاه الهوية الوطنية. لقد كان مدافعا عن كيانه ضد جو الازمة الهجومي، فالعزلة كانت تلفه بغطاء ثقيل، وشبح الجوع والحنين الى الوطن اصبح ملجأ يعطيه القوة اللازمة لمقاومة اي استلاب يطارده في ازقة روما التي احبها بعمق ورفضها بعمق لانها افتقدت الامان والاحلام الجديدة.

لوحاته التي كان يحل فيها الظلام بدل النور، تتقابل فيها اطوار متعددة ومتغيرة. مزج السياسة بالفن، ووجد ما هو سياسي وما هو فني غير متناقضين، مع انه في احيان كثيرة يشدد على مزايا الفن الجمالية ملحّا على الناحية الانسانية والكونية كما لو اراد اعتناق الانسانية باكملها وعلى مستوى اوسع، وهو موقف يدلل على حاجته الى الحرارة الانسانية، وهذه الصفة هي شاهد على درجة المحبة والعرفان التي يطلبها كائن انساني من نوع عبد الاله لعيبي الذي شعر بعد خيبات الانتظار المريرة بان السياسة في مستوى ادنى بكثير من الفن، مع انه كان يعتقد بان السياسة، على غرار الفن، تشكل نمط حياة بحد ذاتها.

هذا العناق لم يستمر طويلا، فبعد انسداد مصادر العيش، وبعد ان صار المنفي وحيدا بين الغرباء، وبعد ان تبخرت الكثير من الامال الجسدية والعاطفية، التفت الى مأوى جديد يبدد وحشته كي لا يكون العالم الذي قدمه في فنه معلقا بخيوط الحلم الرفيعة التي توشك على الانقطاع في كل مرة، لان روما والفن لم يقدرا على توفير واحتضان وجوده، فشد الرحال مع تأرجحاته وقلقه ومخاوفه  الكثيرة الى بلد اخر، الى فضاء جديد قابل للائتمان يكون فيهه قادرا على الدفاع عن نفسه التي تبحث عن تصالح ما مع الراحة.

لم يتجاهل عبد الاله تراث بلده، ، فهو بالاضافة الى شخصيتة الفنية المتفردة، يطل  على العالم والحياة بعيون تحمل يقظة مبالغ باتساعها، لان تصوراته الفنية والهاماته الحياتية تكونت بالتأكيد من خلال صلتها بالتراث العراقي. ان فرادة تجربته تكمن بالذات بالدمج الرائع بين تأثيرات التراث وبين مميزات الفن والحضارة الايطالية والعالمية. فمن حيث المحتوى واللغة التصويرية، لاشك في اننا نلمس تجربة عراقية صميمية في فنه، ومن الجائز اعتبار تجربته، مع تجارب آخرين من اقرانه في المهجر، دليلا على امكانية ان نسمي فنه "عراقيا" على الرغم من مقولة بعض الدارسين بعدم وجود تمايز بين فناني المهجر من اصل عراقي حيث استهوتهم الاساليب الحداثية التي لم تعد تميز اعمالهم عن اعمال اقرانهم الاوربيين.

تتسم تجربة هذا الفنان بخلق المطاوعة والمرونة في عملية التحويل والتحرر داخل حدود اللوحة وما يمكن ان تقدمه الالوان الخشنة الحادة المموهة بالغواشات الممسوحة من رهافة حسية تتيح فرصا لخلق تحليلات جمالية في ذهن المتلقي. ان استخداماته للالوان الغامقة وللخطوط المنحنية تعطيه قدرة ذات اسلوب خاص في تصميم اللوحة وفي خلق الاشارات الواضحة للمنظور. فاللون الغامق الممسوح لا يختفي، بل يذوب فيه ضوء السطح الخلفي، الا انه يمتلك حرية التحرك، فالبقع الحادة واللمسات العريضة للفرشاة باللون البني الممتزج باللون الاحمر يعطي المساحة لمسات رفيعة، واحيانا رشيقة تتحد من اجل خلق نغمة التجانس، وهي مسالة ضرورية من اجل الفصل بمسافة مقبولة بين الاهتمام بالموضوع ومراعاة ما هو جمالي في الشكل. وهذا الترابط يعطي العمل الفني عمقا في التنوع، وامكانية لسد الفراغات التي تحيط بالاشخاص بما يلائم المضمون ببراعة مقبولة.

فن عبد الاله لعيبي، الذي يعتبره البعض مباشرا وتسجيليا، يمثل احد النماذج البديلة في تصوير الواقع الحياتي. نموذج يتطابق مع معاناة الناس، وهو استكشاف ودخول غير سري لما يفكر به الكثير من الناس. انها قراءة قائمة على الملاحظة نحتاج اليها الان.

عرض مقالات: