تسرد هذه الرواية، مضمون أحداثها ووقائعها، منذ العهد العثماني الى العهود التي تليه، وابتداء منه، سنشرع بتناول حقبها التاريخية الأخرى، وبإيجاز، ثمة حقب عدّة من الأزمنة، حملتها هذه الرواية، وعلى مساحة نص متنها البالغ 223 صفحة من القطع المتوسط.. وبذا، فهي تمتح مادتها من التاريخ، وحقبه وأجياله، لتصوغ فيها مادة إبداعية صرف..

ومنذ الفصل الأول في هذه الراوية، الموسوم " كلمات متقاطعة. اذ يلاحظ المتلقي حركة الكاميرا التي تؤشر الرواية حقبتها التاريخية الأُولى كما يبدو؛ إذ يقول سارد الرواية " تتبعت عدسة الكاميرا الحفرة حتى سويّت بالأرض؛ فلم تعد تتميز عنها إلّا بلون التراب في تناقضه مع خضرة الأعشاب. قام المصور بعدها بحركة بطيئة من عدسته استعرض بها المقبرة التي بدت اقرب الى حديقة منها الى مقبرة.. 7."

وهنا، ما يقوله فاضل ثامر في كتابه النقدي " التاريخي والسردي في الرواية العربية.." لقد قدمت الرواية التاريخية العربية الحداثية شهادتها الشجاعة عن التأريخ العربي والاسلامي بطريقة جديدة لدرجة تجعلنا نعيد صياغة مقولة أنجلزعن روايات بلزاك التي عدها أكثر صدقية وموضوعية من التاريخ الرسمي المدون، فنقول في ضوء ذلك: إن الروائي العربي الحديث في تعامله مع التاريخ العربي كان أكثر أمانة وشجاعة وصدقاً من التاريخ الرسمي لأنه ببساطة انحاز إلى تدوين تاريخ الإنسان المهمش والمسحوق في أحلامه وصبواته ومعاناته وتوقه إلى الحرية والعدالة والجمال وتجنّب الامتثال للتاريخ الرسمي المزور الذي يركز على أفعال السلاطين والملوك والأمراء وبذا قدم قراءة منفتحة لما هو مسكوت عنه من أنساق مغيّبة ومدفونة تحت ركام ثقيل من أكاذيب وتضليلات المدونات الرسمية الصفراء.”   

 إذن، فالرواية على وفق هذا القول، ستنهل من التأريخ ومساراته، أبطاله وضحاياه، ومعالمه، ما تنتجه حروبه، ومجاعاته وأزمانه التأريخية، فضلا عن تفاعلاته الفنية. والرواية المؤرخنة بهذا، إنْ صح التعبير، وعلى مدى أزمانها، ليست جزءا من بنى التأريخ، ولا في مساراته الواقعية، أو أبطاله، وملوكه وأباطرته العتاة؛ ودكتاتورياته. إنما هي تتفاعل مع كل هذه المسميات، بوصفها عيّنة للعملية الإبداعية، كما جاء في رواية السارد عبد الخالق الركابي، " خانة الشواذي." هذه التي تنهل من سمات التأريخ، وأحداثه لتبني بالتالي، آفاقا إبداعية، تسود أو تحل محل مسارب التأريخ، وطغاته عبر العصورالقديمة والحديثة، أو ما يعنى بشخصيات مسحوقة تماما طيلة إمتداده الزمني.

وما يهمنا هنا، في هذا كله، فضلا عن ذلك، السمو الفني في العمل الإبداعي؛ هو أنّ الركابي كما قرأناه في هذه الرواية، رواية خانة الشواذي، وعرفناه في سردياته الأخرى، كان صادقا في تناوله للتأريخ في صياغة أعماله الروائية؛ لذا فهو لا يسرد التأريخ بوصفه تأريخا؛ إنما يسرده بوصفه عملاً إبداعياً، أو على ما أصطلح عليه عملا تاريخانيا، أو بالأحرى، مادة إبداعية في أعماله الروائية..فضلا عن استخدامه التأريخ عجينة يتعامل بها مع مسارب هذا التأريخ القديم، أو القريب منه الى حد ما، الذي يُعدّ تجربة بشرية وذاتية في آن واحد.

ويؤكد هنا د. عبد الله ابراهيم لنا، بقوله : " آن الأوان لكي يحل مصطلح التخيّل التاريخي محل مصطلح الرواية التأريخية. فهذا الاحلال سوف يدفع الكتابة السردية الى تخطي مشكلة الأنواع الأدبية وحدودها ووظائفها. "

 ومن ثم، وعلى وفق هذا الفهم، أو التوجه؛ فإنّ الروائي المبدع حقا، يقوم بسرد المادة التأريخية بعيدا عن النقل التأريخي إيّاها الذي يتعامل مع هذه المادة أو تلك، ومع وقائع أو أحداث صرف، كي يعيد صياغتها؛ أو يحّولها إلى عمل روائي إبداعي، وهذا ما نراه تماماً في هذه الرواية، رواية " خانة الشواذي. "وكما هو الحال، في بعض رواياته الأخرى التي قرأناها، مثل " ومن يفتح باب الطلسم، ومكابدات عبد الله العاشق، ومقامات اسماعيل الذبيح، والرواية التي بين أيادينا الان، خانة الشواذي.

فهذه الرواية، رواية "خانة الشواذي" تُعد نسيجاً متداخلا ومتشابكاً، في أحداثها وشخصياتها وبنيتها الفنية؛ قاعدتها التناول الإبداعي للتأريخ، ومساراته الزمنية. وتنطلق في تناول ثيمتها في زمن متحرك، قد يكون خمسين سنة ونيّف، أو أقل، بيد أنّ بعض الروائيين الذين تناولوا مثل هذا النهج في النسيج الروائي، وبحقبة زمنية قصرت أو طالت، وربما أكثر من قرن في الأقل، وهذا ما يفترضه الروائيون الغربيون بخاصة؛ بيد أنه أي التأريخ، قد تناوله، بعضهم بوصفه ثيمة معاصرة تقل كثيرا، عن هذه المدة الزمنية، او المسسار التاريخي، أو لنقل نصف قرن في أقل تقدير؛ كما هو في هذه الرواية، التي تناول فيها السارد الركابي، مسار أحداث عاصرها، وعاصرناها نحن، أو عاصر البعض أحداثها إن صح التعبير. فمن خلال قراءتنا لهذه الرواية نرى أجيالاً متعددة عاشتها أحداث هذه الرواية، بيد أن الروائي الركابي يشير في مستهل روايته هذه الى العهد العثماني، والحرب العالمية الثانية 1939 – 1945، وعصورأخرى، وبخاصة العصر الذي عاشته شخصية بشير الذي شاء سوء حظه أن يكون من جملة عدد من الشبان الذين القي ألقبض عليهم من قبل الجندرمة العثمانية.الفصل الأول ص 29.

وهنا، يعرّف جورج لوكاتش الرواية التاريخية بأنها : رواية تأريخية حقيقية، أي رواية تثير الحاضر، ويعيشها المعاصرون ويعدّون تأريخهم السابق للذات، فهي بالتالي" عمل فني يتخذ من التأريخ مادة له، ولكنها لا تنقل التأريخ بحرفيته؛ بقدر ما تصور رؤية الفنان له وتوظيفه لهذه الرؤية للتعبيرعن تجربة ما من تجاربه، أو موقف من مجتمعه يتخذ من التأريخ ذريعة له..

وهنا، نرى أيضا أن َّمن يمسك بتلابيب أحداث التأريخ، وتفاعلاته السياسية، والفكرية والبشرية وحتى الاركيولوجية والفينومنيولوجية، فإنه بالتالي يمسك بتلابيب الحاضر وتطلعاته، ومشكلاته وتطوراته فضلا عن تعقيداته..إذ إن التأريخ يسرد احداثا ووقائع موثقة لقوى بشرية، في أزمنة قديمة أو قريبة الى حد ما، وهنا، تفيد الرواية من هذا كله، في حركته وأحداثه؛ جاعلة منه، مادة إبداعية في صياغة أعمال روائية من خلال حركة الشخصيات، وفاعليتها، في زمن تأريخي قديم أو قريب الى حد ما، كما هنا في هذه الرواية.

ولا يفوتنا القول هنا؛ إنّ سيمياء عنوان رواية؛ خانة الشواذي، يشير الى الطبقة التي خُصصت لجلوس الفقراء والمعدمين والمحرومين والمسحوقين؛ ويحيلنا إلى مرحلة زمنية لا تقل عن نصف قرن في تأريخ العراق، يزيد أو ينقص ربما، وهي انطلاقة السارد في تدوين مرحلة تاريخية قديمة كان الركابي قد عايش بعضها؛ أو جايلها، أو قد دوّنها في مظان أخرى، والعلم في سر السارد ذاته.. ولكن، وحسب ظني كان كذلك، إذ إنني، أنا كاتب هذه السطور، أجايله في العمرتقريبا، فضلا عن فقراء معدمين كنا - وأنا اتذكر جيدا هنا - نجلس فيها، وكنا ندرك حينها تماما، نحن ابناء الفقراء المعدمين، أن ثمة فوارق بيننا وبين الآخرين الأغنياء والمترفين، من الذين يجلسون في المقاعد الأمامية؛ فضلا عن ذلك، خصصت تلك الخانة أيضا لجلوس السجناء السياسيين والمضطهدين، منهم الذين ينقلون من معتقل إلى آخرلأذلالهم.

لا شك، وبعد سردنا هذا؛ فإنّ هذه الرواية، تُعد رواية ما يسمى، أو ما يُطلق عليه رواية ما بعد التاريخ،history meta-، أو بمعنى آخر؛ ما بعد السرد meta – narration، زمنا وأحداثا وشخصيات وأداء، وهي بهذا ايضا؛ تكون قد تعاملت، وتفاعلت مع التأريخ بوصفه أرضية، لتلك الأحداث، والشخصيات، فضلا عن الأداء الإبداعي. وبذا فإنّ السارد عبد الخالق الركابي غير معنيّ إطلاقاً بإحداث التأريخ، وعلى وفق تسلسله المنطقي، لهذه الأحداث والشخصيات الحقيقية. بمعنى آخر، إن الركابي تعامل مع أحداث التأريخ، وتسلسلها، وعدّها عملا إبداعيا مضمونا، وشخصيات وتقنيات وزمنا ايضا، وعلى وفق ما تتطلبه الرواية التاريخانية من أرضية ما بعد حداثية في التناول والإخراج..

هذا يعني، أن الروائي المبدع في تناوله لمثل هذه المادة التأريخية، بعيد عن النقل النصي الجامد للتأريخ، بوصفها وقائع، وأحداث وشخصيات، كي يصوغها في عمل روائي إبداعي صرف، وعلى وفق منظوره لآفاق وأبعاد التأريخ وتفاعلاته، وهذا ما نراه تماما، في رواية خانة الشواذي؛ كما هو وارد، في رواياته الأخرى التي تعاملت مع التأريخ النصي الجاهز للقاريء، ومن ثم حوّله الركابي الى مادة عمل سردي روائي، كما هو الحال لدى روائيين كبار تفاعلوا مع التأريخ بوصفه مادة إبداعية، مثل : جمال الغيطاني في روايته زيني بركات، ونجيب محفوظ في رواية القاهرة، وخان الخليلي، وواسيني الأعرج في معظم رواياته، وبخاصة روايته البيت الاندلسي، وفؤاد التكرلي في رواية المسرات والاوجاع، وشاكر نوري في نجم البتاويين، وعبد الرحمن منيف في مدن الملح الخ..

فالروائي أو السارد هنا، مهمته إعادة ترتيب خيوط التأريخ المتشابكة والمعقّدة، كما يعيد صياغة أبطاله على وفق توجهات إبداعية وفنية، فضلا عن ذلك، فهو يمنح أدوارا متغايرة لأبطاله لا تشتط بعيدا، عن مسارات التأريخ، كي يخلق بهذا، أو يبدع نسيجاً يتواءم تماما وعصره. وفي الوقت نفسه لا يبتعد عن مسار التأريخ التسجيلي. وبذا، فإنًّ الروائي في هذه الحالة، يقدّم لنا عملا إبداعيا ثيمته التأريخ القريب، أو البعيد منه على حد سواء.

وهنا، لا بد من التأكيد، أن من يمسك بتلابيب أحداث التأريخ وتفاعلاته السياسية والفكرية والبشرية؛ فإنه بالتالي يمسك بتلابيب الحاضر، ومشكلاته وتطوراته، فضلا عن آفاق المستقبل ورؤاه..

ويؤكد الناقد الدكتور نجم عبد الله كاظم في هذا الصدد، ليعرّف الرواية التاريخية فيقول "فالرواية التاريخية تكتب نفسها وبناءها لا على وفق منطق التأريخ الذي استعانت به، ولا على وفق ما تشتهيه المؤسسة التأريخية الضاغطة، ولكن على وفق مؤسسة أخرى تنتمي لها الرواية بإمتيازمؤسسة التخييل العظيمة التي لا حدود لسلطانها، وليس التأريخ الا اداة من ادواتها لبناء معمارها الادبي المتفتح والمستقل ابدا.. " التاريخ واحتفال الذاكرة في الرواية العربية.. تحرير : نجم عبد الله كاظم ص 20. "

إذن، هذه الرواية، رواية خانة الشواذي،هي نسيج متداخل ومتشابك في أحداثها، وفي شخصياتها وبنيتها الفنية، فضلا عن تناول مادتها التأريخية، وتداخلها الزمني وجنس شخصياتها، وهي تُعد بحق رواية ما بعد تارخية بإمتياز.. وهي فضلا عن ذلك؛ تحيل الى ذاكرتنا حقبة زمنية، عشناها وجايلناها بكل ما حملت من أعباء دكتاتوريات انظمة، وأرهقت شبابنا وتطلعاتنا المشروعة؛ يسرد فيها الروائي عبد الخالق الركابي التأريخ بوصفه عملا ابداعيا؛ وليس التأريخ بوصفه سرد احداث ووقائع صرف.

وكما يقول سعد محمد رحيم " فإنّ التاريخ، ووفقا للإخوان غونكور، هو رواية ما كان بينما الرواية هي تاريخ ما كان يمكن أن يكون السارد والتاريخ، محمد سعيد رحيم.."

وكما هو معلوم لا بد أن نذكرأنّ التأريخ لم يُؤرخ للجماهير؛ إنما أُرخ للرؤوساء، والأباطرة، والقادة والزعماء، والملوك والأغنياء، فضلا عن الغزاة العتاة الخ كما اشرنا في مظان آخر في مقالنا هذا..ولم يؤرخ أيضا، للإنسان والشعوب والفقراء والمحرومين والمعدومين والمسحوقين منهم.. وإننا نرى هنا، في هذه الرواية أنها تؤرخ للناس البسطاء والفقراء والمحرومين وتنتمي لهم، كما أرادها الركابي؛ وبدليل أنه لم يرد ذكر ملك او زعيم أو رئيس جمهورية او قائد او دكتاتور، فيها.. 

عنوان الرواية هذا، وبالذات كلمة "الشواذي" يدفعك للتوقف والتأمل، وهذا ايضا يعتمد على إدراك القاريء ذاته؛ فإنْ كان من الفئة الأربعينيات أوالخمسينيات اوالستينيات أوالسبعينيات، فإنه يعرف تماما ماذا تعني كلمة "الشواذي؟" فهي بهذا، مخصصة لجلوس ذوي الإنحدار الطبقي الدوني – كما سبق لنا ذكر ذلك - وبالذات طبقة الفقراء والمسحوقين والمعدمين، فضلا عن السجناء السياسيين المناهضين لأنظمة الحكومات أثناء نقلهم من سجن إلى آخر مصحوبين بالحراسة؛ المشددة.

ومسك ختامنا هذا، فإننا نؤكد أنّ هذا السفر الروائي، يسرد الفعل الإنساني كما حملته هذه الرواية؛ رواية " خان الشواذي " بتسريد المبدع عبد الخالق الركابي، وعلى وفق منهج التفاعل مع التأريخ، وبأرضية تاريخية متخّيلة صرف، اذ منذ استهلالها وحتى ختامها، هو ذلك الأسلوب الذي نسجه المبدع عبد الخالق الركابي، في تينك الكلمتين..وأعني بهما "خانة الشواذي"..

السويد

عرض مقالات: