هذه رواية  جديدة  عراقيا وعربيا، في موضوعتها وفي ملاعبتها للتقنية الروائية الحداثية. نتعقبها في درابين، طابوقها عتيق رطب  منخور، نتعقبها ونحن نتجنب حيطان مهدمة ومنهولات طافحة، شخوص تتقدمهم غريزتهم الملوثة بطفح مدينة التي شهيقها ترياك أفغاني وحشيشة إيرانية، عطورهم نافورات سباب تنطلق من عاهرات وقوادات ومخانيث..

(*)

رواية وحيد غانم سرداب سرديات القاع العراقي بظلاماته ولزوجاته ودمائيته.الضوء في فضائها بشراسة بروجكترات الحراسة، والليونة بنتانات درابينها الطافحة، وهي رواية مضببة بأبخرة حمّامات مشبوهة، منها يتدفق الزمن الروائي الغارق(في حلم ضبابي طفا تحت قبب الكولات الملساء وانحناءات دهاليزه المعتمة ../7).. من وسط الوحل والرطوبة والحياطين المنتفخة (نمت شجرة سدر فتية /102) ومن كل هذا القبح (كان الطفل ملاكاً مشعاً من أعماق الظلام../103)..ربما أجناسية الرواية تنتسب للواقعية القذرة التي تألقت فيها روايات بول أوستر، لكن واقعية رواية وحيد غانم في(  الحلو الهارب إلى مصيره) واقعية محلية تتوزع بين مدينتيّ بغداد والبصرة يتكشف لنا من خلالها أن وحيد غانم له دراية بدرابين وكائنات ساحات العالم السفلي في بغداد، وهذه هي المرة الأولى، يرّكز روائي بصري على بغداد كفضاء روائي بنسبة 70%  

(*)

في (الحلو الهارب إلى مصيره) يتمازج المرئي واللامرئي، لا برزخ بينهما : الكل أحياء والكل ميتون في حيواتهم ويبقى عباس الأعور(مطارداً بأشباح أناس أجهز عليهم يوماً ما ثم نسيهم، استغرب أن يتدفقوا على ذاكرته فجأة وكأنهم جيش من الحفاة../47) وفي موقف الخياط صبري العيّاش من مثلية مهنا يسر، يخبرنا السارد المطلق

(كأنه أرجأه للتمتع به بعد موته في عالم الأشباح، لأنه سيختفي دون سابق إنذار../70) والشبحية توسق حتى المكتبة الصغيرة لصبري العيّاش (مبذولة في غير مكانها لأشباح المحرومين من دفء العائلة/71)..والشبحية تمر في قوس حياة الكوّالة إذ (تنال الكوّالة هدايا سخيّة من رفيقات عمرها وبناتهن،من أشباح تظهر في لياليها.../87)

(*)

 وحدها الرذيلة سيادتها مطلقة. والمكان النظيف في الرواية هو أقذر الأمكنة (القتل والسكر والتمتع بالنساء في مواخير وشقق خاصة نظيفة .../22)

(*)

زمن الرواية يبدأ مع قطع رؤوس بعض البغايا، تلك المجزرة التي قام بها النظام في سنوات الحصار، ويتنامى الزمن الروائي، بعد سقوط الطاغية، والفوضى الأمريكية اللاخلاقة والسلب والنهب وصولا إلى صعود ذلك المطيرجي  بفوهاته الكاتمة، إلى مراكز القوى ..

(*)

في هذه الرواية تمارس الدولة سردياتها العنيفة مستعملة عباس الأعور وستار ماما، في تنفيذ جرائمها. بعد سقوط الطاغية تمارس القوات الأمريكية عنفها أو من ينوب عنها  فتغمض عيونها الأمريكية البشعة عن الخطف والسلب والنهب ..أمام جرائم الشرطة المحلية(الجديدة)!!  : واثق كبسلة وجبار طلقة وقاسم الشرير وأمين ، والشرطي الذي صار عقيدا عبود زماطة.

(*)

تتوازى خطوط السرد وتتقاطع أحيانا وتتلاحق الشخوص فيما بينها: لكن اغلظ الخيوط :  هو خيط : عباس الأعور / مهنا يسر:

(*)

عباس / صباح كوني

عباس / ستار ماما

عباس / مهنا يسر

(*)

كواكب لها سطوة على أخيها المطيرجي عباس الأعور، فهي تعيله وأحيانا تعيل زوجته أيضا، هي الأخت / الأم، لكن دولة الطاغية حين سردت عنفها في زوجها صبري العياش الخيّاط الشيوعي، أنتجت ورقة إعدام صبري العياش، الصادرة من مستشفى الرشيد العسكري: جهوية سردية مغايرة في تعامل كواكب مع أخيها(نمتْ في داخلها مشاعر نفور وخشية منه../86) وحين شمله العفو العام لحثالة المجتمع العراقي، كانت سرديات عنف الدولة  قد صيرتها (سائرة في كابوسها إلى ما لانهاية،أصبحت طيفا، أقسى من طبيعتها الحقيقية ) بالنسبة لعباس ليست أخته ضمن سردياته الملوثة (لم يحفل بحياتها أو حياة أي شخص آخر لا يلائم مزاجه / 70)

(*)

 عباس لا يبحث إلا عمن يكتمل به أو يستعلي عليه عباس قاتل أجير جاهز دائما لتنفيذ سرد الدولة ،في أمثال صبري العيّاش، لكنه أنجذب لما في العيّاش من رعونة واستهتار، نارٌ في عينيّ صبري جعلت عباس الأعور يوافق على زواجه من أخته كواكب . هذا الزواج أستغربه اللوطي مهنا يسر في البداية، لكن خبرته منحته المفتاح التالي: (بوسع اللوطي خداع نفسه واشتهاء امرأة ذات سمات خاصة) ..

(*)

عباس : ليس هو المسرود بالرذيلة،عباس هو السارد المطلق لمعظم حوادث الرواية فقد أختارته شبكات نظام الطاغية، وضمته مع شابين لتنفيذ آوامر،، الفصيل،، وهكذا صار ينفّذ الاغتيالات/ سرديات عنف الدولة (بيد ثابتة كأنها يد كوني).. فهو في تماه مع وساخة صباح كوني وشذوذه وجرائمه، كأن صباح كوني هو وحده من ابتكر صياغة سردية لسلوكيات عباس الأعور، لذا (لم يفارقه الشوق لرؤيته، بعد مرور سنوات لم يكن يتخلص من رغبته بالتباهي أمام رفيقه القديم في إثبات ذاته/33)

(*)

يقوم العطر الذي يستعمله عباس بتفعيل تداع ٍغريب يجعل عباسا أمام مرآة تكشف خواءه وعوزه لمهارات صباح كوني الإجرامية : (بعد عشرين عاماً مازال يؤذيه شوقه لكوني، وكان الأخير يستيقظ كقط ويتمطى في داخله متمهلاً وهو يرمقه بعينيه ../51)..عباس الأعور: مجرم بالسليقة، يكره كل شيء وما يراه جميلا، يقتحمه ليحدث  إنزياحا تخريبيا فيه أو تحطيمه،لا يكترث لسواه، هرب من بيتهم صغيرا ولم يحن إليه، فهو محض (قلب ميت، قلب أسود غاف في بحيرة دم قديمة /62) اكتسب اللقب من ديكه الأعور، ولكنه (كان يشعر بأنه أعور فعلا، وقد أغمض عيناً عن ماض ٍ مثقل بالجنون/13) وهو في السجن (عباس كآبة../36).. لكنه يرى نفسه هو التالي أما الأول فهو صباح كوني.

يبقى عباس مسكونا بروح المجرم القدوة صديقه صباح كوني، هنا فقط يتحوّل السارد إلى مسرود فيه (كان محتدّاً راغباً برؤية رفيقه، آذاه شعور بالشوق إلى كوني، كوني كالجن يحصل على المتع والأولاد دون تعب أعصاب. شعرَ بأنه لم يتعلم الكثير من صاحبه../20) وهو حتى عندما ينجز جريمته بمهارة.(كأنه أدّى عملا خيريا بتخليصه العجوز من تعاسته) لم يكن يشعر أنه تفوق على صباح كوني، كان يشعر: أن (كوني يقهقه في رأسه ساخراً، فاستشاط غضبا) وحين يعمل ضمن فصيل الاغتيال في زمن الطاغية، يتوارى حضور صباح كوني (..طيف صباح كوني بعيدا في أعماقه /24) وعباس يكابد من طيف صباح لا يستطيع الفكاك منه (لو أن طيف كوني غادره ولم يسمّم دمه، لو تركه شغفه بسلام../45)، وحتى حينما يعتدي على صديقه مهنا يسر ويشبعه ضربا مبرحا ، لحظتها يشعر ( سخر منهما كوني كثيراً../67)

(*)

ضمن الفصيل كان عباس يسرد عنف الدولة بتفوق ولا يهمه تصنيف التصفيات : أعداء/ متآمرون/ خونة / مشبوهون: المشترك هو قتلهم وكان عباس يفعل (ذلك بمهنية درّب على تلقي الطعنات القاتلة ودرأها../36) ولما يستل سكينته وهو يقفز في الهواء، وقد أدارها، بحركة خاطفة ثلاث مرات حول أصابعه، ولم يزل في الهواء، كان كوني الفتي يدفعه عاليا../97) وهو يلوذ بنتانات درابين الشيخ عمر في ما يشبه الغرفة يسكنها مهنّا، حتى لا يتصيده صكاكة سيد علي يشعر بأنه (كوني يحسده على جنته ويأخذ بالهياج داخله، يضحك ويهمس مسببا له الصداع، ولا شيء يسكن آلامه غير أنفاس الحشيشة../110)

(33)(45)/51 /52/53/67  . عباس يتماهى في بث سردية عنفه في ديكه ( لذا أعدّ عباس ديكه بطريقة قاسية، درّبه وشحذ منقاره وحرمه من معاشرة الدجاجات ../15)

(*)

اللبيدو السام : نقدم جرد إحصائي لشبكة الإنزياحات الجنسية :

*مهنا /112

*جو/ شمو/115

*أم عباس اشتهت صبري العياش /73

*زهرات الدوب/ 74

*مهنا يشتهى أن يمتلكه وهّاب / 75  يريده سردا جنسيا خاص به

* سراً مهنا يقمع سردا لوهاب مكي/ 77

*عباس يغارمن الفتى العسكري غلام كوني/19

*ستار ماما يشتهي أن يلوطه عباس

(*)

لا مسافة بين السجن والشارع، فالأشخاص أنفسهم بشذوذهم الجنسي ودمائيتهم وخناثتهم وخياناتهم يفعلون كل ذلك بهدوء الخبرة، فهم من المأبونين المأفونين سقطة وسفاحين قتلة أمهاتهم وأخوتهم منتهكي كل الحرمات، يضاجعون أمهاتهم وأخوتهم وأخواتهم : صنّاع السرود الملوثة المثلومة النتنة. وفي السجن أيضا هناك من يتعاملون بنفس الكياسة التي اعتادوها عندما كانوا أحراراً(هؤلاء يتصيدون الحلوين، يغرونهم بالمال والهدايا، دون أن يتخلوا عن خصالهم وطيبة قلوبهم، كانوا عشاقا مولهين لاشفاء لهم../42) الأشرار يتربصون بالحلوين الجدد يبيعونهم ويشترونهم بالخفاء وبتغافل من الشرطة، فالضريبة الكبرى في السجن هو اغتصاب النزيل الجديد. هذه الضريبة هي فقط الفارق الوحيد بين السجن وخارج السجن، وبغداد الدرابين هي بغداد عباس الأعور ومهنا يسر، فيها تختلط رائحة الحليب بالجريمة، صريحة، قاسية، (تخفي حياطينها أناساً يمقتون حياتهم، بويات البارات وعمال المطاعم والبنجرجية، وباعة الحلويات والبسطات، يتشاجرون لأتفه الأسباب../66) بيوت تعط منها أنسام عابقة (بالبهارات والثوم واللحم الرخيص المسلوق والبسطرمة المجففة ورائحة العرق القوية../105) بغي ذبّل الزمن مفاتنها، مثل غيرها تتحول قوادة، وتحسدها العاهرات:(فهي قوّادة وعين للشرطة ورجال الأمن..وهي التي تجهّز مطاعم وبارات شارع الوطني بالمخللات../73) البلاد سفينة جانحة في سراب العالم، خروجها من وحلها في فترة محددة :أكذوبة أمريكية، الشباب والفتيان يطوفون بأسلحتهم (بالشوارع على غير هدى، نالوا فرصة مجنونة لإثبات رجولتهم وهوياتهم ورغباتهم..بدأوا يتذوقون أموال الفدى التي تدفع لإطلاق سراح ثري أو طبيب أو تاجر تولوا خطفه أو ساعدوا على خطفه،أزدهرت تجارة الخطف، وأطلقوا لغرائزهم العنان/ 144)

(*)

في النسيج الروائي، يضفر السارد الحكايات التالي

*حكايات ينتج السجن

*حكاية الديك الهراتي الذي فقأ عين الجندي الأمريكي

* ماجرى للمترحم العراقي فاضل الناصر

*مثلية مهنّا يسر

*فشل علاقة وهاب وزنوبة

*عباس الأعور وصباح كوني

*سيد علي

*واثق كبسلة

* العقيد عبود زماطه

(*)

تبدأ الرواية بمنطقة الشيخ عمر وبها تنتهي ..وهكذا تنغلق دائرة السرد

*وحيد غانم/ الحلو الهارب إلى مصيره/ دار الجمل/ بغداد/ ط1/ 2016

عرض مقالات: